كتب العقاد في ختام "عبقرية المسيح فقال: في إحدى روايات الكاتب الروسي العظيم – دستيفسكي – بطل من أبطال الرواية يتخيل أن السيد المسيح عاد إلى الأرض في طوفة عابرة ونزل بأشبيلية في إبان سطوة محاكم التفتيش فوعظ الناس وصنع المعجزات وأقبل عليه الضعاف والمرضى والمحزونون يلثمون قدميه ويسألونه العون والرحمة.. وأنه ليمضي بين الشعب يضفي عليهم حبه وحنانه ويبسطون له شكاياتهم ومخاوفهم إذا برئيس ديوان التفتيش – المفتش الأعظم – يعبر بالمكان ويتأمل السيد والشعب من حوله هنيهة ثم يشير إلى الحراس ويأمرهم أن يعتقلوه ويودعوه حجرة السجناء في انتظار التحقيق.. ويأتي المساء فيذهب المفتش الأعظم إلى الحجرة ويقول للرسول الكريم: إنني أعرفك ولا أجهلك، ولهذا حبستك، لماذا جئت إلى هنا؟ لماذا تعوقنا وتلقي العثرات والعقبات في سبيلنا؟ ثم يقول له فيما يقول: إنك كلفت الناس ما ليست لهم به طاقة.. كلفتهم حرية الضمير، كلفتهم مؤنة التمييز، كلفتهم أن يعرفوا الخير والشر بأنفسهم، كلفتهم أوعر المسالك فلم يطيقوا ما كلفتهم.. وشقيت مساعيهم بما طلبت منهم.. والآن وقد عرفنا نحن داءهم وأعفيناهم من ذلك التكليف، وأعدناهم إلى المراسم والشعائر، تعود إلينا لتأخذ علينا سبيلنا وتحدثهم من جديد بحديث الاختيار وحرية الضمير؟ ليس أثقل على الإنسان من حمل الحرية، وليس أسعد منه حين يخف عنه محملها وينقاد طائعا لمن يسلبه الحرية ويوهمه في الوقت نفسه أنه قد أطلقها له وفوض إليه الأمر في اعتقاده وعمله، فلماذا تسوم الإنسان من جديد أن يفتح عينيه وأن يتطلع إلى المعرفة وأن يختار لنفسه ما شاء، وهو لا يعلم ما يشاء؟ إنك منحتنا السلطان قديما وليس لك أن تسترده، وليس في عزمنا أن ننزل عنه، فدع هذا الإنسان لنا وارجع من حيث أتيت، وإلا أسلمناك لهذا الإنسان غدا وسلطناه عليك وحاسبناك بآياتك وأخذناك بمعجزاتك، ولترين غدا هذا الشعب الذي لثم قدميك اليوم مقبلا علينا مبتهلا لنا أن نخلصه منك وأن ندينك كما ندين الضحايا من المعذبين والمحرقين.. قال إيفان كرامازوف بطل الرواية التي تتخيل هذا الملتقى وهذا الحوار: أن السيد المسيح لم ينبس بكلمة ولم يقابل هذا الوعيد وهذا العداء بعبوس أو ازورار، وتقدم إلى المفتش الأعظم – وهو شيخ فان في التسعين – فلثم شفتيه وخرج إلى ظلام المدينة وغاب عن الأنظار يقول العقاد: ولا نحسب أن الخيال في هذا الخطاب العجيب بعيد عن الحقيقة ولا نستبعد ما قاله المفتش الأعظم حين أنذر الرسول الكريم أن يسلمه لمن يثور عليه ويصب عليه الويل والغضب، بعد أن أحاط به ولثم قدميه وتوسل إليه.. كلا.. إن الخيال في هذا الخطاب العجيب غير بعيد من الحقيقة وأقرب شيء إلى طبائع الناس أن يصنعوا ذلك الصنيع وأن يتبعوا المفتش الأعظم في نقمته على الرسول الكريم..