تستعد الفتاة منذ طفولتها للحظة الزواج، ترسمها في خيالها بأدق التفاصيل ... فارس الأحلام ... شكل البيت ... عدد الغرف ... مكان التلفزيون ... ابتسامة الصباح ... الوداع على الباب ... كلمات الحب ... لحظات العتاب ... شكل غرفة الأولاد ... عددهم ... مدارسهم. كل يوم، منذ أن كانت طفلة تداعب عروستها الصغيرة وحتى ليلة العرس، وهي تتخيل كل هذا ... تضع تفصيلة جديدة ... تعدل أخرى ... وتتنهد ... وتعلق عينيها بالسماء ... وتتمتم بدعاء الخير ... وتنتظر القدر. حتى يأتي أحدهم، ويدق الباب، ويكمل التفصيلة الواحدة الناقصة في خيالها ... صورة الفارس ... ويبدأ حلم عمرها في التحقق. لكن من هؤلاء من يأتي باستهتار ليعبث بهذا الحلم ... يتزوج ... ثم يدمر حياة زوجته ... ينسف هذا الحلم الكبير الذي ظلت لسنوات طويلة ترتبه ... يدمر كل شيء بعبثية حقيقية ... لا يهتم للتفاصيل التي تتهاوى هنا وهناك ... لا يهتم على الإطلاق. وتبقى الفتاة حتى اللحظة الأخيرة تدافع عن الحلم ... تعتقد أنه يمكن إصلاح ما تكسر وإعادة ترتيبه من جديد ... لكنه يأتي بابتسامته العابثة ويستغل دفاعها عن حلمها ويستغل حال محاكم الأسرة البالي في بلادنا ويبدأ في التفاوض ... بين أن يذرها كالمعلقة تلهث في المحاكم البطيئة، وبين أن تتنازل عن حقوقها إن طلقها ... لا تنظر الفتاة وقتها لحقوقها بقدر ما تنظر إليه وهو ينسف آخر ما تبقى من الحلم: صورة الفارس. الفارس الذي يقايض الحرية بالمال كأخبث مرتش عرفته البشرية. لقد تخيلت يوماً فارساً عربياً من زمن قديم، يسمعه وهو يتفاوض مع زوجته على حريتها فيستفزه الحوار حتى يخرج سيفه ويضرب عنقه منتصراً لرجولة ولد آدم أجمعين. عرفت قصصاً وقابلت بعضاً من هؤلاء البشر، لم أحترم أحد منهم يوماً، ولم استطع ... ومهما ساق لي من أعذار لم أقدر على اعتباره رجلاً ... كيف يقهر الرجل امرأة؟! ... كيف يقايض حريتها بالمال؟! ... كيف ضاع صوت النبي في آخر خطبة له، وهو يقول " استوصوا بالنساء خيراً". ثم تكتشف الفتاة أن أنصاف الرجال ليسوا قلة أوقعها قدرها في أحدهم، بل هم كثير، كثير يأتونها لينصحونها أن تتحمل لأن المجتمع ينظر للمطلقة نظرة مختلفة ... كثير ينصحونها أن تُذل وتُهان حتى لا تدمر حياتها بيديها ... من سيتزوجها فيما بعد؟! ... ستضطري يا عزيزتي أن تقبلي بأي شخص يدق الباب ... هذا إن دق. هكذا، تجد الفتاة أنها استبدلت حلمها الكبير بواقعين مريرين عليها أن تختار بين أحدهما: إما أن تُهان في بيت "ذكر" خبيث، وإما أن تُهان في مجتمع مريض. عرفت قصصاً عمن قبلت أن تصبر في بيت الزوج هرباً من نظرات المجتمع، وعرفت قصصاً عمن اختارت مواجهة المجتمع هرباً من جحيم البيت ... عرفت من نجحت هنا ومن نجحت هنا ... وعرفت من عانت هنا ومن عانت هنا ... عرفت من كانت تعول أطفالا ومن لا تعول. ويكمن الحل كله في فكرة واحدة ... الإيمان بالرزق. الإيمان بأن الله هو من يرزق، وأن الرزق في السماء لا في يد أحد من البشر، وأن نصف حياة هي كالموت نفسه، وأن الله قد حرم على عباده العبودية لغيره. إن الإيمان بأن الله يرزق هو وحده الذي سيجعل الفتاة تختار حريتها مهما كان المقابل، حتى لو فاوضها على كل ما تملك. الإيمان بأن الله يغني من فضله. الإيمان بأن الأحلام رزق ... وأن حلمها القديم وإن تهدم، فإن الله قادر على أن يرزقها غيره. يرزقها فارسا بحق. ويرزقها حلم أجمل. الوقوف في وجه المجتمع المريض لا يأتي إلا إن آمنت الفتاة بأن الرزق بيد الله لا بأيديهم ... وأنهم لو اجتمعوا على أن يضروها بشيء لم يضروها إلا بشيء قد كتبه الله لها ... إن البقاء أسيرة في سجن هرباً من نظرات المجتمع أو اعتقاداً بأنه لمصلحة الأولاد هو ضعف إيمان بأن الرزق بيد الله ... وإن كان سيحسب لها كأسمى تضحية من أجلهم، وقد تنال أطناناً من الحسنات على صبرها. الله خلق الحرية، وفطر الناس على حبها والسعي لها، وفطر الناس على كره العبودية والفرار منها، فإنك بسعيك نحو الحرية، تسعين نحو ما يحبه الله. ومن تقرب لله ذراعاً تقرب الله له باعاً وجزاه خيراً مما يحتسب. حطموا تقاليد المجتمع التي تأسرنا ... حطموها لنحيا!