المؤسسة العسكرية مؤسسة وطنية، ولأنها (مؤسسة) فلابد أن تخضع للسلطة المدنية المنتخبة، ولأنها (وطنية) لابد أن تلتزم بالسياق الديمقراطي والدستوري ومصالح الوطن العليا كما يحددها الشعب. ومشكلتنا مع المجلس العسكري منذ 12 فبراير 2011 كان جوهرها على أمرين: الأول: هو تسليم السلطة المدنية كاملة (بأن تخضع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية المنتخبة التنفيذية والتشريعية)، والثاني: مشكلة الانتهاكات الحقوقية في محطات عديدة والتي كان لابد أن تخضع لما عرفته تجارب دول عديدة بما يسمى (العدالة الانتقالية) والذي لابد أن يكون مبدؤه محاكمات عادلة وتقصي حقائق ثم برامج مصالحة أو عقاب متوازن على حسب مايقرره السياق المجتمعي ويرتاح إليه. وكان من الممكن المسامحة في المخالفات المالية والإدارية التي حدثت أيام المخلوع.. أما الدماء العزيزة والمسئولية السياسية فلابد أن تخضع لحساب.وموقف الثورة في هذين النقطتين كان معيار إنجازه هو: دستور ليس تحت حكم العسكر وليس به وصاية (كان الشكل المطروح مبكرا لها: مجلس دفاع وطني به تواجد عسكري ،كثيف ويكون وصيا على التوجهات الاستراتيجية المصرية، واستقلال بالميزانية دون رقابة، وحصانة من أي مسءلة أو عقاب) ، والثاني - البدء بالفعل في مشروع للعدالة الانتقالية. وقام الرئيس المنتخب بإلغاء الإعلان الدستوري المكمّل كما نعلم، وتم تتويج هذا في الفضاء السياسي إنجازا سياسيا بإسقاط حكم العسكر يجب كل تقصير ويدحض كل تساؤل عن بقية إنجازات الرئيس وتعهداته، لكن المشكلة أن سيادة الرئيس حين ألغى الإعلان الدستوري المكمّل.. لم يلغ قرار المشير بتشكيل مجلس دفاع وطني يغلب عليه العسكريون؛ بل تم رفع هذا القانون - مع تعديل بسيط - لمسودة الدستور بغية تحصينه !! .. وبصيغة أسوأ من كل مشاريع ودساتير 54 و56 و71 مجتمعة مع أنها كانت تحت حكم عسكري مباشر. كذلك تم إلغاء الرقابة على الميزانية، بأن جعلت رقما واحدا أمام البرلمان، واستبدلت بمناقشة (الموازنة وليس الميزانية) في مجلس الدفاع الوطني ذي الغالبية العسكرية. ثم تم تكريم القيادات العسكرية، والإبقاء على مواد القضاء العسكري التي تجعل محاكمتهم أمام القضاء العسكري فقط. لانحتاج تفصيلا في كل ماسبق وقد فصلنا فيه من قبل (انظر المقالات بالأسفل المهم - أننا فوجئنا أمس بظهور قرارين لرئيس الجمهورية: أحدهما قرار بناء على قانون التعبئة العامة، والآخر بناء على قانون القضاء العسكري. وهناك ملاحظة مبدئية: أننا سمعنا عن هذين القرارين بشكل (مسرسب) وتحصلنا عليهما بعد بحث على المنتديات والجرائد.. صحيح أنهما أصدرا في (الوقائع المصرية) ولكن هذه الجريدة الرسمية قل من يتابعها بالفعل، وكان عادة النظام السابق التحجج بإصدارات مستترة لقوانين يتم مفاجأة الشعب بها بعد ذلك. والرئيس والحمد لله عنده متحدث رسمي وله طبقة واسعة من المستشارين والمساعدين، ودائما تُتحف آذاننا بأخبار سيادته التفصيلية والدقيقة من اتصالات وصلوات ولقاءات مع وزير أو مسئول أو رجل أعمال حتى.. فكان الواجب أن يتولى أحد مجموعة الرئيس الإعلان بوضوح عن هذه القرارات التي تحكم وظائف الدولة الأساسية وتؤثر على كل قطاعات مواطنيها. القرار الأول - قرار بناء على القانون 87 لسنة 60، وهو مختص بالتعبئة العامة.. http://www.facebook.com/photo.php?fbid=10151182331745073&set=a.113538275... هذا نص القانون الأصلي http://right2know.afteegypt.org/index.php?newsid=37 وفيه يفوّض الرئيس لوزير دفاعه (وهو القائد العام للقوات المسلحة في ذات الوقت) بعض اختصاصاته وهي الواردة في هذه المواد: المادة 9 : لرئيس الجمهورية أو من يفوضه أن يصدر أمراً بتكليف من تدعو الضرورة إلى تكليفه، من غير الطوائف التي يعينها مجلس الدفاع الوطني وفقاً للمادة السابقة، وذلك للقياما بعمل من أعمال المجهود الحربي أو لمواجهة الكوارث أو الأزمات، ويصدر وزير الدفاع قراراً بتحديد الجهات التي يمكن تكليفه للعمل بها. المادة «12»:لكل من صدر أمر بتكليفه بأي عمل أن يعارض في هذا الأمر خلال سبعة أيام من تاريخ إعلانه به، وذلك بطلب يقدم إلى الجهة الإدارية المكلف بالعمل بها، ويكون الفصل في المعارضة طبقا للقواعد التي يصدر بها قرار من رئيس الجمهورية، ولا يترتب على المعارضة في أمر التكليف وقف تنفيذه. المادة «24»:لرئيس الجمهورية أو من يفوضه أن يقرر إجراء تجارب على التعبئة، وفى هذه الحالة يعاقب من يخالف أحكام هذا القانون خلال والحقيقة أن هذه المواد لايمكن فهم معناها القانوني إلا بالنظر للمواد الواردة بالقانون كلها، ولايمكن فهم دلالتها السياسية إلا بالنظر إلى السياق العام وقواعد العلاقات المدنية العسكرية. قانونيا هناك ثلاث أحوال يتحدث عنها القانون في مادته الأولى إجمالا (التعبئة العامة، والمجهود الحربي، والكوارث والأزمات) وفي كل هذه الأحوال يكون هناك للسلطة المنوط بها تنفيذ القانون استكمال البنية التعبوية للدولة (المادية والبشرية والمؤسسية وخطوط الانتقال والاتصال...) ، والتحكم في سيرها الوظيفي ومنشآتها، وقطاعاتها المدنية بحسب الحاجة. وحتى في غير حالة التعبئة العامة أو الكوارث فإن المادة الأولى تنص على ويجوز في غير هذه الأحوال اتخاذ بعض التدابير اللازمة للمجهود الحربي المبينة في هذا القانون. وللرئيس إطلاق التعبئة العامة، ولكن خطط التعبئة العامة أو تلك المتعلقة بالمجهود الحربي وتلك المتعلقة بمواجهة الأزمات والكوارث تكون من اختصاص مجلس الدفاع الوطني (هو غالبيته عسكرية سواء بالقانون الحالي، وسيتم تحصينها بمسودة الدستور) والحقيقة أن مجلس الدفاع الوطني في نظام مبارك والسادات وناصر كان مجلس من مسئولي الدولة المدنيين (الوزراء) مع مستشار عسكري وآخر مخابراتي.. لأنهم الأقدر على توفية اعتبارات هذه التعبئة بحكم وظائفهم.. ولكن مجلس الدفاع الوطني بالتشكيل الحالي أو كما في المسودة هو أعجز يقينا عن القيام بمهام التعبئة العامة أو مواجهة الكوارث والأزمات. حكذلك فمادة 9 ( بالقرار الحالي) - وما تشير له من المادة 8 - تعطي لوزير الدفاع حق تجاوز مجلس الدفاع الوطني في اتخاذ خطوات أخرى (استدعاء احتياط أو تكليف مدنيين، أو حتى احتكار أراض ومؤسسات) لغرض المجهود الحربي أومواجهة الكوارث وليس فقط في حال التعبئة العامة. كما تعطي له الحق في اتخاذ قرارات (منفردة) بتجربة التعبئة، كما أنه لو تضرر أحد المواطنين من أي من هذه الإجراءات فإنه الجهة التي تفصل في الأمر. ومن المعلوم أن التفويض الذي تحدث عنه القانون الناصري ليس ملزما للرئيس؛ بل إن القانون ذاته يمكن للرئيس تعديله بمايملكه من سلطة تشريعية. وهذا ينطبق كذلك على قانون القضاء العسكري مامشكلة هذا الأمر سياسيا؟ الحقيقة أن هذا الوضع يعبر تجاوزا فجا لمباديء الديمقراطية والحكم المدني. التعبئة وخططها لابد أن تكون في يد السلطة المنتخبة التنفيذية (تمارسها بشكل كامل) دون تفويض للمؤسسة العسكرية لأن في ذلك خطورة كبيرة على عملية الديمقراطية ذاتها، كذلك مسائل المجهود الحربي في السلم أو الحرب، ومواجهة الأزمات. بل لابد من موافقة البرلمان ذاته على هذه الإجراءات مع اعتبار أنها أحيانا تأتي بشكل طاريء ولذلك فقانون الخدمة الدفاعية الإسرائيلي مثلا يعطي للبرلمان حق إلغاء التعبئة العامة للكنيست في خلال 14 يوما، كما تُعطى البرلمانات في كل النظم الديمقراطي أحقية التصديق على أي استقطاع أراض أو مؤسسات لصالح المجهود الحربي، أو استدعاء القوات المسلحة لمواجهة الكوارث. مايريد أن يضبطه النظام الديمقراطي ألا تتحرك المؤسسة العسكرية (وهي تحتكر السلاح بالدولة) بشكل ذاتي في المحيط المدني، وحتى في ملفات إدارة الدفاع.. وإن كانت الثانية تعطى لها فيها درجة من إعمال التخصص والخبرة الفنية ولكن تحت السيطرة السياسية كذلك وهي من تضع حدود هذا الإعمال. وكل هذه المخاوف والاعتبارات تزداد إلحاحا في حالة تحول ديمقراطي بلاشك كان الحكم العسكري هو القائم بها. ربما كان يقبل الأمر لو كان عندنا وزير دفاع سياسي مدني إذن لكان التفويض جائزا بين أقطاب السلطة التنفيذية، ولكن المشكلة الحالية هي من ضمن مظاهر اقتران التكييفين في حق وزير الدفاع - كونه قائد عام كذلك. في إسرائيل مثلا - من حق وزير الدفاع وليس رئيس الوزراء إصدار قرار التعبئة العامة الطارئة، مع تحفظ البرلمان كما أسلفنا، ولكن وزير الدفاع هو وزير سياسي (ممثل لمجلس الوزراء أمام الجيش) وليس قائدا للجيش. وربما الأمر ليكون مفهوما في وضع مبارك -وقد فعله من قبل، وفيه كانت هناك درجة مسموح بها للوصاية العسكرية على بعض مرافق الدولة وأوجه أنشطتها، مادامت وضعية المؤسسة )العسكرية كانت تحت السيطرة الكاملة ولم يكن مبارك (كوريث لدولة العسكر) مهتما بوضع علاقات مدنية عسكرية ديمقراطية، ولكنه غير مقبول الآن في مرحلة تحول (ديمقراطي) وفي ظل عدم اكتمال الهيمنة المدنية على المؤسسة العسكرية. كنا نعترض على المادة الذي ذكرها منسق لجنة الأمن القومي عن استفراد الرئيس باستدعاء الجيش لحفظ الأمن الداخلي، وقلنا أن وجودها خطر، وإلغاءها - كما حدث خطر - لأنه يترك الأمر للتشهي القانوني مع أهمية الموضوع على مستقبل التحول الديمقراطي.. الآن - ليس فقط استفرادا بالاستدعاء، ولكن تفويضا (منه فيه) القرار الثاني: بناء على قانون رقم 25 لسنة 66 الخاص بالقضاء العسكري https://fbcdn-sphotos-h-a.akamaihd.net/hphotos-ak-ash4/306064_4171834216... وفيه يفوّض وزير الدفاع (القائد العام كذلك) بماتنص عليه المادة 43، ونصها: كما تختص هذه المحكمة (أي: العليا للطعون العسكرية) دون غيرها بنظر طلبات إعادة النظر التى تقدم في أحكام المحاكم العسكرية الصادرة في جرائم القانون العام وذلك طبقا للقواعد والإجراءات الخاصة بطلب إعادة النظر المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية .ومتى صار الحكم بالإعدام باتا وجب رفع أوراق الدعوى فورا إلى رئيس الجمهورية ، وينفذ لحكم إذا لم يصدر الأمر بالعفو أو بإبدال العقوبة .ولرئيس الجمهورية أو من يفوضه تخفيف الأحكام الباتة بعقوبة مقيدة للحرية أو وقف تنفيذها نهائيا أو لفترة محدودة وهذا نص القانون كاملا: http://www.scribd.com/doc/56670786/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7... .. والحقيقة أن هذا التفويض له دلالة موجعة ونحن في الذكرى الأولى لأحداث محمد محمود!وبالطبع - فنحن عندنا إشكالات جوهرية مع قانون القضاء العسكري فيما يتعلق باقترابه وابتعادة مع النسق الديمقراطي المستقر بالنظم الديمقراطية (بما فيها تلك التي في حالة حربوشبه متصلة كإسرائيل).. وهذا النسق يقوم على ركائز منها: الفصل بين جهات الادعاء والتحقيق والقضاء وبين القيادة العسكرية، حق النقض أمام محكمة عليا للدولة (وحدة النظام القضائي)، الخلفية القانونية لأعضاء القضاء العسكري، ثم تحريم المحاكمات العسكرية للمدنيين بكل الصور. حتى أكون منصفا.. فنحن لاننتظر ولانتوقع تغيير منظومة القضاء العسكري بشكل مفاجيء، ولكن هناك أمران لابد من إنجازهما في مرحلة (الانتقال الديمقراطي) التي تستقر فيها التشريعات المؤسسة كالدستور ويُمنع تدخل المؤسسة العسكرية في الحالة السياسية في مقال (التثبيت الديمقراطي) التي تتغير فيها الهياكل والنظم والمناخات لتحقق الهيمنة المدنية الكاملة.. وهما: تحريم المحاكمات العسكرية للمدنية بأي صورة، ومنع الحصانة بشكل مباشر (أو غير مباشر) للعسكريين عما ارتكبوه من انتهاكات حقوقية. بالنسبة للأولى - فالمحاكمات العسكرية للمدنيين لاتزال متاحة ضمن القانون الحالي واختصاص المحكمة العسكرية بتحديد اختصاصها (المادة 48)!، ثم هي متاحة كذلك تحت أحد النصين (المعروضين أمام التصويت) في مسودة الدستور المنشورة في مادة 199: ويجوز استثناء محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى فى الحالات التى يحددها القانون أما بالنسبة للانتهاكات.. فقانون القضاء العسكري الذي وافق عليه البرلمان يحتم محاكمة العسكريين أمام المحاكم العسكرية فقط حتى على جرائم الكسب غير المشروع (مادة 8 أ مكرر التي أصدرها العسكري في مايو 2011، ثم أقرها البرلمان قبل حله).. ثم يأتي قرار الرئيس الجمهورية الحالي ليعطي القائد العام ووزير الدفاع حق الإعفاء النهائي عن أي عقوبات تقرها المحكمة العسكرية العليا. خلص الكلام، والله المستعان فقط نداء لمسئولينا: قليل من الصدق والشفافية والوضوح منج لنا جميعا في الدنيا والآخرة. والسعيد من اتعظ بغيره.