قرار مجلس الشيوخ في الكونجرس الأمريكي تقسيم العراق عمليا إلى ثلاث دويلات فسيفسائية، لا يكشف الهدف الحقيقي من حرب العدوان على العراق فحسب، وإنما يكشف أيضا ما هو المقصود بإقامة «شرق أوسط كبير» أو جديد.
البعض حين احتل العراق توهموا أن الهدف هو إزالة أسلحة الدمار الشامل أو الاطاحة بالديكتاتورية لإقامة الديمقراطية، كما زعم المحافظون الجدد، وهذا البعض حين رفع المحافظون الجدد شعار «الإصلاح والديمقراطية»، قالوا إن الهدف من إقامة شرق أوسط جديد هو «شرق أوسط ديمقراطي» ثم دعك من البعض الآخر ممن وقفوا ضد العدوان الأمريكي على العراق معتبرينه حربا من أجل النفط.
ان الإجراءات التي تبعت احتلال العراق من حل الدولة والجيش وتشكيل «مجلس حكم» على أساس المحاصصة الطائفية والاثنية، ثم شعار تنظيم العراق على أساس فيدراليات كرست بما يسمى الدستور، تدل، بما لا يسمح بشك على أن الهدف هو تقسيم العراق، وذلك كخطوة على طريق إعادة تقسيم خرائط الدول العربية والإسلامية بما فيها الكبيرة والمتوسطة والصغيرة منها على أسس دويلات طائفية واثنية وجهوية ودينية، وما شئت من تلاوين مشابهة.
إقامة شرق أوسط «التسمية مزورة ولا جغرافية ولا علمية، لأن المقصود التخلص من تسمية البلاد العربية والإسلامية» على أساس دويلات من ذلك النمط يسمح بالهيمنة الإسرائيلية لأن الكيان الصهيوني لا يستطيع أن يسيطر على المنطقة، ويضمن بقاءه الى الأبد إلا إذا حولها إلى دويلات صغيرة متصارعة، تشل بعضها بعضا بتناقضات في ما بينها لا تنتهي.
ولهذا كان احتلال العراق، كما مشروع بناء شرق أوسط كبير أو جديد بما يشمل بلدانا عربية وإسلامية، يستهدفان خدمة المشروع الاسرائيلي واستراتيجيته المعدة للمنطقة كلها، هذا المشروع بدأ نظريا في محاولة نفي الهوية العربية والاسلامية عن البلدان العربية والإسلامية لتصبح منطقة ذات هوية جغرافية، ولكنه تطور الى استراتيجية برسم التنفيذ مع تسليم المحافظين الجدد للقرار الأمريكي، ومن ثم إمكان تسخير الولاياتالمتحدة بما تملكه من قوة عسكرية واقتصادية ونفوذ سياسي لتحقيق هذا المشروع الذي تحول الى استراتيجية منذ ما بعد أحداث 11/9/2001، اتخذت ذريعة لإعلان الحرب على العرب والمسلمين.
ثمة نموذج معبر وهو «حي» وواقعي لما يمكن ان يؤول إليه الوضع مع حالة الدويلات الفسيفسائية التي يستهدفها قرار شيوخ الكونجرس من تقسيم العراق، أو يسعى إليها مشروع الشرق أوسط الكبير، وهذا النموذج يعبر عنه الخبر التالي: «قال شهود إن قوات حكومة جمهورية أرض الصومال» التي أعلنت استقلالها استولت على قرية داخل اقليم بونت لاند المتمتع بحكم فيدرالي مما أسفر عن مقتل ما لايقل عن عشرة أشخاص.
كلا الاقليمين جمهورية أرض الصومال وحكومة بونت لاند «بلاد البنط» هما من الصومال الذي ترزح أقاليمه الأخرى تحت الاحتلال الاثيوبي، وحكومة صورية وبالمناسبة من المعروف ان قوات كل من هاتين الدويلتين الفسيفسائيتين اشتبكتا مراراً في السنوات الماضية بسبب نزاعات على حدودهما المشتركة.
البعض اعتقد ان شعب الصومال مشكل من قبائل عربية، ولكن أغلب المؤرخين وحتى الأحزاب الصومالية يعتبرون شعب الصومال بأغلبيته الساحقة منحدرا من قبيلة واحدة تفرعت الى عشائر، وليس هناك من خلاف بينها ديني، وعرقي، واثني، فهي منقسمة على أسس جهوية اكثر منها على أسس عشائرية.
وفي ندوة عقدها مركز الدراسات في قناة الجزيرة قبل عام تقريبا جمعت فيها أغلب الاطياف السياسية الصومالية، سئل ممثل «جمهورية أرض الصومال» عن خصوصيات هذا الاقليم التي تسوغ تحوله الى دولة مستقلة عن الصومال لم يجد سببا غير طبيعة الادارة في كل اقليم بسبب اختلاف الادارات التي توزعت وفقا للسيطرة الاستعمارية لكل من بريطانيا وايطاليا وفرنسا، فجمهورية أرض الصومال اكتسبت حقها في الانفصال وتشكيل دولة «دويلة مستقلة» بسبب ما تركه الاستعمار البريطاني من خصائص ادارية ولغوية «الانجليزية التي يراد لها ان تتحول لتكريس الانفصال من لغة ثانية الى لغة أولى».
المهم هنا ان تلاحظ خطورة اختلاف الفروق حتى لو لم تكن ثمة فروق طائفية أو اثنية أو دينية، وذلك حين يراد تمرير دويلات مشروع الشرق أوسط الكبير بالرغم من ان الصومال لم يدرج فيه رسميا بعد.
أما الأخطر فيلحظ كيف يؤدي اقامة دويلتين من شعب واحد الى سلسلة من الصراعات الحدودية والاقتتال الدائم، مما ينتهي بشلل يصيب الطرفين ليستقوي كل منهما بالقوى الخارجية، وهنا يصبح الباب مفتوحا على مصراعيه لتغلغل النفوذ الصهيوني، بل الهيمنة الكاملة لاحقا، ولهذا فإن المطالبين اليوم بدويلات الطوائف والاثنيات في العراق يحققون بوعي أو دون وعي، المشروع الصهيوني.