شهدت مصر على مدار تاريخها الطويل ظهور جماعات انخرطت فى ما بات يُعرف ب "العنف السياسي"، بدءاً من "جمعية الانتقام" التى برزت فى عام 1883 لمواجهة الاحتلال البريطاني، مروراً بمجموعات "الجوالة" التى شكلها الإخوان المسلمون فى عام 1933، وصولاً إلى جماعة "بلاك بلوك" التى ظهرت فى 2013 في شكل أقرب إلى البلطجة للخروج عن السلطة الشرعية المنتخبة. ويقول الكاتب عاصم الدسوقي فى دراسة عنوانها "العنف السياسي فى مصر"، إن البلاد شهدت فى مايو 1883 - أي بعد ثمانية أشهر من الاحتلال البريطاني - تشكيل "جمعية الانتقام" لمواجهة الاحتلال البريطاني، فأصدرت منشورات وأرسلت خطابات للمسؤولين تحذرهم من التعاون مع الاحتلال، وقتل بعض أعضائها عدداً من الجنود البريطانيين، قبل أن يكتشف أمرهم في الشهر التالي، إذ قدموا للمحاكمة في قضية قيدت بعنوان "المؤامرة الوطنية المصرية". ويستعرض الدسوقي - وهو مؤرخ بارز مختص فى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي المعاصر - أبرز محطات العنف السياسي فى مواجهة الاحتلال الأجنبي للبلاد، والصراع بين القوى السياسية في النصف الأول من القرن الماضي، وعودته فى الآونة الأخيرة بسبب قيام كل طرف بإضفاء المشروعية على سلوكه السياسي. وأضاف أن العنف السياسي الذى تشهده مصر حالياً تمارسه "مجموعات تدافع عن الثورة التى لم تتحقق أهدافها وترفع شعار: الثورة مستمرة، وأخرى تدافع عن السلطة التى اعتلت الحكم باسم الثورة وترفع شعار: حماية الشرعية". وفى 25 يناير الماضي، الموافق للذكرى السنوية الثانية لاندلاع الثورة، شهدت شوارع وميادين مصرية ظهور أعضاء جماعة "بلاك بلوك"، التى تبدي معارضة شديدة لجماعة الإخوان التى ينتمي إليها الرئيس الحالي محمد مرسي. تصفية حسابات شهد عقد الثلاثينات تأسيس فرق ارتدى أعضاؤها قمصاناً مميزة، وتأثروا بالزعيم الألماني أدولف هتلر، وكان مهمتها فض اجتماعات الخصوم. لكن العنف السياسي الذى يستهدف فى ظاهره أجانب يمثلون الاحتلال، ربما يكون نوعا من تصفية الحسابات بين الخصوم السياسيين. وفى هذا الصدد يقول الكاتب إن دستور عام 1923 لم ينص على حق العمال فى تكوين النقابات، وكان الأغنياء يتحصنون فى جمعيات لحماية مصالحهم مثل "النقابة الزراعية المصرية العامة" و"اتحاد الصناعات" و"الغرفة التجارية". وأضاف أنه فى هذا المناخ ظهرت قوى جديدة تعتنق مبادئ سياسية مغايرة للمبادئ السائدة، كونت ميليشيات من الشباب للدفاع عن مبادئها فاصطنعت "القوة الحاكمة" بدورها مجموعة لمواجهة خصومها بالأسلوب نفسه. ويستشهد على ذلك بمجموعة "اليد السوداء" التى اغتالت فى عام 1924 السير ليىستاك، حاكم عام السودان، بالإضافة إلى آمر الجيش المصري، وسجلت بعض المصادر أن هذه المجموعة "تم احتضانها بمعرفة نشأت باشا، رئيس الديوان الملكي الذى حرضهم على الاغتيال لإحراج سعد زغلول (أول رئيس حكومة تشكلت بناء على الدستور)، الذى كان يصارع الملك فؤاد بشأن الحقوق الدستورية ونجحت العملية" فى إجبار زغلول على الاستقالة. ويسجل الدسوقي أن عقد الثلاثينات شهد تأسيس فرق ارتدى أعضاؤها قمصانا مميزة، فقد شكل أحمد حسين جمعية "مصر الفتاة" عام 1933، وفى العام التالي ارتدى أنصاره القمصان الخضر، وكان متأثرا بالزعيم الألماني أدولف هتلر، حيث نراه يؤلف كتابا بعنوان: إيماني، على شاكلة كتاب هتلر (كفاحي) وصك شعار: مصر فوق الجميع، مثل شعار هتلر: ألمانيا فوق الجميع. وأضاف أن مهمة أصحاب القمصان الخضر كانت فض اجتماعات القوى الأخرى. مجموعات الإخوان تتكون جماعات العنف السياسي من طلبة وعمال وعاطلين "بلطجية"، وظلت تختفي وتظهر إلى أن عادت مع ثورة يناير 2011. ويقول الكاتب إن حسن البنا - الذى أسس عام 1928 جماعة الإخوان المسلمين فى مدينة الإسماعيلية، ثم انتقل بها إلى القاهرة نهاية 1932- أسس فى بدايات عام 1933 "فريق الجوالة"، واختار لهم قمصانا ذات لون "كاكي"، وتم تدريبهم على استخدام السلاح وفض الاجتماعات المعادية. وبعد المرسوم الملكي عام 1938 الذي حظر الجمعيات التى لها تشكيلات عسكرية، سارع البنا إلى ضم الجوالة إلى "جمعية الكشافة الأهلية" فلم يطبق عليها مرسوم الحظر. وأضاف أنه من هذه الجمعية تشكل عام 1942 "النظام الخاص" الذى تولى محاربة "المنكر" وتصفية المناوئين لأفكار الجماعة، ومن أبرز عملياته "اغتيال القاضي أحمد الخازندار فى 22 مارس 1948، لأنه أصدر حكما بالسجن على الإخوان الذين هاجموا الجنود الإنجليز فى ملاهي الإسكندرية، واغتيال محمود فهمي النقراشي رئيس الحكومة فى 28 ديسمبر 1948" بعد 20 يوماً من قراره إغلاق المقر العام للجماعة فى القاهرة. وفى مواجهة نشاط جوالة الإخوان وقمصان مصر الفتاة الخضر، شكل حزب الوفد فرقة من الشباب يرتدون القمصان الزرق عام 1934، وتولى هؤلاء فض اجتماعات خصوم الوفد، وحماية اجتماعات الوفد من أى اعتداءات، بنفس الوسائل التي كان أصحاب القمصان الأخرى يستخدمونها. ويقول الكاتب إنه فى ظل تشكيلات مجموعات "العنف السياسي" تأسس الحرس الحديدي بهدف حماية الملك فاروق وتصفية أعدائه. والحرس الذى لم يكن له زي مميز، ضم عسكريين ومدنيين منهم حسن التهامي، وأنور السادات الذي صار رئيسا للبلاد عام 1970. وأضاف أن الحرس الحديدي الذى اغتال عددا من الشخصيات حاول اغتيال زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس "أكثر من مرة. ومن عمليات هذا الحرس الأخيرة التفكير فى اغتيال اللواء محمد نجيب بعد فوزه برئاسة نادي الضباط ضد مرشح القصر حسين سري عامر"، لولا نصيحة أحد ضباط الحرس لنجيب أن يذهب لتجديد الولاء للملك. ويقول الدسوقي :"إن الميليشيات - باستثناء الحرس الحديدي - تكونت من طلبة وعمال حرفيين وعاطلين "بلطجية"، وظلت تختفي ثم تظهر إلى أن عادت "مع ثورة يناير 2011 لتصطدم مع كافة القوى الاجتماعية تحت راية الشرع والشريعة والشرعية".