منذ ظهور المسودة الأولى للدستور، والجدل يحتدم ليس بشأن المسودة، بل بشأن اللجنة التأسيسية، فأغلب المهاجمين لا يريدون مناقشة مضمون المسودة، والذي يبدو أنه بالفعل جيد ويعبر عن المجتمع، وعن توافق مجتمعي. فمن جانب قيادات حزب الحرية والعدالة، نجد أنهم بحثوا عن التوافق، وقبلوا بتصورات كثيرة، لم تكن هي تصوراتهم قبل بداية عمل اللجنة، فالمسودة الأولى تختلف مع الكثير من الآراء التي كانت قيادات الحزب تفضلها، قبل بداية عمل اللجنة. وبالنسبة للمحكمة الدستورية العليا، فهي غارقة في خصومات مع الهيئات القضائية الأخرى، ويبدو أن خلافات الهيئات القضائية التاريخية، تصفى الآن، وتعتبر اللجنة التأسيسية كبش فداء لتصفية تلك الخلافات. كما من الواضح أن المحكمة الدستورية تريد الحفاظ على تركيبتها الحالية مستقبلا، فلا يدخل المحكمة إلا من يتوافق مع توجهات ومواقف المحكمة الحالية، حتى تبقى عضوية المحكمة محصورة في اتجاه بعينه، شكل في عهد النظام السابق، مما يتيح للمحكمة السيطرة على تفسير الدستور، لصالح وجهة نظر قانونية تنتمي لمرحلة النظام السابق، وهو ما يمنع حدوث أي تغيير، رغم التحول الديمقراطي الحادث. والقلق من المحكمة الدستورية، هو السبب وراء مخاوف التيار السلفي، لأنه يرى أن المحكمة يمكن بتفسيراتها أن تحل محل المرجعية الإسلامية، وتصبح هي مرجعية الدستور، بسبب تفسيرات خاصة بها، صدرت في ظل هيمنة النظام السابق. أما القوى العلمانية التي تثير الصخب دائما، فهي ترفض أساسا أن يكتب الدستور أحد غيرها، كما أنها ترفض أن يحظى دستور بالموافقة الشعبية، وقد شاركت فيه القوى الإسلامية، بما يعني نجاحا لهذه القوى. كما ترفض أن يخرج الدستور، دون أن تضع فيه ثغرة تسمح بتقييد أو تفريغ المرجعية الإسلامية من مضمونها، من خلال المحكمة الدستورية. كما ترفض أساسا أن يستقر النظام السياسي، ومازالت القوى الإسلامية تبدو أكثر حضورا منها. لذا فالقوى العلمانية أو أغلبها ترفض أي شيء، لأنها تريد أن تكون صاحبة الحق في وضع الدستور، لتؤسس لشرعية غير انتخابية للنخب العلمانية، مما يجعلها وصية على النظام السياسي الجديد. أما مسودة الدستور نفسها، فهي تعبر عن واقع المجتمع، بأكثر من تعبيرها عن أي قوى سياسية بعينها، وأي تيار سياسي بعينه. فهي كاشفة عن الواقع، وتشمل نصا، بعد مراجعات محدودة، سيصبح نصا معبرا عن واقع سياسي واجتماعي قائم. وبهذا فاللجنة عملت على تحقيق المطلب الأهم لأي ثورة شعبية، وهي أن يمنح الشعب لنفسه الدستور الذي يريده. والمدقق في نصوص المسودة، يجد أنها أدركت كل مكونات المجتمع، وكل الأفكار التي تشغله، وكل التوجهات الشائعة فيه. فأصبح النص لا يعبر عن توافق بين قوى سياسية، بقدر ما يعبر عن التوافق المجتمعي. ورغم الكيد السياسي، فإن هذا النص أصبح أساس الدستور الذي سيصدر، ولن تستطيع أي لجنة أخرى تجاهله، أو الخروج عليه.