ربما لم يبق من بيننا الكثيرون على قيد الحياة ممن شهدوا بل وشاركوا فى مقاومة الإحتلال البريطانى لمصر، لكن بالتأكيد لايوجد بيننا من لم يسمع عن المقاومة الشعبية البطولية للإحتلال ولا عن الفرحة التى غمرت قلوب المصريين عندما تم جلاء الإنجليز وإستعادت مصر إستقلالها. كان جلاء قوات الإحتلال حلما وطنيا بُذلت من أجله الدماء لكن العجب يكمن فى أنه بعد قرنين من تحقيق حلم الإستقلال سلّمنا مصر بأيدينا إلى الإستعمار ليتحكم فى مواردها ويملى عليها ما يجب وما لا يجب أن تفعله. لم يحتاج الإستعمار هذه المرة إلى قوات عسكرية ليسحق بها إرادة الشعب لكنه إحتاج إلى جموع من الشعب نفسه إنبهرت بالنموذج الغربى وإختارت طواعية الإنضواء فى عباءة المستعمِر والسير فى الحدود الضيقة التى رسمها لنا. هذا الإستعداد النفسى لقبول الإستعمار تجسّد فى مشهد رأيته على شاشة التليفزيون يوم أن دخلت القوات الأميركية بغداد عام ۲۰۰۳. ظهر أحد المواطنين العراقيين وهو يتحدث إلى أحد جنود قوات الإحتلال قائلا "يمكنكم أن تذهبوا إلى أى مكان حيث شئتم ولكن لا تقربوا هذا المكان" وأشار إلى قبة أحد المساجد المعروفة. هذا المشهد هو أصدق تعبير عن النفسية العربية المهزومة فى هذه الحقبة التاريخية. أهلا بالإستعمار طالما أنه لا يهدد عقيدتنا الدينية، لانبالى حتى لو غزا أرضنا بجيوشه طالما أنه لم "يدنس" مساجدنا، لامانع من أن يعتدى على إرادتنا طالما أنه لم يعتدى على "مقدساتنا"، وكأن الإرادة الوطنية ليس لها ما للأحجار من قداسة.
هذا الإستعداد النفسى هو أيضا ما عبّر عنه الرئيس السادات ذات يوم بقوله إن 99٪ من أوراق اللعبة فى يد الولاياتالمتحدة. لقد كانت هذه هى نقطة التحول - أو قل نقطة الرّدة - عن روح الإستقلال والنخوة الوطنية التى سادت فى الستينيات. من هنا كانت البداية، لكن لابد من الإقرار الآن بأن ذلك التحول - أو قل الغرام بالنموذج الأميركى - لم يكن رغبة الرئيس (السلطان) فقط فى ذلك الوقت لكنه كان أيضا رغبة شعبية مؤسسة على وهم بأن الأميركان هم المنقذ من اليسار الذى "خرّب" مصر، وأننا سنستعيض عن الشيوعية التى جلبت الفقر بالرأسمالية التى ستجلب الرخاء.
هذه الثنائيات البسيطة الساذجة هى ما نجح المستعمرون الجدد فى إستغلالها ببراعة ليستعيدوا بها الغنيمة التى إضطُروا إلى التنازل عنها ذات يوم، ولم تكن الجموع التى سلمت "أوراق اللعبة" للولايات المتحدة فى السبعينيات تحت إيحاء هذه الثنائية (شيوعية-رأسمالية) تدرى أنها تفرّط فى إستقلال مصر. كان معنى الإستقلال فى مفهومها محدودا بعدم وجود قوات إحتلال "تدنّس" أرض مصر. وكأن فعل التدنيس ينتفى بإنتفاء التدخل العسكرى، مع أنه يمكن أن يتم أيضا - كما هو معلوم - بفعل الضغوط والإغراءات والتهديدات وتحت شروط القروض المجحفة وفى مقابل حفنة دولارات تجد طريقها عبر فضاء السمسرة والعمولات.
القبول النفسى للإنضواء فى عباءة المستعمِر هو مفهوم هام طرحه المفكر الجزائرى مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة" عام ۱۹4۸ وأطلق عليه "القابلية للإستعمار" أو "المعامل الإستعمارى"، وهو الشعور بالدونية لدى الشعوب المستعمَرة يتكامل مع الشعور بالفوقية لدى الشعوب المستعمِرة ليخلق الظروف المواتية للإستعمار الجديد. يعنى لا يكفى لتفسير ظاهرة النهب الإستعمارى لمصر أن نتهم الغرب المستعمِر بالإستعلاء تجاه شعوب الشرق لكن لابد لنا من الإعتراف بأن الإستعداد النفسي لدى جموع كثيرة من الشعب المصرى للخضوع للخواجة هو العامل الفاعل فى فقداننا للإستقلال بعد أن سلّمنا القط - عن رضى وطواعية - مفاتيح الكرار فى السبعينيات. عندما يزول هذا الإستعداد ونستبدله بإذكاء النخوة الوطنية والفخر بلغتنا وأدائنا وتعليمنا وثقافتنا سنكون قد خطونا أول خطوة على طريق الإستقلال ونبذ التبعية. وكما قال أحد المصلحين (ربما يكون ملاك بن نبى نفسه لكنى لم أجد هذه المعلومة موثقة) "أخرِجوا الإستعمار من نفوسِكم يخرج من أرضِكم".
يجب أن يكون هذا التوجه - إخراج الإستعمار من نفوسنا - هو أحد مناطات التغيير المنشود بعد الثورة. وهذا الهدف لا يتحقق بقرار سياسى - وإن كان يعتمد على دور تعبوى للقيادة السياسية - وإنما يتحقق بتوعية وإرادة شعبية. وقبل الإسهاب فى شرح هذا الأمر يجب التأكيد على حقيقتين هامتين. أولاهما أن الوعى بمخاطر "المعامل الإستعمارى" قد أصبح فى تزايد نتيجة لتحرر العقول بعد الثورة، والثانية أن "القابلية للإستعمار" هى مجموعة من الصفات النفسية والثقافية وما يستتبعها من علاقات اجتماعية قد تكون نتيجة للواقعة الإستعمارية نفسها أو مقدمة مسببة لها. وسواء كانت ذلك أم تلك فإننا بصدد عوار فى البنية الثقافية للمجتمع تستلزم التفكير والفاعلية بالتوازى مع المعركة السياسية الطاحنة التى تمر بها البلاد والتى تستنفذ جل طاقاتنا. وأعتقد أن أحد معايير نجاح أى حزب أو حكومة فى إدارة البلاد فى هذه المرحلة هو إسهامها فى محو هذه القابلية التى عشعشت فى النفوس.
أود الإشارة فيما تبقى من هذا المقال إلى ثلاث مظاهر للقابلية للإستعمار، يستحق كل منها دراسات ومناقشات موسعة، لكن سنكتفى هنا بالإشارات. أول المظاهر هو ما يتعلق بمسألة إنتشار التعبيرات الأجنبية حتى أصبحت مفردات فى اللغة المصرية الدارجة. كما إنتشرت أيضا أسماء أجنبية ذات دلالات تسويقية إنفتاحية لكثير من المؤسسات التجارية (بيفرلى هيل – أنكل سام شوب - شادى سبورت - كوكى بارك - الشانزليزيه - جينى لملابس المحجبات.. إلخ)، وهذا دليل على تشوه نفسى للحس الوطنى بإعتبار أن الخواجة هو الرقى والشياكة، وهو ما إستغله التجار لتسويق سلعهم. ثم ألا ترى أن هناك إرتباطا بين القابلية للإستعمار وإنتشار مسميات مثل ال "كوفى شوب" وال "توك شو" وال "فاست فوود" وغيرها؟
وثانى المظاهر هو إستبطان بعض مفاهيم المستعمر وألوانا من فنون إعلامه ومجالات ترفيهه بالذات. لماذا تم إختيار عنوان ومحتوى برنامج "صباح الخير يا مصر" مطابقا للبرنامج الأميركى "صباح الخير يا أميركا"؟ ولماذا ننقل حرفيا برامج تليفزيونية أميركية للترفيه مثل برنامج المسابقات المعروف بإسم عجلة الحياة وهو يمثل قيمة أميريكية فى المكسب الضخم السريع عن طريق المراهنة؟ إن هذا الإستبطان الإنتقائى لمفاهيم متعلقة بالإستهلاك والترفيه لايدل فقط على ميل لهذه الجوانب فى حياة الغربيين لكنه يعتبر دليلا على نزعة مذمومة للثراء الذى يأتى بضربة حظ دون تحمل مشقة العمل المنتج (وقد إمتلأ تراثنا بحكايات تؤكد هذه النزعة من أمثال على بابا والأربعين حرامى).
أما المظهر الثالث والذى يجب إطالة البحث فيه لخطورة تأثيره على مستقبل الأمة فهو إندفاعنا نحو التعليم الأجنبى وإستهانتنا بالتعليم القومى. هذا التوجه فيه تدمير لمستقبل الأمة، ولا أشك فى إرتباطه بظاهرة القابلية للإستعمار. لقد قبلنا أن يتمكن أبناؤنا من اللغة الأجنبية قبل أن يتمكنوا من اللغة العربية بل ويتفاخر الكثير منا بأبنائهم حين يرطنون بالإنجليزية ويخطئون فى العربية. وأتعجب كثيرا من الإتهامات القاسية المتبادلة بين الخصوم السياسيين بالعمالة لأميركا (حتى بمجرد الإتصال بأحد المسئولين الأميركيين) فى الوقت الذى نرسل فيه (كلنا) أبناؤنا لتلقى تعليمهم الأساسى فى مدارس "اللغات" (ومعظمها منشآت تجارية هدفها الربح عن طريق التعليم مستغلة نزوع الناس نحو ما هو أجنبى). وإذا سئل سائل: وما علاقة ذلك بالقابلية للإستعمار؟ وألا يمكن تفسير هذه الظاهرة بأنها أحد أشكال مد الجسور مع ثقافة الغرب؟ أقول وهل فعل الغرب نفس الشئ لمد جسور ثقافية معنا؟ يعنى هل وجدت فى أميركا مدارس بإدارة مصرية للتعليم الأساسى تكون فيها اللغة العربية سابقة على الإنجليزية، ثم يقبل عليها الأميركان ويهجروا مدارسهم ولغتهم القومية؟ بالطبع لا، فالأميركان ليس لديهم القابلية للإستعمار المصرى!
قابليتنا للإستعمار سوف تدمر مستقبل مصر من خلال تسليم التعليم الأساسى (ولا أقول التعليم العالى) لمستثمرين أجانب لأن هذا التعليم له مردود على التنشئة السياسية للأطفال والشباب، يعنى نحن هنا بصدد تغييب أجيال عن عناصر من الثقافة المصرية الأصيلة وتشويه هذه الثقافة، لكن الأخطر أننا بصدد أمر يمس عصب الأمن القومى المصرى.
ونعود إلى نقطة البدء ونطرح السؤال الآتى لمزيد من التفكير: لقد تحررت مصر من الإستعمار منذ ما يقرب من ستين عاما ورحلت جيوشه لكن مصر لم تنهض بل بقى فيها الضعف والتفكك. إذن لا يكفى أن نلقى باللوم على شماعة الإستعمار. لابد أن يكون السبب كامن فى أنفسنا. أفلا تبصرون؟