«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبقرية المسيح وشريعة الحب
نشر في أخبار الأدب يوم 05 - 01 - 2013


عباس محمود العقاد
عندما يصدر الرأي من ذوي الاختصاص فإنه يستدعي وقفة تأمل وانصات وتعمق.. فأهل الذكر في كل اختصاص هم أولي بنا منا..
وعندما يكون المتحدث عملاق الفكر «عباس محمود العقاد» فإن أطروحاته تكون الأعمق بصيرة والأغزر فكراً..
وعندما يكون الحديث عن »عبقرية« الشخصية كمفتاح جوهري لها.. فإن اسم العقاد يتألق في صدارة »العبقريات«.
وعبقريات العقاد.. كثيرة ومثيرة ابتداء من »عبقرية محمد« ثم متولياتها »عبقرية الصديق« و»عبقرية عمر« و»عبقرية الإمام علي« و»عبقرية خالد« ثم »عبقرية المسيح« والأخيرة هي محور هذا الملف الذي يستلهم مادته من ذكري ميلاد السيد المسيح الذي يشكل علاقة فارقة في تاريخ العالم.
تتجلي رؤية العقاد لعبقرية المسيح في شرائح من مسيرته وصيرورته، وقد تصدي لأمور شائكة فخاض فيها وخاضها بعقليته التحليلية الجبارة منها مثلا قضية الشك في وجود السيد المسيح، ثم ظاهرة النبوة التي قادته المقارنة الطويلة بين الديانات الي التأكيد بأن منشأها هو مدن القوافل مثل: أور، بعلبك، بيت المقدس، مكة، يثرب، مدين، جنوب فلسطين وشمال الحجاز.
تتشكل أطروحة العقاد في ستة أبواب مسبوقة بمقدمة ومشفوعة بخاتمة: الشجرة المباركة، كشوف وادي القمران، المسيح في التاريخ، تاريخ الميلاد، الدعوة، أدوات الدعوة، الأناجيل.
واليكم النصوص الكاملة.. صورة وصفية الدعوة شريعة الحب، ثم السؤال الختامي: لو عاد المسيح.
صورة وصفية
من أقدم الصور الوصفية التي حفظت للسيد المسيح صورة تداولها المسيحيون في القرن الرابع وزعم رواتها أنها كتبت بقلم ببليوس لنتيولس صديق بيلاطس حاكم الجليل من قبل الدولة الرومانية، رفعها إلي مجلس الشيوخ الروماني في عصر الميلاد، وجاء فيها: »أنه في هذا الزمن ظهر رجل له قوي خارقة يسمي يسوع ويدعوه تلاميذه بابن الله، وكان للرجل سمت نبيل وقوام بين الاعتدال، يفيض وجهه بالحنان والهيبة معا، فيحبه من يراه ويخشاه، شعره كلون الخمر منسرح غير مصقول، ولكنه في جانب الأذن أجعد لماع، وجبينه صلت ناعم، وليس في وجهه شية، غير أنه مشرب بنضرة متوردة، وسيماه كلها صدق ورحمة، وليس في فمه ولا أنفه ما يعاب، وعيناه زرقاوان تلمعان، مخيف إذا لام أو أنب، وديع محبب إذا دعا وعلم، لم يره أحد يضحك، ورآه الكثيرون يبكي، وهو طويل له يدان جميلتان مستقيمتان، وكلامه متزن رصين لا يميل إلي الإطناب، وملاحته في مرآة تفوق المعهود في أكثر الرجال«.
إلا أن هذه الرواية مشكوك فيها وفي أسنادها التاريخية، ومثلها جميع الروايات التي تداولها الناس في ذلك العصر أو بعده، ومنها ما لا يعقل ولا يظن به إلا أنه مدسوس من أعداء المسيحية في العصور الأولي، كقول بعضهم إنه كان قميئا أحدب دميم الصورة، فإن الشريعة الموسوية كانت تشترط في الكاهن سواء الخلق وسلامة الجسم من العيوب، ولا ترسم لخدمة الدين من يعيبه نقص أو تشويه، فمن غير المعقول أن يتصدي للرسالة من يعاب بالحدب والدمامة والقماءة معا، وأن يخلو الكلام المنسوب إلي خصومه أو أنصاره من الإشارة إلي ذلك في معرض المذمة أو معرض العجب ومداراة العيوب الجسدية بالمحاسن الروحية.
نعم أن الأنبياء في بني إسرائيل لم يكن لهم راسم يرشحهم للنبوة بشروط معلومة كشروط الكهانة، ولكن اتصاف النبي بالدمامة والحدب لايبقي في طي الكتمان مع التحدث عنه وعن المشوهين وأصحاب الآفات الذين يبرئهم ويساقون إليه ليشفيهم من الشوهة والآفة.
وليس في الأناجيل إشارة إلي سمات السيد المسيح تصريحاً أو تلميحاً يفهم من بين السطور ولكن يؤخذ من كلام نثتائيل حين رآه لأول مرة أنه رائع المنظم ملكي الشارة. إذ قال له »أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل«.. وأراد المسيح أن يفسر ذلك بأنه تحية يجيب بها الفتي علي تحيته، ولكنها علي أي حال تحية لا تقال للأحدب ولا للدميم المشنوء.
غير أننا نفهم من أثر كلامه أنه كان مأنوس الطلعة يتكلم فيوحي الثقة إلي مستمعيه، وذلك الذي قيل عنه غير مرة إنهم أخذتهم كلماته، لأنه »يتكلم بسلطان« وليس كما يتكلم الكتبة والكهان.
وقد كان ولا ريب فصيح اللسان سريع الخاطر، يجمع إلي قوة العارضة سرعة الاستشهاد بالحجج الكتابية التي يستند إليها في حديث الساعة كلما فوجيء باعتراض أو مكابرة، وكانت له قدرة علي وزن العبارة المرتجلة، لأن وصاياه مصوغة في قوالب من الكلام الذي لا ينظم كنظم الشعر ولا يرسل إرسالا علي غير نسق، ويغلب عليه إيقاع الفواصل وترديد اللوازم ورعاية الجرس في المقابلة بين الشطور.
وذوق الجمال باد في شعوره كما هو باد في تعبيره وتفكيره، والتفاته الدائم إلي الأزهار والكروم والجنائن التي يكثر من التشبيه بها في أمثاله، عنوان لما طبع عليه من ذوق الجمال والإعجاب بمحاسن الطبيعة، وكثيرا ما كان يرتاد المروج والحدائق بتلاميذه ويتخذ من السفينة علي البحيرة - بحيرة طبرية - منبرا يخطب منه للمستمعين علي شاطئها المعشوب كأنما يوقع كلامه علي هزات السفينة وصفقات الموج وخفقات النسيم، ولم يؤثر عنه أنه ألف المدينة والحاضرة كما كان يألف الخلاء الطلق حيث يقضي سويعات الضحي والأصيل أو سهرات الربيع في مناجاة العوالم الأبدية علي قمم الجبال وتحت القبة الزرقاء.
وقد أطبقت روايات الأناجيل علي أنه كان عظيم الأثر في نفوس النساء، يتبعنه حيث سار ويصغين إليه في محبة ووقار، ومن عظماء الرجال من تتعلق بهم نظرات النساء كأنهن مأسورات مسحورات، ومنها من تتعلق بهم نظرات النساء لأنهم يلعجون أفئدتهن بخوالج اللحم والدم ونزعات الغرائز والأهواء، ولكن الرجل العظيم الذي يجتذب إليه قلوب النساء لأنه يشيع فيها السكينة ويبسط عليها الطمأنينة ويفعمها بحنان الطهر والقداسة ويريحها من وساوس الضعف والفتنة، أعظم في نفوسهن أثرا من كل عظيم، وهو الذي من أجله ينسين الجسد ويرتفعن بحبهن له فوق مناط الظنون.
لهذا لا نستغرب أن يقال إن قرينة بيلاطس كانت تحذر قرينها أن يمس ذلك الإنسان الصالح، وأن تغلب محبة التقوي علي محبة الدنيا في نفوس تبعته وهجرت زينة الحياة، ومنهن الغواني اللواتي تستدعيهن الحياة كل يوم بداع مطاع.
وقد وصف نفسه بأنه »وديع متواضع الفؤاد« وقال إن الوداعة مفتاح السماء فلا يدخلها غير الودعاء، وتمثلت الوداعة في كثير من أقواله وأفعاله، ومنها الرحمة بالخاطئين والعاثرين، وهي الرحمة التي تبلغ الغاية حين تأتي من رسول مبرأ من الخطايا والعثرات.
إلا أن هذا الرسول الوديع الرحيم كان يعرف الغضب حيث تضيع الوداعة والرحمة، وكانت شيمته في رسالته شيمة الرسل جميعا حين تعلو عندهم أواصر الروح علي أواصر اللحم والدم، وتتقدم حقوق الهداية علي حقوق الآباء والأمهات.. »من هي أمي ومن هم إخوتي؟.. من يصنع مشيئة أبي في السموات هو أخي وأختي وأمي«.. »من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق«.. و»إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته، حتي نفسه، فما هو بقادر أن يكون لي تلميذا«.
وهذه وأشباهها من الشروط الصارمة التي كان يفرضها علي مريديه هي الشروط التي لا غني عنها لكل دعوة مستبسلة أمام السيطرة والجبروت، ومهما يكن فيها من أساليب المجاز والكناية فالقول الصراح الذي لا خلاف عليه أن التجرد من أواصر المنافع والشهوات أول الآداب التي يتأدب بها الجنود في كل ملحمة: جنود الحرب في ميادين الصراع علي فتوح الحكم والسياسة، فما بالنا بجنود الحرب في فتوح الروح ومطالب الكمال.
ولقد كان عليه السلام يأمرهم أن يقدموا علي المخاطر في سبيل الحق والهداية ولكنه كان يقيم لهم حدود المخاطرة حيث يجب الإقدام علي الموت وجوبا لا مثوية فيه، فالخطر علي الروح إذا كان موت الروح في الحسبان، فإن لم يكن خطراً علي الجسد ولا علي الروح فلا خير في المخاطرة.. وكونوا بسطاء كالحمائم وحكماء كالحيات.
وفي إنجيل مرقس أن السيد المسيح نجا بنفسه إلي جانب البحر حين علم أن الفرنسيين والهيرودويين يأتمرون به لإهلاكه وفي سائر الأناجيل أنه كان يشكو حزنه وبثه حين أحدق به الخطر، وأنه كان يدعو الله أن يجنبه الكأس التي هو وشيك أن يتجرعها، وأنه كان يقول لتلاميذه: »نفسي جد حزينة.. أمكثوا ها هنا وأسهروا«.. وأنه كان يعتب عليهم حين يراهم نياما علي مقربة منه وهو يعاني برحاءه وأشجانه ويقول لهم: ما قدرتم إن تسهروا معي ساعة واحدة؟.. ثم قال لهم آخر الأمر وقد حم القضاء: الآن ناموا واستريحوا!
فليس الإقدام علي الجهاد أن تتجرد النفس من طبيعتها في وجه المخاوف والمتالف، وليس محظورا علي النفس في سبيل ذلك الجهاد أن تأخذ بالحيطة أو تلوذ بمن تحب وتستمد العون من عواطف المحبين، وإنما المحظور عليها أن تخشي الخطر علي الجسد حيث تجب الخشية علي الروح، وفي غير ذلك لا خشية ولا مخاطرة ولا ملام.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن السيد المسيح خلق علي فطرة أمثاله من أصحاب الرسالات الكبري الذين لا ينقطعون لحظة عن الرياضة الروحية، وهذه الرياضة الروحية هي التي تجعلهم منذ صباهم عرضة للقلق، والتنقيب في أعماق ضمائرهم لعلهم يعرفون مداهم من الاقتراب أو الابتعاد عن طريقهم إلي الله. فهم يشرفون علي النور حينا ويحتجبون عنه حينا ويعودون إلي طواياهم في كل حين يحاسبونها علي إشراقة أو احتجابه، ويستبشرون تارة لأنهم يلمحون معالم الطريق، وينحون علي أنفسهم باللائمة تارة لأنهم يتهمونها بالزيغ عن الجادة والانحراف عن السواء، وفيما بين هذا القلق وتلك البشرة تنمو النفس علي الرياضة وتتهيأ للثبات والاستقرار وتتخذ العدة لليقين والإيمان.
لا ريب أن هذه الرياضة هي التي عناها كتاب الأناجيل بفترة التجربة في البرية حيث تعيش الشياطين.. وما للشياطين هنا من وساوس غير وساوس القلق وصراع الفتنة وغواية الطمع بين الإقدام والإحجام، حيث تطمئن النفس ساعة ثم تمتحن هذه الطمأنينة بالتجربة ساعة أخري، ثم تعاف التجربة لأنها تسليم بالشك حيث ينبغي التسليم بالثقة لأن رسالة الله حقيقة بكل فداء وأهل لكل ثمن وكل جزاء، ولكن من لك أيها الضمير، إنك أنت المختار لرسالة الله؟ أو تطلب البرهان؟ فمن أين لك أن تجمع بين طلب البرهان وبين صدق الإيمان.
وقد تغلب المسيح علي هذه المحنة كما تغلب عليها الأنبياء المرسلون بعد قلق وجهاد وصبر أليم، ونحسبه بعد ذلك كان يعالج القلق من هذا القبيل بالتسليم للواقع، وكان يستلهم الحوادث إرادة الغيب حيث تحتجب عنه هذه الإرادة، فيترك الحوادث تمضي ويمضي معها وينتظر ما تحكم به المقادير وفي هذه المواقف يخيفه أن يحجم ويتهم ضميره بالإحجام مخافة العواقب فذاك مسعاه إلي بيت المقدس في أخريات رسالته مرتين: مرة وهو يدخلها بين الترحيب والتهليل، ومرة وهو يدخلها بين النذر والشباك وخيانة الأصحاب ودسيسة الأصدقاء.
كانت هذه الخطوات من خطوات التسليم الذي ينطوي فيه حب الاستلهام والاستطلاع خيراً من طلب البرهان وخيراً من النكوص ما لم يكن هنالك برهان، وما قال قائل في أمثال تلك المواقف! ليفعل الله ما يشاء، إلا وهو يترك للمقادير أن تظهر من مجري الحوادث حيث تجري بها مشيئة الله.
في لحظات كهذه اللحظات يغوص الإنسان كله في أعماق ضميره، ولعل لحظة من تلك اللحظات هي التي قال فيها الناظرون إليه: إنه غائب عن نفسه، أو هي التي صمت فيها لا يحير جوابا لأنه هو يترقب جواب الغيب المنظور مما عسي أن يكون عما قريب، أو هي التي أقدم فيها لا يبالي بسلامته وعاقبة أمره، ولم يكن فكره قاصراً عن استطلاع العواقب جميعا في موقف من تلك المواقف الحاسمة، ولكن المشكلة الكبري كلها في استطلاع العواقب، فهل تراه لا يقدم علي العواقب إلا بضمان من البرهان؟
إن أعمال أصحاب الرسالات لا تفهم علي حقيقتها ما لم نفهم معها هذه القاعدة الأساسية في طبيعة الرسل، وهي أن الشك أخوف ما يخافونه، وأن استبقاء الإيمان غاية ما يبتغونه، وكثيرا ما يقدمون علي جسام الأمور لأن التسليم أقرب إلي الإيمان، ولأن الإحجام شك أو انتظار برهان، والشك وانتظار البرهان يستويان في بعض الأحيان.
وقد تواترت الروايات علي أن السيد المسيح كان يبتهل إلي الله في أخريات رسالته قائلا: »اللهم جنبني هذه الكأس، لكن كما تريد أنت لا كما أريد«.
وفي هذا الابتهال مفتاح كل عمل أقدم عليه بعد ذلك، أو أقدم عليه في مثل هذا الموقف فإنه لم يتجنب الكأس كما يريد بل ترك لله أن يجنبه إياها كما أراد، وموضع الشبهة في نفسه الشريفة أن السلامة هي ما يريده، وأن النكول هو طريقه إلي اجتناب الكأس، فليكن مسيره إذن في غير هذه الطريق، ولكن التسليم هو طريق الإيمان.
دعوة المسيحية
تواريخ الأديان جميعا تثبت الحقيقة الواضحة التي لا مغزي لكتابة التواريخ مع الشك فيها، ونعني بالحقيقة الواضحة اطراد السنن الكونية في الحوادث الانسانية الكبري، فلا يحدث طور من أطوار الدين أو الدنيا إلا سبقته مقدماته التي تمهد لحدوثه، وجاء سريانه في العالم علي وفاق لوازمه ودواعيه.
وليست المسيحية شذوذا عن هذه القاعدة، بل هي من أقوي الظواهر التي تؤيدها وتسري في مسراها، وسنراها، وسنري بعد الاحاطة بالفصول السابقة والفصول التالية أن الصلة لم تنقطع كل الانقطاع بين العصرين، وأن العصري القديم كان يلتفت بنظره شيئا فشيئا الي وجه العصر الجديد، وسنري غير مرة في هذا الكتاب أن الدعوة المسيحية جاءت في إبانها وفاقا لمطالب زمانها.
وليس أقرب الي جلاء هذه الحقيقة من تلخيص صورة العصر كله في كلمات معدودات نحصر بها آفاته البارزة ونهتدي بهذه الآفات الي علاجها الموكول الي العقيدة.
فما هي آفة العصر التي برزت في التاريخ واتفقت عليها أوصاف المؤرخين الذين توقعوا الانقلاب فيه من طريق الدين أو من غير طريق الدين؟
كانت له آفتان بارزتان: إحداهما تحجر الأشكال والأوضاع في الدين والاجتماع، والأخري سوء العلاقة بين الأمم والطوائف مع اضطرارها الي المعيشة المشتركة في بقعة واحدة من العالم المعمور وعلي الخصوص تلك الأقاليم التي نسميها اليوم بالشرق الأدني.
تحجرت الأشكال والأوضاع وغلبت المظاهرات علي كل شيء، وتهافت الناس علي حياة القشور دون حياة اللباب، فكل معاني الحياة عندهم سمت وزينة وأبهة ومحافل وشارات، وانتقلت الحضارة من الداخل الي الخارج أو من النفس الي الجسد، كما يحدث دائما في أعقاب الحضارات، تبدأ في عالم الفكر والوجدان ثم تستفيض العمارة فتميل الي التجسم والتضخم وتفقد من قوة النفس والضمير بمقدار ما تكسب من مظاهر المادة والمال.
تجمعت الثروة والكسل في ناحية وتجمعت الفاقة والجهد المرهق في ناحية أخري، فغرق السادة في الترف، وغرق العبيد والأرقاء في الشقاء، وفسدت حياة هؤلاء وهؤلاء.
وتحجر نظام المجتمع فأصبح أشكالا ومراسم خلوا من المعني والغابة، وتحجرت معه الشرائع والقوانين، فلم يكن غريبا أن تنقش علي حجارة وأن يرتفع ميزانها في يدي عدالة معصوبة العينين، وأن تفرغ الكفتان فتستويان لأنهما فارغتان!
وتحجرت العقائد الوثنية في الدولة الرومانية وتحجرت العقائد الكتابية بين بني اسرائيل فأصبح فرق الشعرة بين النصين يقيم الحرب الحامية علي قدم وساق، وأصبحت التقوي علما بالنصوص وبحثا عن مراسم الشريعة، وغلب المظهر وإن اختلفوا علي اللفظ والتأويل.
أشكال وقشور، لا جوهر هناك ولا لباب.
وساءت العلاقة بين الأمة والأمة وبين الطائفة والطائفة، وبلغ الحس بسوئها غايته، لأن الذين يعانون من سوئها يعيشون في نطاق واحد ويخضعون لحكم واحد، فلا فكاك منه بحال.
دنيا آفتها مظاهر الترف ومظاهر العقيدة، ومن وراء ذلك باطن هواء وضمير خواء، فلا جرم يكون خلاصها في عقيدة لا تؤمن بشيء كما تؤمن ببساطة الضمير، ولا تعرض عن شيء كما تعرض عن المظاهر، ولا تضيق بخلاف كما تضيق بالخلاف علي النصوص والحروف وفوارق الشعرة بين هذا التأويل وذلك التحليل.
عقيدة قوامها أن الانسان خاسر اذا ملك العالم بأسره وفقد نفسه، وأن ملكوت السماء في الضمير وليس في القصور والعروش، وأن المرء بما يضمره ويفكر فيه وليس بما يأكله وما يشربه وما يلبسه وما يقيمه من صروح المعابد والمحاريب.
هل كانت للدنيا آفة غير آفة المظاهر والتناحر علي المظاهر؟
وهل كانت لتلك الآفة خلاص غير ذلك الخلاص؟
وهل كانت المسيحية إلا العقيدة التي تدعو الي خلاصها من حيث يرجي وهيهات لها في غيره خلاص؟
وتقطعت الأسباب بين الأمم وبين الطوائف وبين الآحاد، واتسم العصر كله بالعصبية في السائد والمسود والحاكم والمحكوم.
الروماني سيد العالم بحقه، والاسرائيلي سيد العالم بحق الهه، واليوناني والآسيوي والمصري كل منهم سيد الأمم وكل منهم مثال الهمجية، والمولي يخرج العبد من زمرة الآدميين، والعبد يمقت السيد مقت الموت أو يفضل الموت علي الرق الذي يجمع بين الذل والألم والجوع، وأبناء الأمة الواحدة طوائف تشيع بينها التهم وتعمها البغضاء.
ويأتي الي هؤلاء البشير المنظور فماذا يقول لهم ان لم يقل لهم إن الله رب بني الانسان وأنه هو ابن الانسان، وأن الحب أفضل الفضائل وأفضل الحب حب الأعداء، وأن الكرم أن تعطي فوق ما تسأل وأن تعطي بغير سؤال، وأن ملكوت السموات لا تفتحه الأموال، وأن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وأن المجد الذي يتنازعه طلابه لا يستحق أن يطلب، وأن المجد الذي يستحق أن يطلب لا موضع فيه لنزاع.
ولم يأت هذا البشير فضولا علي غير انتظار: أبناء قومه موعودون به في ذلك الزمن، وأبناء الأقوام ينتظرون شيئا لا يعرفونه ولكنهم يعرفون أن زمانهم لا يطاق، وأن حالهم لابد لها من تحويل.
أفلست العبادات، وجاء أحد المعبودين - قيصر روما - فأحرق الأسفار والنبوءات، ولم يبق منها إلا ما هو أقرب الي الفن في محراب أبولو إله الفنون.
أما العبادة التي لم تفلس فقد كان رأس مالها كله نسيئة منتظرة.. وهذه علامات السداد يستبشر بها المصدق ولا يمجدها المنكر، وإنما هو خلاف علي العلامات، و علي مصداقها من العيان والسماع.
لقد كانت الدعوة طبقا الزمن وقد بدأت في أوانها لم تتقدم ولم تتأخر، وكفي بذلك برهانا علي موقعها الصحيح من التاريخ، فقد كان بلاء الناس أنهم جربوا باطنهم وعمروا ظاهرهم، فجاءهم الرجاء الذي يصلح لذلك البلاء: بشارة لا تبالي أن يخرب ظاهر الدنيا كله اذا سلم للانسان باطن الضمير.
وهذه هي دعوة السيد المسيح كما ساقها الغيب وترقبها العالم الذي سيقت اليه، ولو لم تكن هي طلبته يومئذ لما استولت عليه قبل أن تنقضي عليه أربعة قرون.
وقد لقيت الدعوة أشد ما يلقاه دين من مقاومة.. فلا يفهم من هذا أنها شاعت في العالم الانساني علي الرغم منه أو علي غير حاجة منه اليها، فإنما الدين المطلوب هو الدين الذي تعلو أسباب قبوله علي أسباب رفضه. وليس هو الذي يقبله الناس جميعا طائعين مستسلمين كأنه غني عمن يدعو اليه وما من دعوة قط تستغني من مبدأ الأمر عن الدعاة.
ولقد تصدي رسول الاخاء والسلام لدعوته وهو يعلم أنها أخطر الدعوات وأنها أخطر جدا من دعوة البغضاء والقسوة، لأن الذي يدعو الي الاخاء يدعو الي اقتلاع جذور البغضاء والقسوة، لأن الذي يدعو الي السلام يدعو الي تحطيم سلاح الأقوياء، وليس اقتلاع جذور البغضاء بالأمر الهين وليس تحطيم سلاح الأقوياء علالة حالم وليس السبيل الي ذلك سبيل الرضا والوفاق.
لهذا كان يقول «جئت لألقي علي الأرض نارا فحبذا لو تضطرم».. وكان يسأله تلاميذه وسامعيه: «أتحسبونني أتيت لأمنح الأرض سلاما؟» ثم يبادر فيقول : «كلا! وانما هو الصدام والانقسام خمسة في البيت ينقسم ثلاثة منهم علي اثنين، واثنان علي ثلاثة: ينقسم الأب علي ابنه والابن علي أبيه، وتنقسم الأم علي بنتها والبنت علي أمها، وتنقسم الحماة علي الكنة والكنة علي الحماة».
ولقد كان كلام كهذا يقال علي ألسنة بني اسرائيل كما قال ميخا «ما في الناس من مستقيم. كلهم يكمن للدماء وينصب الشباك.. لا تأتمنوا صاحبا لا تثقوا بصديق وأوصد فمك عن تلك التي تضطجع في حضنك، إن الابن بأبيه مستهين، وإن البنت علي أمها ثائرة.. والكنة علي الحماة، وللانسان من أهل بيته أعداء».
ولكن هذه الأقوال وما شاكلها كانت وصفا لما هو حادث ولم تكن نبوءة عما سيحدث من الشر في سبيل الخير، ومن البغضاء في سبيل الاخاء، ومن الحرب سعيا الي السلام،
وقد صحت نبوءة الرسول في بني قومه فناصبوه العداء لأنه يبسط الدعوة الي الاخاء ويعم بها «طيور السماء» وهم رمز للطراق في جميع الأرجاء.
ومن الواضح أنه كان يؤثر قومه بالخير لو استمعوا اليه واتبعوه، ولكنهم مدعوون الي وليمة يرفضونها فمن حضرها بغير دعوة فهو أولي بها، وكذلك ضرب لهم المثل بوليمة العرس وقد أرسل الداعي عبده في طلب ضيوفه «قال هذا إني اشتريت حقلا وعلي أن أخرج فأنظره.. وقال ذاك: اني اشتريت أزواجا من البقر وسأمضي لأجربها.. فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلا الي طرقات المدينة وأزقتها وهات الي من تراه من المساكين.. فعاد العبد وقال لسيده: قد فعلت كما أمرت ولا يزال في الرحبة مكان. قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتي يمتلئ بيتي فلن يذوق عشائي أحد من أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا لدعاء».
ويمكن أن يقال في وصف تلك الدعوة العامة كثير لا يحصي علي حسب النظرة التي ينظر بها القارئ الي كلام المسيح في الأناجيل.
يمكن أن يقال انها دعوة الي حين ينتهي وشيكا بانتهاء العالم كله في أمد قريب، ويمكن أن يقال انها دعوة ملكوت يدوم ولا يعرف له انتهاء.
ولكننا علي التحقيق نطابق جوهرها كله اذا وصفناه بأنها «تغيير وجهة» وافتتاح قبلة، ولا سبيل الي الجمع بين الوجهتين ولا إلي التردد بين القبلتين، فلن يخدم أحد سيدين..
قبلة الروح أو قبلة الجسد.
قبلة الله أو قبلة «مأمون» إله المادة والمال.
معبد الضمير أو معبد الصخر والخشب.
هنا أو هناك..
فالمهم هو الاتجاه أين يكون، والي أي أمد يدوم، وكل ما يلي ذلك من تفصيل فهو خطوات الطريق تتسع أو تضيق وتسرع أو تتريث متي استقبل السالك قبلته وأدار ظهره لما وراءه، ولابد من المفترق الحاسم بين القبلتين، ولابد من خيرة بين السيدين.
شريعة الحب
الجمود والرياء كلاهما موكل بالظواهر - فالجمود يقف بصاحبه عند الكلمات والنصوص، يخيل إليه أنها مقصودة لذاتها فتصبح شغلا شاغلا له يمعن في تأويلها وتوجيهها واستخراج العقد والألغاز منها، وينتهي الأمر به إلي اعتبارها مسألة براعة وفطنة واعتبار الأحكام والعقوبات فرصة للشارع لايجوز أن تفلت من بين يديه، وإلا كان ذلك مطعنا في براعته وفطنته وهزيمة له أمام غرمائه المقصودين بتلك الأحكام والعقوبات.
ومن الجامدين من يفر بعلمه بالنصوص والشرائع، ويقيس علمه بمبلغ قدرته علي خلق العقد والعقبات من خلال حروفها وسطورها أو من المقابلة بين سوابقها ولواحقها وبين مواضع الموافقة والمناقضة منها، ويحدث هذا لكل «شريعة» صارت إلي أيدي الجامدين والحرفيين، فقد أدركنا في مصر أناسا من كتاب الدواوين يفخرون بقدرتهم علي توفيق العمل بين المراجعات والردود، اعتمادا علي هذا النص أو تلك الحاشية، وافتنانا منهم في عصر العبارات ونبش الدفائن وإقامة الدليل من ثم علي سعة العلم والغلبة في ميدان الحوار ومجال اللف والدوران.
ولا حساب للنفس البشرية بطبيعة الحال عند هؤلاء الجامدين الحرفيين، فإنما الحساب كله للنص المكتوب من جهة ولدعوي العلم والتخريج من جهة أخري، وإنما النفس البشرية هي الفريسة التي يتكفل العقاب باقتناصها ويتكفل العلم بإغلاق منافذ النجاة في وجهها، ويقدح في غرور العالم المحيط بأسرار الشريعة وخفاياها أن تتمكن النفس المسكينة من الهرب وأن يرجع العقاب بغير فريسة... وتلك خيبة للشرائع والقوانين، خيبة لها أن تفتح مذابحها ثم تتيح للضحايا والقرابين أن تفلت منها!
فالشارع الماهر في عرف الجمود هو أقدر الشارعين علي مد الحبائل واقتناص الضحايا.
والفخر كل الفخر لخدام الشريعة أن يوفروا لها الصيد ويحكموا من حوله الشبكة.
وقد تنتفخ الأوداج بهذا الفخر علانية، ويصبح أحق الناس بالمفخرة أقدرهم علي إدانة الآخرين.
ويتمادي الأمر حتي تصبح الاستقامة براعة في اللعب بالألفاظ وتعجيزا للجهلاء بالحيل والفتاوي، وحتي يزول الجوهر في سبيل العرض، ويزول اللباب في سبيل القشور، وتزول الاستقامة وطهارة الضمير في سبيل الكلمات والنصوص، وتزول الحقائق في سبيل الظواهر والأشكال.
وإذا صار أمر الفضائل إلي الظواهر والأشكال تساوي فيها الصدق والرياء، فإن غاية الصدق والرياء معا شكل ظاهر باطنه خواء، فلا فرق بين المرائي وبين الصادق في فضيلته، مادامت الفضيلة جمودا لا حس فيه ولا حياة ولا اعتبار فيه للنفس البشرية وراء النصوص والأحكام ووراء الأوامر والنواهي، ووراء العقاب والاحتيال.
إن الجمود والرياء: كلاهما موكل بالظواهر.
وعالم الظواهر غير عالم الضمير.
وهذان هما العالمان اللذان تقابلا وجها لوجه عند قيام الدعوة المسيحية:
لو عاد المسيح..
في احدي روايات الكاتب الروسي العظيم - دستيفسكي - بطل من أبطال الرواية يتخيل أن السيد المسيح عاد إلي الأرض في طوفة عابرة بأشبيلية في إبان سطوة »التفتيش« فوعظ الناس وصنع المعجزات وأقبل عليه الضعاف والمرضي والمحزنون يلثمون قدميه ويسألونه العون والرحمة.
وأنه ليمضي بين الشعب يضفي عليهم حبه وحنانه ويبسطون له شكاياتهم ومخاوفهم إذا برئيس ديوان التفتيش . المفتش الأعظم - يعبر بالمكان ويتأمل السيد والشعب من حوله هنيهة ثم يشير إلي الحراس ويأمرهم أن يعتقلوه ويودعوه حجر السجناء في انتظار التحقيق.
ويأتي المساء فيذهب المفتش الأعظم إلي الحجرة ويقول للرسول الكريم: إنني أعرفك ولا أجهلك، ولهذا حبستك، لماذا جئت إلي هنا؟ لماذا تعوقنا وتلقي العثرات والعقبات في سبيلنا؟!
ثم يقول له فيما يقول: إنك كلفت الناس ما ليست لهم به طاقة، كلفتهم حرية الضمير، كلمتهم مؤنة التمييز، كلفتهم أن يعرفوا الخير والشر لأنفسهم، كلفتهم أوعر المسالك فلم يطيقوا ما كلفتهم وشقيت مساعيهم بما طلبت منهم.. والآن وقد عرفنا نحن داءهم وأعفيناهم من ذلك التكليف، وأعدناهم إلي الشرائع والشعائر، تعود إلينا لتأخذ علينا سبيلنا وتحدثهم من جديد بحديث الاختيار وحرية الضمير!
ليس أثقل علي الإنسان من حمل الحرية، وليس أسعد منه حين يخف عنه محملها وينقاد طائعا لمن يسلبه الحرية ويوهمه في الوقت نفسه أنه قد أطلقها له وفوض إليه الأمر في اعتقاده وعمله، فلماذا تسوم الإنسان من جديد أن يفتح عينيه وأن يتطلع إلي المعرفة وأن يختار لنفسه ما يشاء، وهو لا يعلم ما يشاء؟
إنك منحتنا السلطان قديما وليس لك أن تسترده، وليس في عزمنا أن ننزل عنه، فدع هذا الانسان لنا وارجع من حيث أتيت، وإلا أسلمناك لهذا الإنسان غدا وسلطناه عليك وحاسبناك بآياتك وأخذناك بمعجزاتك ولترين غدا هذا الشعب الذي لثم قدميك اليوم مقبلا علينا مبتهلا لنا أن نخلصه منك وأن ندينك كما ندين الضحايا من المعذبين والمحرومين.
قال إيفان كراموزف بطل الرواية التي تتخيل هذا الملتقي وهذا الحوار، أن السيد المسيح لم ينبس بكلمة ولم يقابل هذا الوعيد وهذا العداء بعبوس أو ازورار، وتقدم إلي المفتش الأعظم - وهو شيخ فان في التسعين، فلثم شفتيه وخرج إلي ظلام المدينة وغاب عن الأنظار«.
خلاصة لما تخيله الكاتب العظيم في خطاب طويل مملوء بحكمة الحياة كما يراها الحكماء، من الطرف الآخر الذي يقابل الحكمة المسيحية، حكمة الرسول الكريم.
ولا نحسب أن الخيال في هذا الخطاب العجيب بعيد من الحقيقة ولا نستبعد ما قاله المفتش الأعظم حين أنذر الرسول الكريم أن يسلمه لمن يثور عليه ويصب عليه الويل والغضب، بعد ان أحاط به ولثم قدميه وتوسل إليه.
كلا، إن الخيال في ذلك الخطاب العجيب غير بعيد من الحقيقة وأقرب شيء إلي طبائع الناس أن يصنعوا ذلك الصنيع وأن يتبعوا المفتش الأعظم في نقمته علي الرسول الكريم.
وأقرب شيء أن يكون ، لو عاد السيد المسيح إلي الأرض، أن ينكر الكثير مما يعمل اليوم باسمه وأن يجد بين أتباعه كتبة وفريسيين ينعي عليهم الرياء ويعلمهم من جديد أن السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت، وأن العبرة بما في الضمائر لا بما تفوه به الألسن ويبدو علي الوجوه، وأن الوحي الحي في طوية الإنسان لا في طوايا الكتب والأوراق.
أقرب شيء أن يكون أن ينعي علي الناس ما نعاه قبل ألف وتسعمائة سنة، وأن يجد إنسان اليوم كإنسان الأمس في شروره وعداوته، وفي نفاقه وشقاقه وفي إعراضه عن اللباب وإقباله علي القشور، وفي استعلائه بالتقوي حين يتقي، ولجاجه في الجحود والعدوان حين يجحد ويعتدي خمرا جديدة في زق قديم.
ذلك أقرب شيء أن يكون
وأقرب شيء أن يقال إذا طاف بالخاطر ذلك الخيال، أن يردد اللسان قول أبي العلاء:
تعب غير نافع واجتهاد
لا يؤدي إلي غناء اجتهاد
ففيم يشقي المصلحون، وفيم يهلك الشهداء؟ وفيم يأتي الأنبياء ويذهبون؟
وفيم اختلفت الديانات واصطرع عليها المتدينون؟ فيم كل هذا؟ فيم جاءهم رسول بعد رسول؟ وفيم توالي التابعون بعدهم بإحسان أو بغير إحسان!
جاءوا وعادوا:
وانصرفوا والبلاء باق
ولم يزل داؤنا العياء
لئن قيل هذا ليكونن أقرب ما يقال بعد تلك الحقيقة التي جاءت في صورة الخيال.
ولكن الحقيقة الكبري التي توزن بها جميع الحقائق هي أن الحقيقة لا تري من جانب واحد، ولا سيما الحقيقة التي تخلد علي الزمن في أطوار الإنسان منذ كان، وتخلد معه أني يكون.
ليست حرية الضمير مطلبا محدود المسافة، يرحل إليه الانسان، ثم يصل إليه ويقعد عنه، ويكف بعده عن كل عناء.
إنما حرية الضمير جهاد دائم وعمل دائب، يتقدم فيه الإنسان شوطاً بعد شوط، أو طبقة فوق طبقة، ولا يفرغ من جهاده يوما إلا لينظر بعده إلي جهاد مستأنف، ولا يودع الشر في مرحلة إلا ليلقاه ويجاهده، ولن يلقاه في سلام.
ومطالبنا المحسوسة تهدينا إلي القياس الصحيح في هذه المشكلة، وهي أولي بأن ندركها من المطالب الخفية التي تعتلج بالضمير وتبعثه إلي العمل مرة حيث يري مواقع خطوه ومرات حيث يبصر فلا يري غير الحجب والظلمات.
منذ يقول إن عناء التعليم باطل اذا رأي الطفل يحمل الكتاب وهو في الخامسة ورآه يحمله وهو في العاشرة ، ورآه يحمله وهو في العشرين ثم في الثلاثين، ثم رآه مدي الحياة لا يستغني عن علم ولا يقضي علي الجهل كل القضاء.
منذا يقول إن عناء الطب باطل إذا رأي الناس يمرضون بعد علمهم بالجراثيم وبعد افتنانهم في الطبابة ومواقع الدواء وموانع الشفاء.
منذا يقول إن الغاية عبث لأن الطريق إليها طويل، أو لأنها غاية تتلوها غاية بلا انقطاع ولا اكتفاء!
لا نقول هذا في محسوساتنا التي نلمحها ونلمسها، فهل نقوله في غاية كحرية الضمير هي سر الأسرار في حياة الإنسان منذ كان وأني يكون؟
ليست العبرة أن الشر واقع، ولكن العبرة كيف ننظر إليه وكيف نوقعه أو كيف نتقيه.
وإذا وقع اثنان في الشر، فليس الذي وقع فيه هو مستريح إليه مستزيد منه، كالذي وقع فيه وهو مضطر إليه نادم عليه، وليس الذي وقع فيه وهو يعلمه كالذي وقع فيه وهو يجهله، أو يقف منه موقف المغالطة بين العلم والجهل وبين القصد والاضطرار.
إنما الإنسان غير الحيوان البهيم لأنه صاحب ضمير، وإنما يقاس ضمير الإنسان بالقيم التي يقومها والمثل العليا التي يتمثلها، والمطالب التي يطلبها وينالها أو لا ينالها ، وما دام المصلحون والرسل يعلمون الإنسان قيمة يعليها ويرفعون أمامه مثلا أعلي يتسامي إليه.. فهم عاملون، وعملهم لازم، ونتيجته محققه، وإن دام الشر ولم ينقص عدد الذنوب والجرائم بأرقام الاحصاء.
واذا قلنا يوما إن الإنسان في هذا العصر يطلب الخير ولا يدركه، فقد قلنا علي اليقين إنه أفضل من الانسان الذي كان لا يطلبه ولا يعرفه، وإن عمله غير مطلوب وغير معروف، كما يعمل الحيوان البهيم.
إنما تقاس الأديان بما تودعه النفوس من القيم والحوافز، وبما تزيده من نصيب الإنسان في حرية الضمير أو في حرية التمييز بين الحسن والقبيح، وقد علمت الأديان كثيرا ولا تزال قادرة علي العمل الكثير ، ولكنها لن تغني الإنسان يوما عن جهاد الضمير.
كان جهلاء الناس فيما غبر ينتظرون ألف سنة يعم فيها الخير وينقطع فيها الشر ويمتنع الشقاء ولا يري في العالم يومئذ غير سعداء أبناء سعداء.
وكان »العارفون« يقولون عن هؤلاء إنهم جهلاء.
ولكن هؤلاء العارفين أجهل منهم اذا اعتقدوا أن دينا من الأديان لم يعمل عملا، ولم يكن غير عبث من العبث، لأن الدنيا باق فيها الشر، باق فيها البغي، باق فيه الكفران.
أي فرق بين العارفين الذين ينتظرون من الدين دنيا لاتعاب وبين الجاهلين الذين انتظروا السعادة المطلقة في »الألفية« الموعودة آخر الزمان، بعد قرون تعد بالعشرات أو بالمئات!
لعل هؤلاء الجاهلين أقرب إلي التقدير الصحيح من أولئك العارفين، لأنهم يفكرون وينتظرون »الألفية« .. وقد انتظرها الجاهلون بغير تفكير!
لو عاد السيد المسيح اليوم لوجد كثيرا يصنعه ويعيد صنعه، ولصنع كثيرا بين أتباعه ومن يعملون باسمه ويتواصون بوصاياه، ولكن الدنيا التي يصنع فيها الهداة صنيعا كثيرا خير من الدنيا التي لا موضع فيها لصنيع الهداة وجهاد الضمير.
ولن يختم المسيح العائد إلي الدنيا رسالة الخير والهداية، فتلك هي شوط الضمير الذي لا ختام له، وهو الغاية وراء كل ختام.
وسيعلم الناس في العصر الحديث - إن لم يكونوا قد علموا حتي اليوم - أن عقيدة الإنسان شيء لا يأتيه من الخارج فيقبله مرضاة للداعي أو ممتنا عليه، ولكنها هي ضميرة وقوام حياته الباطنية يصلحه، إن احتاج إلي الإصلاح، كما يصلح بدنه عند الطبيب وهو لا يمتن عليه ولا يري أنه عالج نفسه لمرضاته، فالعقيدة مسألة الإنسان، لا شأن للأنبياء بها إلا لأنها مسألة الإنسان، وعليه إذا عالج إصلاحه أن يعالجها كما يعالج جزءاً من نفسه بل كما يعالج قوام نفسه ولا يعالجها كأنها بضاعة يردها إلي صاحبها ويفرغ من أمرها، فلا فراغ من أمر العقيدة إلي آخر الزمان..
صورة وصفية
من أقدم الصور الوصفية التي حفظت للسيد المسيح صورة تداولها المسيحيون في القرن الرابع وزعم رواتها أنها كتبت بقلم ببليوس لنتيولس صديق بيلاطس حاكم الجليل من قبل الدولة الرومانية، رفعها إلي مجلس الشيوخ الروماني في عصر الميلاد، وجاء فيها: »أنه في هذا الزمن ظهر رجل له قوي خارقة يسمي يسوع ويدعوه تلاميذه بابن الله، وكان للرجل سمت نبيل وقوام بين الاعتدال، يفيض وجهه بالحنان والهيبة معا، فيحبه من يراه ويخشاه، شعره كلون الخمر منسرح غير مصقول، ولكنه في جانب الأذن أجعد لماع، وجبينه صلت ناعم، وليس في وجهه شية، غير أنه مشرب بنضرة متوردة، وسيماه كلها صدق ورحمة، وليس في فمه ولا أنفه ما يعاب، وعيناه زرقاوان تلمعان، مخيف إذا لام أو أنب، وديع محبب إذا دعا وعلم، لم يره أحد يضحك، ورآه الكثيرون يبكي، وهو طويل له يدان جميلتان مستقيمتان، وكلامه متزن رصين لا يميل إلي الإطناب، وملاحته في مرآة تفوق المعهود في أكثر الرجال«.
إلا أن هذه الرواية مشكوك فيها وفي أسنادها التاريخية، ومثلها جميع الروايات التي تداولها الناس في ذلك العصر أو بعده، ومنها ما لا يعقل ولا يظن به إلا أنه مدسوس من أعداء المسيحية في العصور الأولي، كقول بعضهم إنه كان قميئا أحدب دميم الصورة، فإن الشريعة الموسوية كانت تشترط في الكاهن سواء الخلق وسلامة الجسم من العيوب، ولا ترسم لخدمة الدين من يعيبه نقص أو تشويه، فمن غير المعقول أن يتصدي للرسالة من يعاب بالحدب والدمامة والقماءة معا، وأن يخلو الكلام المنسوب إلي خصومه أو أنصاره من الإشارة إلي ذلك في معرض المذمة أو معرض العجب ومداراة العيوب الجسدية بالمحاسن الروحية.
نعم أن الأنبياء في بني إسرائيل لم يكن لهم راسم يرشحهم للنبوة بشروط معلومة كشروط الكهانة، ولكن اتصاف النبي بالدمامة والحدب لايبقي في طي الكتمان مع التحدث عنه وعن المشوهين وأصحاب الآفات الذين يبرئهم ويساقون إليه ليشفيهم من الشوهة والآفة.
وليس في الأناجيل إشارة إلي سمات السيد المسيح تصريحاً أو تلميحاً يفهم من بين السطور ولكن يؤخذ من كلام نثتائيل حين رآه لأول مرة أنه رائع المنظم ملكي الشارة. إذ قال له »أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل«.. وأراد المسيح أن يفسر ذلك بأنه تحية يجيب بها الفتي علي تحيته، ولكنها علي أي حال تحية لا تقال للأحدب ولا للدميم المشنوء.
غير أننا نفهم من أثر كلامه أنه كان مأنوس الطلعة يتكلم فيوحي الثقة إلي مستمعيه، وذلك الذي قيل عنه غير مرة إنهم أخذتهم كلماته، لأنه »يتكلم بسلطان« وليس كما يتكلم الكتبة والكهان.
وقد كان ولا ريب فصيح اللسان سريع الخاطر، يجمع إلي قوة العارضة سرعة الاستشهاد بالحجج الكتابية التي يستند إليها في حديث الساعة كلما فوجيء باعتراض أو مكابرة، وكانت له قدرة علي وزن العبارة المرتجلة، لأن وصاياه مصوغة في قوالب من الكلام الذي لا ينظم كنظم الشعر ولا يرسل إرسالا علي غير نسق، ويغلب عليه إيقاع الفواصل وترديد اللوازم ورعاية الجرس في المقابلة بين الشطور.
وذوق الجمال باد في شعوره كما هو باد في تعبيره وتفكيره، والتفاته الدائم إلي الأزهار والكروم والجنائن التي يكثر من التشبيه بها في أمثاله، عنوان لما طبع عليه من ذوق الجمال والإعجاب بمحاسن الطبيعة، وكثيرا ما كان يرتاد المروج والحدائق بتلاميذه ويتخذ من السفينة علي البحيرة - بحيرة طبرية - منبرا يخطب منه للمستمعين علي شاطئها المعشوب كأنما يوقع كلامه علي هزات السفينة وصفقات الموج وخفقات النسيم، ولم يؤثر عنه أنه ألف المدينة والحاضرة كما كان يألف الخلاء الطلق حيث يقضي سويعات الضحي والأصيل أو سهرات الربيع في مناجاة العوالم الأبدية علي قمم الجبال وتحت القبة الزرقاء.
وقد أطبقت روايات الأناجيل علي أنه كان عظيم الأثر في نفوس النساء، يتبعنه حيث سار ويصغين إليه في محبة ووقار، ومن عظماء الرجال من تتعلق بهم نظرات النساء كأنهن مأسورات مسحورات، ومنها من تتعلق بهم نظرات النساء لأنهم يلعجون أفئدتهن بخوالج اللحم والدم ونزعات الغرائز والأهواء، ولكن الرجل العظيم الذي يجتذب إليه قلوب النساء لأنه يشيع فيها السكينة ويبسط عليها الطمأنينة ويفعمها بحنان الطهر والقداسة ويريحها من وساوس الضعف والفتنة، أعظم في نفوسهن أثرا من كل عظيم، وهو الذي من أجله ينسين الجسد ويرتفعن بحبهن له فوق مناط الظنون.
لهذا لا نستغرب أن يقال إن قرينة بيلاطس كانت تحذر قرينها أن يمس ذلك الإنسان الصالح، وأن تغلب محبة التقوي علي محبة الدنيا في نفوس تبعته وهجرت زينة الحياة، ومنهن الغواني اللواتي تستدعيهن الحياة كل يوم بداع مطاع.
وقد وصف نفسه بأنه »وديع متواضع الفؤاد« وقال إن الوداعة مفتاح السماء فلا يدخلها غير الودعاء، وتمثلت الوداعة في كثير من أقواله وأفعاله، ومنها الرحمة بالخاطئين والعاثرين، وهي الرحمة التي تبلغ الغاية حين تأتي من رسول مبرأ من الخطايا والعثرات.
إلا أن هذا الرسول الوديع الرحيم كان يعرف الغضب حيث تضيع الوداعة والرحمة، وكانت شيمته في رسالته شيمة الرسل جميعا حين تعلو عندهم أواصر الروح علي أواصر اللحم والدم، وتتقدم حقوق الهداية علي حقوق الآباء والأمهات.. »من هي أمي ومن هم إخوتي؟.. من يصنع مشيئة أبي في السموات هو أخي وأختي وأمي«.. »من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق«.. و»إن كان أحد يأتي إلي ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته، حتي نفسه، فما هو بقادر أن يكون لي تلميذا«.
وهذه وأشباهها من الشروط الصارمة التي كان يفرضها علي مريديه هي الشروط التي لا غني عنها لكل دعوة مستبسلة أمام السيطرة والجبروت، ومهما يكن فيها من أساليب المجاز والكناية فالقول الصراح الذي لا خلاف عليه أن التجرد من أواصر المنافع والشهوات أول الآداب التي يتأدب بها الجنود في كل ملحمة: جنود الحرب في ميادين الصراع علي فتوح الحكم والسياسة، فما بالنا بجنود الحرب في فتوح الروح ومطالب الكمال.
ولقد كان عليه السلام يأمرهم أن يقدموا علي المخاطر في سبيل الحق والهداية ولكنه كان يقيم لهم حدود المخاطرة حيث يجب الإقدام علي الموت وجوبا لا مثوية فيه، فالخطر علي الروح إذا كان موت الروح في الحسبان، فإن لم يكن خطراً علي الجسد ولا علي الروح فلا خير في المخاطرة.. وكونوا بسطاء كالحمائم وحكماء كالحيات.
وفي إنجيل مرقس أن السيد المسيح نجا بنفسه إلي جانب البحر حين علم أن الفرنسيين والهيرودويين يأتمرون به لإهلاكه وفي سائر الأناجيل أنه كان يشكو حزنه وبثه حين أحدق به الخطر، وأنه كان يدعو الله أن يجنبه الكأس التي هو وشيك أن يتجرعها، وأنه كان يقول لتلاميذه: »نفسي جد حزينة.. أمكثوا ها هنا وأسهروا«.. وأنه كان يعتب عليهم حين يراهم نياما علي مقربة منه وهو يعاني برحاءه وأشجانه ويقول لهم: ما قدرتم إن تسهروا معي ساعة واحدة؟.. ثم قال لهم آخر الأمر وقد حم القضاء: الآن ناموا واستريحوا!
فليس الإقدام علي الجهاد أن تتجرد النفس من طبيعتها في وجه المخاوف والمتالف، وليس محظورا علي النفس في سبيل ذلك الجهاد أن تأخذ بالحيطة أو تلوذ بمن تحب وتستمد العون من عواطف المحبين، وإنما المحظور عليها أن تخشي الخطر علي الجسد حيث تجب الخشية علي الروح، وفي غير ذلك لا خشية ولا مخاطرة ولا ملام.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن السيد المسيح خلق علي فطرة أمثاله من أصحاب الرسالات الكبري الذين لا ينقطعون لحظة عن الرياضة الروحية، وهذه الرياضة الروحية هي التي تجعلهم منذ صباهم عرضة للقلق، والتنقيب في أعماق ضمائرهم لعلهم يعرفون مداهم من الاقتراب أو الابتعاد عن طريقهم إلي الله. فهم يشرفون علي النور حينا ويحتجبون عنه حينا ويعودون إلي طواياهم في كل حين يحاسبونها علي إشراقة أو احتجابه، ويستبشرون تارة لأنهم يلمحون معالم الطريق، وينحون علي أنفسهم باللائمة تارة لأنهم يتهمونها بالزيغ عن الجادة والانحراف عن السواء، وفيما بين هذا القلق وتلك البشرة تنمو النفس علي الرياضة وتتهيأ للثبات والاستقرار وتتخذ العدة لليقين والإيمان.
لا ريب أن هذه الرياضة هي التي عناها كتاب الأناجيل بفترة التجربة في البرية حيث تعيش الشياطين.. وما للشياطين هنا من وساوس غير وساوس القلق وصراع الفتنة وغواية الطمع بين الإقدام والإحجام، حيث تطمئن النفس ساعة ثم تمتحن هذه الطمأنينة بالتجربة ساعة أخري، ثم تعاف التجربة لأنها تسليم بالشك حيث ينبغي التسليم بالثقة لأن رسالة الله حقيقة بكل فداء وأهل لكل ثمن وكل جزاء، ولكن من لك أيها الضمير، إنك أنت المختار لرسالة الله؟ أو تطلب البرهان؟ فمن أين لك أن تجمع بين طلب البرهان وبين صدق الإيمان.
وقد تغلب المسيح علي هذه المحنة كما تغلب عليها الأنبياء المرسلون بعد قلق وجهاد وصبر أليم، ونحسبه بعد ذلك كان يعالج القلق من هذا القبيل بالتسليم للواقع، وكان يستلهم الحوادث إرادة الغيب حيث تحتجب عنه هذه الإرادة، فيترك الحوادث تمضي ويمضي معها وينتظر ما تحكم به المقادير وفي هذه المواقف يخيفه أن يحجم ويتهم ضميره بالإحجام مخافة العواقب فذاك مسعاه إلي بيت المقدس في أخريات رسالته مرتين: مرة وهو يدخلها بين الترحيب والتهليل، ومرة وهو يدخلها بين النذر والشباك وخيانة الأصحاب ودسيسة الأصدقاء.
كانت هذه الخطوات من خطوات التسليم الذي ينطوي فيه حب الاستلهام والاستطلاع خيراً من طلب البرهان وخيراً من النكوص ما لم يكن هنالك برهان، وما قال قائل في أمثال تلك المواقف! ليفعل الله ما يشاء، إلا وهو يترك للمقادير أن تظهر من مجري الحوادث حيث تجري بها مشيئة الله.
في لحظات كهذه اللحظات يغوص الإنسان كله في أعماق ضميره، ولعل لحظة من تلك اللحظات هي التي قال فيها الناظرون إليه: إنه غائب عن نفسه، أو هي التي صمت فيها لا يحير جوابا لأنه هو يترقب جواب الغيب المنظور مما عسي أن يكون عما قريب، أو هي التي أقدم فيها لا يبالي بسلامته وعاقبة أمره، ولم يكن فكره قاصراً عن استطلاع العواقب جميعا في موقف من تلك المواقف الحاسمة، ولكن المشكلة الكبري كلها في استطلاع العواقب، فهل تراه لا يقدم علي العواقب إلا بضمان من البرهان؟
إن أعمال أصحاب الرسالات لا تفهم علي حقيقتها ما لم نفهم معها هذه القاعدة الأساسية في طبيعة الرسل، وهي أن الشك أخوف ما يخافونه، وأن استبقاء الإيمان غاية ما يبتغونه، وكثيرا ما يقدمون علي جسام الأمور لأن التسليم أقرب إلي الإيمان، ولأن الإحجام شك أو انتظار برهان، والشك وانتظار البرهان يستويان في بعض الأحيان.
وقد تواترت الروايات علي أن السيد المسيح كان يبتهل إلي الله في أخريات رسالته قائلا: »اللهم جنبني هذه الكأس، لكن كما تريد أنت لا كما أريد«.
وفي هذا الابتهال مفتاح كل عمل أقدم عليه بعد ذلك، أو أقدم عليه في مثل هذا الموقف فإنه لم يتجنب الكأس كما يريد بل ترك لله أن يجنبه إياها كما أراد، وموضع الشبهة في نفسه الشريفة أن السلامة هي ما يريده، وأن النكول هو طريقه إلي اجتناب الكأس، فليكن مسيره إذن في غير هذه الطريق، ولكن التسليم هو طريق الإيمان.
دعوة المسيحية
تواريخ الأديان جميعا تثبت الحقيقة الواضحة التي لا مغزي لكتابة التواريخ مع الشك فيها، ونعني بالحقيقة الواضحة اطراد السنن الكونية في الحوادث الانسانية الكبري، فلا يحدث طور من أطوار الدين أو الدنيا إلا سبقته مقدماته التي تمهد لحدوثه، وجاء سريانه في العالم علي وفاق لوازمه ودواعيه.
وليست المسيحية شذوذا عن هذه القاعدة، بل هي من أقوي الظواهر التي تؤيدها وتسري في مسراها، وسنراها، وسنري بعد الاحاطة بالفصول السابقة والفصول التالية أن الصلة لم تنقطع كل الانقطاع بين العصرين، وأن العصري القديم كان يلتفت بنظره شيئا فشيئا الي وجه العصر الجديد، وسنري غير مرة في هذا الكتاب أن الدعوة المسيحية جاءت في إبانها وفاقا لمطالب زمانها.
وليس أقرب الي جلاء هذه الحقيقة من تلخيص صورة العصر كله في كلمات معدودات نحصر بها آفاته البارزة ونهتدي بهذه الآفات الي علاجها الموكول الي العقيدة.
فما هي آفة العصر التي برزت في التاريخ واتفقت عليها أوصاف المؤرخين الذين توقعوا الانقلاب فيه من طريق الدين أو من غير طريق الدين؟
كانت له آفتان بارزتان: إحداهما تحجر الأشكال والأوضاع في الدين والاجتماع، والأخري سوء العلاقة بين الأمم والطوائف مع اضطرارها الي المعيشة المشتركة في بقعة واحدة من العالم المعمور وعلي الخصوص تلك الأقاليم التي نسميها اليوم بالشرق الأدني.
تحجرت الأشكال والأوضاع وغلبت المظاهرات علي كل شيء، وتهافت الناس علي حياة القشور دون حياة اللباب، فكل معاني الحياة عندهم سمت وزينة وأبهة ومحافل وشارات، وانتقلت الحضارة من الداخل الي الخارج أو من النفس الي الجسد، كما يحدث دائما في أعقاب الحضارات، تبدأ في عالم الفكر والوجدان ثم تستفيض العمارة فتميل الي التجسم والتضخم وتفقد من قوة النفس والضمير بمقدار ما تكسب من مظاهر المادة والمال.
تجمعت الثروة والكسل في ناحية وتجمعت الفاقة والجهد المرهق في ناحية أخري، فغرق السادة في الترف، وغرق العبيد والأرقاء في الشقاء، وفسدت حياة هؤلاء وهؤلاء.
وتحجر نظام المجتمع فأصبح أشكالا ومراسم خلوا من المعني والغابة، وتحجرت معه الشرائع والقوانين، فلم يكن غريبا أن تنقش علي حجارة وأن يرتفع ميزانها في يدي عدالة معصوبة العينين، وأن تفرغ الكفتان فتستويان لأنهما فارغتان!
وتحجرت العقائد الوثنية في الدولة الرومانية وتحجرت العقائد الكتابية بين بني اسرائيل فأصبح فرق الشعرة بين النصين يقيم الحرب الحامية علي قدم وساق، وأصبحت التقوي علما بالنصوص وبحثا عن مراسم الشريعة، وغلب المظهر وإن اختلفوا علي اللفظ والتأويل.
أشكال وقشور، لا جوهر هناك ولا لباب.
وساءت العلاقة بين الأمة والأمة وبين الطائفة والطائفة، وبلغ الحس بسوئها غايته، لأن الذين يعانون من سوئها يعيشون في نطاق واحد ويخضعون لحكم واحد، فلا فكاك منه بحال.
دنيا آفتها مظاهر الترف ومظاهر العقيدة، ومن وراء ذلك باطن هواء وضمير خواء، فلا جرم يكون خلاصها في عقيدة لا تؤمن بشيء كما تؤمن ببساطة الضمير، ولا تعرض عن شيء كما تعرض عن المظاهر، ولا تضيق بخلاف كما تضيق بالخلاف علي النصوص والحروف وفوارق الشعرة بين هذا التأويل وذلك التحليل.
عقيدة قوامها أن الانسان خاسر اذا ملك العالم بأسره وفقد نفسه، وأن ملكوت السماء في الضمير وليس في القصور والعروش، وأن المرء بما يضمره ويفكر فيه وليس بما يأكله وما يشربه وما يلبسه وما يقيمه من صروح المعابد والمحاريب.
هل كانت للدنيا آفة غير آفة المظاهر والتناحر علي المظاهر؟
وهل كانت لتلك الآفة خلاص غير ذلك الخلاص؟
وهل كانت المسيحية إلا العقيدة التي تدعو الي خلاصها من حيث يرجي وهيهات لها في غيره خلاص؟
وتقطعت الأسباب بين الأمم وبين الطوائف وبين الآحاد، واتسم العصر كله بالعصبية في السائد والمسود والحاكم والمحكوم.
الروماني سيد العالم بحقه، والاسرائيلي سيد العالم بحق الهه، واليوناني والآسيوي والمصري كل منهم سيد الأمم وكل منهم مثال الهمجية، والمولي يخرج العبد من زمرة الآدميين، والعبد يمقت السيد مقت الموت أو يفضل الموت علي الرق الذي يجمع بين الذل والألم والجوع، وأبناء الأمة الواحدة طوائف تشيع بينها التهم وتعمها البغضاء.
ويأتي الي هؤلاء البشير المنظور فماذا يقول لهم ان لم يقل لهم إن الله رب بني الانسان وأنه هو ابن الانسان، وأن الحب أفضل الفضائل وأفضل الحب حب الأعداء، وأن الكرم أن تعطي فوق ما تسأل وأن تعطي بغير سؤال، وأن ملكوت السموات لا تفتحه الأموال، وأن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وأن المجد الذي يتنازعه طلابه لا يستحق أن يطلب، وأن المجد الذي يستحق أن يطلب لا موضع فيه لنزاع.
ولم يأت هذا البشير فضولا علي غير انتظار: أبناء قومه موعودون به في ذلك الزمن، وأبناء الأقوام ينتظرون شيئا لا يعرفونه ولكنهم يعرفون أن زمانهم لا يطاق، وأن حالهم لابد لها من تحويل.
أفلست العبادات، وجاء أحد المعبودين - قيصر روما - فأحرق الأسفار والنبوءات، ولم يبق منها إلا ما هو أقرب الي الفن في محراب أبولو إله الفنون.
أما العبادة التي لم تفلس فقد كان رأس مالها كله نسيئة منتظرة.. وهذه علامات السداد يستبشر بها المصدق ولا يمجدها المنكر، وإنما هو خلاف علي العلامات، و علي مصداقها من العيان والسماع.
لقد كانت الدعوة طبقا الزمن وقد بدأت في أوانها لم تتقدم ولم تتأخر، وكفي بذلك برهانا علي موقعها الصحيح من التاريخ، فقد كان بلاء الناس أنهم جربوا باطنهم وعمروا ظاهرهم، فجاءهم الرجاء الذي يصلح لذلك البلاء: بشارة لا تبالي أن يخرب ظاهر الدنيا كله اذا سلم للانسان باطن الضمير.
وهذه هي دعوة السيد المسيح كما ساقها الغيب وترقبها العالم الذي سيقت اليه، ولو لم تكن هي طلبته يومئذ لما استولت عليه قبل أن تنقضي عليه أربعة قرون.
وقد لقيت الدعوة أشد ما يلقاه دين من مقاومة.. فلا يفهم من هذا أنها شاعت في العالم الانساني علي الرغم منه أو علي غير حاجة منه اليها، فإنما الدين المطلوب هو الدين الذي تعلو أسباب قبوله علي أسباب رفضه. وليس هو الذي يقبله الناس جميعا طائعين مستسلمين كأنه غني عمن يدعو اليه وما من دعوة قط تستغني من مبدأ الأمر عن الدعاة.
ولقد تصدي رسول الاخاء والسلام لدعوته وهو يعلم أنها أخطر الدعوات وأنها أخطر جدا من دعوة البغضاء والقسوة، لأن الذي يدعو الي الاخاء يدعو الي اقتلاع جذور البغضاء والقسوة، لأن الذي يدعو الي السلام يدعو الي تحطيم سلاح الأقوياء، وليس اقتلاع جذور البغضاء بالأمر الهين وليس تحطيم سلاح الأقوياء علالة حالم وليس السبيل الي ذلك سبيل الرضا والوفاق.
لهذا كان يقول «جئت لألقي علي الأرض نارا فحبذا لو تضطرم».. وكان يسأله تلاميذه وسامعيه: «أتحسبونني أتيت لأمنح الأرض سلاما؟» ثم يبادر فيقول : «كلا! وانما هو الصدام والانقسام خمسة في البيت ينقسم ثلاثة منهم علي اثنين، واثنان علي ثلاثة: ينقسم الأب علي ابنه والابن علي أبيه، وتنقسم الأم علي بنتها والبنت علي أمها، وتنقسم الحماة علي الكنة والكنة علي الحماة».
ولقد كان كلام كهذا يقال علي ألسنة بني اسرائيل كما قال ميخا «ما في الناس من مستقيم. كلهم يكمن للدماء وينصب الشباك.. لا تأتمنوا صاحبا لا تثقوا بصديق وأوصد فمك عن تلك التي تضطجع في حضنك، إن الابن بأبيه مستهين، وإن البنت علي أمها ثائرة.. والكنة علي الحماة، وللانسان من أهل بيته أعداء».
ولكن هذه الأقوال وما شاكلها كانت وصفا لما هو حادث ولم تكن نبوءة عما سيحدث من الشر في سبيل الخير، ومن البغضاء في سبيل الاخاء، ومن الحرب سعيا الي السلام،
وقد صحت نبوءة الرسول في بني قومه فناصبوه العداء لأنه يبسط الدعوة الي الاخاء ويعم بها «طيور السماء» وهم رمز للطراق في جميع الأرجاء.
ومن الواضح أنه كان يؤثر قومه بالخير لو استمعوا اليه واتبعوه، ولكنهم مدعوون الي وليمة يرفضونها فمن حضرها بغير دعوة فهو أولي بها، وكذلك ضرب لهم المثل بوليمة العرس وقد أرسل الداعي عبده في طلب ضيوفه «قال هذا إني اشتريت حقلا وعلي أن أخرج فأنظره.. وقال ذاك: اني اشتريت أزواجا من البقر وسأمضي لأجربها.. فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلا الي طرقات المدينة وأزقتها وهات الي من تراه من المساكين.. فعاد العبد وقال لسيده: قد فعلت كما أمرت ولا يزال في الرحبة مكان. قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتي يمتلئ بيتي فلن يذوق عشائي أحد من أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا لدعاء».
ويمكن أن يقال في وصف تلك الدعوة العامة كثير لا يحصي علي حسب النظرة التي ينظر بها القارئ الي كلام المسيح في الأناجيل.
يمكن أن يقال انها دعوة الي حين ينتهي وشيكا بانتهاء العالم كله في أمد قريب، ويمكن أن يقال انها دعوة ملكوت يدوم ولا يعرف له انتهاء.
ولكننا علي التحقيق نطابق جوهرها كله اذا وصفناه بأنها «تغيير وجهة» وافتتاح قبلة، ولا سبيل الي الجمع بين الوجهتين ولا إلي التردد بين القبلتين، فلن يخدم أحد سيدين..
قبلة الروح أو قبلة الجسد.
قبلة الله أو قبلة «مأمون» إله المادة والمال.
معبد الضمير أو معبد الصخر والخشب.
هنا أو هناك..
فالمهم هو الاتجاه أين يكون، والي أي أمد يدوم، وكل ما يلي ذلك من تفصيل فهو خطوات الطريق تتسع أو تضيق وتسرع أو تتريث متي استقبل السالك قبلته وأدار ظهره لما وراءه، ولابد من المفترق الحاسم بين القبلتين، ولابد من خيرة بين السيدين.
شريعة الحب
الجمود والرياء كلاهما موكل بالظواهر - فالجمود يقف بصاحبه عند الكلمات والنصوص، يخيل إليه أنها مقصودة لذاتها فتصبح شغلا شاغلا له يمعن في تأويلها وتوجيهها واستخراج العقد والألغاز منها، وينتهي الأمر به إلي اعتبارها مسألة براعة وفطنة واعتبار الأحكام والعقوبات فرصة للشارع لايجوز أن تفلت من بين يديه، وإلا كان ذلك مطعنا في براعته وفطنته وهزيمة له أمام غرمائه المقصودين بتلك الأحكام والعقوبات.
ومن الجامدين من يفر بعلمه بالنصوص والشرائع، ويقيس علمه بمبلغ قدرته علي خلق العقد والعقبات من خلال حروفها وسطورها أو من المقابلة بين سوابقها ولواحقها وبين مواضع الموافقة والمناقضة منها، ويحدث هذا لكل «شريعة» صارت إلي أيدي الجامدين والحرفيين، فقد أدركنا في مصر أناسا من كتاب الدواوين يفخرون بقدرتهم علي توفيق العمل بين المراجعات والردود، اعتمادا علي هذا النص أو تلك الحاشية، وافتنانا منهم في عصر العبارات ونبش الدفائن وإقامة الدليل من ثم علي سعة العلم والغلبة في ميدان الحوار ومجال اللف والدوران.
ولا حساب للنفس البشرية بطبيعة الحال عند هؤلاء الجامدين الحرفيين، فإنما الحساب كله للنص المكتوب من جهة ولدعوي العلم والتخريج من جهة أخري، وإنما النفس البشرية هي الفريسة التي يتكفل العقاب باقتناصها ويتكفل العلم بإغلاق منافذ النجاة في وجهها، ويقدح في غرور العالم المحيط بأسرار الشريعة وخفاياها أن تتمكن النفس المسكينة من الهرب وأن يرجع العقاب بغير فريسة... وتلك خيبة للشرائع والقوانين، خيبة لها أن تفتح مذابحها ثم تتيح للضحايا والقرابين أن تفلت منها!
فالشارع الماهر في عرف الجمود هو أقدر الشارعين علي مد الحبائل واقتناص الضحايا.
والفخر كل الفخر لخدام الشريعة أن يوفروا لها الصيد ويحكموا من حوله الشبكة.
وقد تنتفخ الأوداج بهذا الفخر علانية، ويصبح أحق الناس بالمفخرة أقدرهم علي إدانة الآخرين.
ويتمادي الأمر حتي تصبح الاستقامة براعة في اللعب بالألفاظ وتعجيزا للجهلاء بالحيل والفتاوي، وحتي يزول الجوهر في سبيل العرض، ويزول اللباب في سبيل القشور، وتزول الاستقامة وطهارة الضمير في سبيل الكلمات والنصوص، وتزول الحقائق في سبيل الظواهر والأشكال.
وإذا صار أمر الفضائل إلي الظواهر والأشكال تساوي فيها الصدق والرياء، فإن غاية الصدق والرياء معا شكل ظاهر باطنه خواء، فلا فرق بين المرائي وبين الصادق في فضيلته، مادامت الفضيلة جمودا لا حس فيه ولا حياة ولا اعتبار فيه للنفس البشرية وراء النصوص والأحكام ووراء الأوامر والنواهي، ووراء العقاب والاحتيال.
إن الجمود والرياء: كلاهما موكل بالظواهر.
وعالم الظواهر غير عالم الضمير.
وهذان هما العالمان اللذان تقابلا وجها لوجه عند قيام الدعوة المسيحية:
لو عاد المسيح..
في احدي روايات الكاتب الروسي العظيم - دستيفسكي - بطل من أبطال الرواية يتخيل أن السيد المسيح عاد إلي الأرض في طوفة عابرة بأشبيلية في إبان سطوة »التفتيش« فوعظ الناس وصنع المعجزات وأقبل عليه الضعاف والمرضي والمحزنون يلثمون قدميه ويسألونه العون والرحمة.
وأنه ليمضي بين الشعب يضفي عليهم حبه وحنانه ويبسطون له شكاياتهم ومخاوفهم إذا برئيس ديوان التفتيش . المفتش الأعظم - يعبر بالمكان ويتأمل السيد والشعب من حوله هنيهة ثم يشير إلي الحراس ويأمرهم أن يعتقلوه ويودعوه حجر السجناء في انتظار التحقيق.
ويأتي المساء فيذهب المفتش الأعظم إلي الحجرة ويقول للرسول الكريم: إنني أعرفك ولا أجهلك، ولهذا حبستك، لماذا جئت إلي هنا؟ لماذا تعوقنا وتلقي العثرات والعقبات في سبيلنا؟!
ثم يقول له فيما يقول: إنك كلفت الناس ما ليست لهم به طاقة، كلفتهم حرية الضمير، كلمتهم مؤنة التمييز، كلفتهم أن يعرفوا الخير والشر لأنفسهم، كلفتهم أوعر المسالك فلم يطيقوا ما كلفتهم وشقيت مساعيهم بما طلبت منهم.. والآن وقد عرفنا نحن داءهم وأعفيناهم من ذلك التكليف، وأعدناهم إلي الشرائع والشعائر، تعود إلينا لتأخذ علينا سبيلنا وتحدثهم من جديد بحديث الاختيار وحرية الضمير!
ليس أثقل علي الإنسان من حمل الحرية، وليس أسعد منه حين يخف عنه محملها وينقاد طائعا لمن يسلبه الحرية ويوهمه في الوقت نفسه أنه قد أطلقها له وفوض إليه الأمر في اعتقاده وعمله، فلماذا تسوم الإنسان من جديد أن يفتح عينيه وأن يتطلع إلي المعرفة وأن يختار لنفسه ما يشاء، وهو لا يعلم ما يشاء؟
إنك منحتنا السلطان قديما وليس لك أن تسترده، وليس في عزمنا أن ننزل عنه، فدع هذا الانسان لنا وارجع من حيث أتيت، وإلا أسلمناك لهذا الإنسان غدا وسلطناه عليك وحاسبناك بآياتك وأخذناك بمعجزاتك ولترين غدا هذا الشعب الذي لثم قدميك اليوم مقبلا علينا مبتهلا لنا أن نخلصه منك وأن ندينك كما ندين الضحايا من المعذبين والمحرومين.
قال إيفان كراموزف بطل الرواية التي تتخيل هذا الملتقي وهذا الحوار، أن السيد المسيح لم ينبس بكلمة ولم يقابل هذا الوعيد وهذا العداء بعبوس أو ازورار، وتقدم إلي المفتش الأعظم - وهو شيخ فان في التسعين، فلثم شفتيه وخرج إلي ظلام المدينة وغاب عن الأنظار«.
خلاصة لما تخيله الكاتب العظيم في خطاب طويل مملوء بحكمة الحياة كما يراها الحكماء، من الطرف الآخر الذي يقابل الحكمة المسيحية، حكمة الرسول الكريم.
ولا نحسب أن الخيال في هذا الخطاب العجيب بعيد من الحقيقة ولا نستبعد ما قاله المفتش الأعظم حين أنذر الرسول الكريم أن يسلمه لمن يثور عليه ويصب عليه الويل والغضب، بعد ان أحاط به ولثم قدميه وتوسل إليه.
كلا، إن الخيال في ذلك الخطاب العجيب غير بعيد من الحقيقة وأقرب شيء إلي طبائع الناس أن يصنعوا ذلك الصنيع وأن يتبعوا المفتش الأعظم في نقمته علي الرسول الكريم.
وأقرب شيء أن يكون ، لو عاد السيد المسيح إلي الأرض، أن ينكر الكثير مما يعمل اليوم باسمه وأن يجد بين أتباعه كتبة وفريسيين ينعي عليهم الرياء ويعلمهم من جديد أن السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت، وأن العبرة بما في الضمائر لا بما تفوه به الألسن ويبدو علي الوجوه، وأن الوحي الحي في طوية الإنسان لا في طوايا الكتب والأوراق.
أقرب شيء أن يكون أن ينعي علي الناس ما نعاه قبل ألف وتسعمائة سنة، وأن يجد إنسان اليوم كإنسان الأمس في شروره وعداوته، وفي نفاقه وشقاقه وفي إعراضه عن اللباب وإقباله علي القشور، وفي استعلائه بالتقوي حين يتقي، ولجاجه في الجحود والعدوان حين يجحد ويعتدي خمرا جديدة في زق قديم.
ذلك أقرب شيء أن يكون
وأقرب شيء أن يقال إذا طاف بالخاطر ذلك الخيال، أن يردد اللسان قول أبي العلاء:
تعب غير نافع واجتهاد
لا يؤدي إلي غناء اجتهاد
ففيم يشقي المصلحون، وفيم يهلك الشهداء؟ وفيم يأتي الأنبياء ويذهبون؟
وفيم اختلفت الديانات واصطرع عليها المتدينون؟ فيم كل هذا؟ فيم جاءهم رسول بعد رسول؟ وفيم توالي التابعون بعدهم بإحسان أو بغير إحسان!
جاءوا وعادوا:
وانصرفوا والبلاء باق
ولم يزل داؤنا العياء
لئن قيل هذا ليكونن أقرب ما يقال بعد تلك الحقيقة التي جاءت في صورة الخيال.
ولكن الحقيقة الكبري التي توزن بها جميع الحقائق هي أن الحقيقة لا تري من جانب واحد، ولا سيما الحقيقة التي تخلد علي الزمن في أطوار الإنسان منذ كان، وتخلد معه أني يكون.
ليست حرية الضمير مطلبا محدود المسافة، يرحل إليه الانسان، ثم يصل إليه ويقعد عنه، ويكف بعده عن كل عناء.
إنما حرية الضمير جهاد دائم وعمل دائب، يتقدم فيه الإنسان شوطاً بعد شوط، أو طبقة فوق طبقة، ولا يفرغ من جهاده يوما إلا لينظر بعده إلي جهاد مستأنف، ولا يودع الشر في مرحلة إلا ليلقاه ويجاهده، ولن يلقاه في سلام.
ومطالبنا المحسوسة تهدينا إلي القياس الصحيح في هذه المشكلة، وهي أولي بأن ندركها من المطالب الخفية التي تعتلج بالضمير وتبعثه إلي العمل مرة حيث يري مواقع خطوه ومرات حيث يبصر فلا يري غير الحجب والظلمات.
منذ يقول إن عناء التعليم باطل اذا رأي الطفل يحمل الكتاب وهو في الخامسة ورآه يحمله وهو في العاشرة ، ورآه يحمله وهو في العشرين ثم في الثلاثين، ثم رآه مدي الحياة لا يستغني عن علم ولا يقضي علي الجهل كل القضاء.
منذا يقول إن عناء الطب باطل إذا رأي الناس يمرضون بعد علمهم بالجراثيم وبعد افتنانهم في الطبابة ومواقع الدواء وموانع الشفاء.
منذا يقول إن الغاية عبث لأن الطريق إليها طويل، أو لأنها غاية تتلوها غاية بلا انقطاع ولا اكتفاء!
لا نقول هذا في محسوساتنا التي نلمحها ونلمسها، فهل نقوله في غاية كحرية الضمير هي سر الأسرار في حياة الإنسان منذ كان وأني يكون؟
ليست العبرة أن الشر واقع، ولكن العبرة كيف ننظر إليه وكيف نوقعه أو كيف نتقيه.
وإذا وقع اثنان في الشر، فليس الذي وقع فيه هو مستريح إليه مستزيد منه، كالذي وقع فيه وهو مضطر إليه نادم عليه، وليس الذي وقع فيه وهو يعلمه كالذي وقع فيه وهو يجهله، أو يقف منه موقف المغالطة بين العلم والجهل وبين القصد والاضطرار.
إنما الإنسان غير الحيوان البهيم لأنه صاحب ضمير، وإنما يقاس ضمير الإنسان بالقيم التي يقومها والمثل العليا التي يتمثلها، والمطالب التي يطلبها وينالها أو لا ينالها ، وما دام المصلحون والرسل يعلمون الإنسان قيمة يعليها ويرفعون أمامه مثلا أعلي يتسامي إليه.. فهم عاملون، وعملهم لازم، ونتيجته محققه، وإن دام الشر ولم ينقص عدد الذنوب والجرائم بأرقام الاحصاء.
واذا قلنا يوما إن الإنسان في هذا العصر يطلب الخير ولا يدركه، فقد قلنا علي اليقين إنه أفضل من الانسان الذي كان لا يطلبه ولا يعرفه، وإن عمله غير مطلوب وغير معروف، كما يعمل الحيوان البهيم.
إنما تقاس الأديان بما تودعه النفوس من القيم والحوافز، وبما تزيده من نصيب الإنسان في حرية الضمير أو في حرية التمييز بين الحسن والقبيح، وقد علمت الأديان كثيرا ولا تزال قادرة علي العمل الكثير ، ولكنها لن تغني الإنسان يوما عن جهاد الضمير.
كان جهلاء الناس فيما غبر ينتظرون ألف سنة يعم فيها الخير وينقطع فيها الشر ويمتنع الشقاء ولا يري في العالم يومئذ غير سعداء أبناء سعداء.
وكان »العارفون« يقولون عن هؤلاء إنهم جهلاء.
ولكن هؤلاء العارفين أجهل منهم اذا اعتقدوا أن دينا من الأديان لم يعمل عملا، ولم يكن غير عبث من العبث، لأن الدنيا باق فيها الشر، باق فيها البغي، باق فيه الكفران.
أي فرق بين العارفين الذين ينتظرون من الدين دنيا لاتعاب وبين الجاهلين الذين انتظروا السعادة المطلقة في »الألفية« الموعودة آخر الزمان، بعد قرون تعد بالعشرات أو بالمئات!
لعل هؤلاء الجاهلين أقرب إلي التقدير الصحيح من أولئك العارفين، لأنهم يفكرون وينتظرون »الألفية« .. وقد انتظرها الجاهلون بغير تفكير!
لو عاد السيد المسيح اليوم لوجد كثيرا يصنعه ويعيد صنعه، ولصنع كثيرا بين أتباعه ومن يعملون باسمه ويتواصون بوصاياه، ولكن الدنيا التي يصنع فيها الهداة صنيعا كثيرا خير من الدنيا التي لا موضع فيها لصنيع الهداة وجهاد الضمير.
ولن يختم المسيح العائد إلي الدنيا رسالة الخير والهداية، فتلك هي شوط الضمير الذي لا ختام له، وهو الغاية وراء كل ختام.
وسيعلم الناس في العصر الحديث - إن لم يكونوا قد علموا حتي اليوم - أن عقيدة الإنسان شيء لا يأتيه من الخارج فيقبله مرضاة للداعي أو ممتنا عليه، ولكنها هي ضميرة وقوام حياته الباطنية يصلحه، إن احتاج إلي الإصلاح، كما يصلح بدنه عند الطبيب وهو لا يمتن عليه ولا يري أنه عالج نفسه لمرضاته، فالعقيدة مسألة الإنسان، لا شأن للأنبياء بها إلا لأنها مسألة الإنسان، وعليه إذا عالج إصلاحه أن يعالجها كما يعالج جزءاً من نفسه بل كما يعالج قوام نفسه ولا يعالجها كأنها بضاعة يردها إلي صاحبها ويفرغ من أمرها، فلا فراغ من أمر العقيدة إلي آخر الزمان..
نور من فكر المسيح
الشيخ الطاعن في السن لن يتأخر عن سؤال الطفل ابن السبعة أيام عن مكان الحياة، وذلك الشخص سوف يحيا. فكثيرون من الأوَّلين سيكونون آخرين ويصيرون واحداً.
اعرفْ ما يواجهك، وما يخفي عليك ينكشف لك. فما من خفيٍّ إلا سينكشف.
لا تكذبوا، وما تكرهون، لا تفعلوا، لأن كل الأمور مكشوفة أمام السماء. فما من خفيٍّ إلا وينكشف وما من مستور إلا ويُعلَن.
طوبي للأسد الذي يأكله الإنسان، فيصير الأسد إنساناً. وملعون الإنسان الذي يأكله الأسد، فيصير الأسد بشراً!
الإنسان أشبه بصياد حكيم ألقي شبكته في البحر وسحبها من البحر ملأي أسماكاً صغيرة. وجد الصياد الحكيم بينها سمكة كبيرة ممتازة. فطرح الأسماك الصغيرة كلَّها في البحر، وبدون توانٍ اختار السمكة الكبيرة. مَنْ له أُذنان للسمع فليسمع.
من مآثر المسيح
حب الدنيا رأس كل خطيئة
الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها
اجعلوا كنوزكم في السماء فإن المرء عند كنزه
اتقوا فضول الدنيا فإن فضول الدنيا عند الله رجز
إياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارا
حلاوة الدنيا مرارة الآخرة ومرارة الدنيا حلاوة الآخرة
يا بني إسرائيل تهاونوا بالدنيا تهن عليكم
أهينوا الدنيا تكرم عليكم الآخرة .
من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم
لا تطرحوا اللؤْلؤَ إلي الخِنزير, فإنه لا يصنع باللؤلؤِ شيئا, ولا تُعطوا الحكمة من لا يريدُها, فالحكمة خيرٌ من اللؤلؤِ, ومن لا يريدها شرٌّ من الخنزير.
لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشي علي الماء .
لا يصيبُ أحدٌ حقيقة الإيمان حتي لا يباليَ مِن أكْل الدنيا.
يا معشر الحواريين ؛ ارضوا بدنيِّ الدنيا مع سلامة الدين, كما رضي أهل الدنيا بدنيِّ الدين مع سلامة الدنيا.
اعبروا الدنيا ولا تعمروها .
يابن آدم الضعيفَ اتق الله حيثما كنت َ, وكن في الدنيا ضيفا, واتخذ المساجد بيتا, وعَلِّم عينَك البكاءَ, وجسدك الصبرَ, وقلبك التفكيرَ, ولا تهتم برزق غد فإنه خطيئة .
لا يستطيع أحدُكم أن يتخِذَ علي موج البحر دارا, فلا تتخذوا الدنيا قرارا ..
لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن كما لا يستقيم الماء والنارُ في إناء.
طالب الدنيا مثل شارب البحر, كلما ازداد شربا ازداد عطشا حتي يقتلَهُ .
لا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب, وانظروا فيها كأنكم عبيد, فإنما الناس رجلان ؛ معافيً ومبتليً, فارحموا أهل البلاء, واشكروا الله علي العافية.
يا علماء السوء ؛ جعلتم الدنيا علي رؤوسكم, والآخرة تحت أقدامكم, قولكم شفاء, وعملكم داء, مثلُكم مثلُ شجرة الدِّفْلي ؛ تعجب من رآها, وتقتل من أكلها .
شجرة الدفلي هي شجرة ورقها يشبه الورد وطعامها قاتل ومر
مرارة الدنيا حلاوة الآخرة.
أشد الناس فتنة.. زلة العالم فإن العالم إذا زل يزل بزلته عالم كثير.
يا علماء السوء جعلتم الدنيا علي رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم قولكم شفاء وعملكم داء مثلكم مثل شجرة الدفلي نبت مرقاتل تعجب من رآها وتقتل من أكلها.
طوبي لمن بكي من ذكر خطيئته وحفظ لسانه ووسعه بيته.
مَنْ يطلب فلا يستنكف عن الطلب إلي أن يجد. وحين يجد سوف يضطرب. وعندما يضطرب سوف يَعْجَب ويسود علي الكل.
إذا قال لكم قادتكم: «هو ذا، الملكوت في السماء،» فسوف تسبقكم طيور السماء. إذا قالوا لكم: «إنه في البحر،» فسوف تسبقكم الأسماك. الملكوت بالحري في داخلكم وهو في خارجكم.
عندما تعرفون أنفسكم، إذ ذاك ستُعرَفون، وتَفهمون أنكم أنتم أبناء الآب الحيِّ. لكنكم إذا لم تعرفوا أنفسكم، أقمتم في الفقر، وكنتم الفقر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.