"تعبر هذه المقالة عن وجهة نظر الكاتب الكبير محمد يوسف عدس وهي وجهة نظر جديرة بالاحترام ولكنها لاتمثل رؤية الحزب التي سوف يعلن عنها في غضون أيام قليلة" حتى لا يساء فهم ما أنا بصدده أقرر أننى أُكِنُّ احتراما كبيرا للمستشار طارق البشري، وأقدّر تمكّنه من تخصصه القانوني.. وأدرك عمق ثقافته فى تاريخ مصر السياسي.. ولا أشك لحظة فى إخلاصه الوطني، وقوة انتمائه لمهنة القضاء ودفاعه عن استقلاله وحساسيته -ربما المفرطة- من المساس به.. ولكن الحديث عن مشروع محور قناة السويس وفهمه يحتاج إلى إطار نظري وعملى أوسع بكثير من الإطار القانوني الذى ركز عليه المستشار البشري، حتى فُهِمَ منه أنه يُهاجم مشروع المحور.. لست أنكر حق المستشار البشري بل أرى أن من واجبه أن يدلى برأيه فى الجوانب القانونية للمشروع وأن ينبِّه إلى ما يعتقد أنه أخطاء، أو حتى قصور عن الكمال..
ولكن من حق المفكرين الذين لهم خبرات أعمق وأشمل فى موضوع المشروعات التنموية -فى أُطُرِها النظرية والعملية- أن يساهموا بطرح وجهات نظرهم وإلقاء الضوء علي الجوانب الغامضة غير المفهومة أو غير المألوفة فى مصر.. فإدارة مشروع إنمائي جديد بضخامة [مشروع محور قناة السويس] يتطلب -بالضرورة- تغييرا جذريا فى القوانين وأساليب الإدارة لتحقيق السرعة والكفاءة العالية فى حشد الموارد واستخدامها.. وصولا إلى النجاح المنشود.. وعلى الأخصّ فى ظروف مصر الاستثنائية بعد ظهور ثورة مضادة تسيطر على أجهزة الإعلام.. وتدعِّمها قوًى شرسة فى الداخل والخارج.. وإليك هذه الملاحظات الهامة:
أولا- هناك إلتباس فى التعبير اللغوي ترتب عليه خلط بين أمرين متمايزين.. تولد عنه سوء فهم شديد.. التقطته الصحافة والإعلام المتحيِّزّيْن؛ لتشويه المشروع، واتخاذ نقد المستشار البشري ذريعة دِعائية لمهاجمة الرئيس واتهام الإخوان بالتبعية اتهامات فاحشة.. وقد نسيَ المهاجمون أو جَهلوا أننا أمام أمرين منفصلين:
(1) مشروع بقانون مقترح قدمته الوزارة المعنيّة.. ولم تنتهِ مناقشته.. ولا تم إقراره رسميا بعدُ.. (2) هناك مشرع اقتصادى إنشائي لتطوير وتنمية ما يسمى بمحور قناة السويس: له معالم ، وله مراحل لتطويره، ذات أبعاد مكانية وزمنية محددة..
ثانيا- بناءً على هذا التمييز يمكن نقد مشروع القانون ويمكن تعديله وهو لايزال فى مرحلة المناقشة.. ولا أعتقد أن تغيب هذه الحقيقة عن وعيْ المستشار البشري.. ولا أعتقد أن أصحاب القانون المقترح لديهم ما يمنع من الاستفادة بآرائه.. و فى النهاية من واجبهم أن يدافعوا عن القانون ويشرحوه للناس؛ وبذلك يسحبون البساط الذى يقف عليه المهيِّجون والمهرِّجون فى الصحافة والإعلام..
يذهب الزَّبدُ جُفاءً ويمكث المشروع الإقتصادي العظيم نافعًا ثابتا على الأرض؛ فبتحقيقه تنطلق مصر إلى آفاق غير مسبوقة فى التقدم الصناعي والزراعي مستفيدة بإمكاناتها البشرية ومواردها وموقعها الجغرافي الفريد فى العالم.. هذا هو مفتاح النهضة الجديدة فلا يجب أن يضيع من يد أبناء مصر المخلصين.. مهما كانت المعوِّقات والضغوط وسوء الفهم الشائع..
ثالثا- لقد قرأت مشروع القانون بعين الفاحص الخبير المحايد، وقرأت نقد المستشار البشري بنفس الدقة وبنفس الحياد.. ولى على مشروع القانون ملاحظات طفيفة بعضها مجرد استفسارات هامشية.. كما لى على نقد المستشار البشري ملاحظات أيضا.. وأهمها: المبالغة المفرطة والغضب الذى لا مبرر له؛ خصوصا إذا أخذنا فى الاعتبار حقائق أخرى لم يضعها المستشار فى حسابه..
رابعا- نأتى إلى النقطة الحاكمة فى الموضوع، والحقيقة الجديدة الغائبة تماما عن الأذهان .. وهى أننا نتحدث عن "إدارة المشروعات" وهو مصطلح حديث نسبيا فى العالم المتقدّم (Project Management) ..غائب عن أذهاننا نظريًّا، وغائب عن حياتنا وواقعنا عمليًّا.. وإذا تحدث عنه من بيننا من قرأ عنه فى الأدبيات الغربية أو درسه هناك سقط حديثه على آذان صمّاء ..
هنا مثلًا، فى استراليا توجد بجامعاتها كليات ومراكز للدراسات العليا فى إدارة المشروعات: منتشرة فى ولاياتها السبعة.. وفى "كانْبرا" عاصمتها الفدرالية.. تتفرع عنها برامج تدريبية لاحصر لها فى كل مكان.. حتى أصبح مصطلح "إدارة المشروعات" يجرى على الألسنة باعتباره جزءًا من الثقافة الجماهيرية السائدة.. ولكن لا أظن أن هذا المصطلح قد تطرَّق إلى ذهن المستشار طارق البشري عندما نظر إلى المشروع من زاوية قانونية بحتة..
ذلك لأن "إدارة مشروع " جديد تستلزم تغييرات جذرية فى القوانين والإجراءات، كما تستلزم حشدًا للموارد وتجميعًا للاختصاصات الإدارية المبعثرة فى الوزارات المختلفة فى جهة واحدة، تكون تحت سيطرة إدارة المشروع؛ حتى لا يُهْدر الوقت وتتبدد الجهود والطاقات فى اللف والدوران خلال أروقة الوزارات والإدارات البيروقراطية .. خصوصا إذا كان المشروع من الضخامة والتشعب والتعقُّد كمشروع محور قناة السويس.. وعلى الأخص فى بلد ترسخت فيه البيروقراطية والفساد الإداري عقودا طويلة من الزمن..
شاهدت فى لندن محاضرة متلفزة للرئيس الأسبق بل كلينتون (حوالي سنة 2002م).. قارن فيها بين الفكر الغربي المتقدم الذى يسمح بالمعارضة والفكر الآخر، وبين التخلف الفكري فى بلاد المسلمين الذى لا يسمح إلا بوجهة نظر واحدة؛ ويزعم أن هذه النزعة متأصلة فى مدارسهم وبرامج تعليمهم.. واسترسل فى المقارنة ليصوّر الفروق الجوهرية بين ثقافة المجتمعات الغربية و المجتمعات المتخلِّفة؛ فضرب المثل بمصر وكيف فشلت مشروعات التنمية فيها؛ ونسب ذلك إلى البيروقراطية الغبية.. ولعدم إدراك المجتمع والسلطات لمفهوم "إدارة المشروعات" كما يعرفه الغربيون .. وقال وهو يضحك متهكما: "إن صدور ترخيص لفتح مخبز بسيط فى مصر يستلزم خمسمائة يوم دوران فى الإدارات المختلفة.. ناهيك عن الوساطة والرشاوى.. وتضييع الوقت ..."
المهم هنا هو إشارة كلينتون إلتى اطمأن إليها.. وحاول طمأنة الأوربيين أن مصر عاجزة عن أن تخرج من تخلِّفها أو تنطلق فى مجال التقدم الاقتصادى لأنها لا تفهم ولا تستوعب فكرة ولا ثقافة "إدارة المشروعات" كما يفهمها الغربيون ويألفونها..
أقول مؤكّدًا من واقع تجربتى ومشاهداتى للمشروعات الناجحة فى العالم أنه: لا شك عندى أن نجاح إدارة مشروع محور قناة السويس سيكون تجربة تاريخية تنقل مصر من عصر إلى عصر.. وسيكون نموذجا عبقريا يُحتذى به فى قطاعات ومشروعات أخرى؛ فإن "إدارة المشروعات" بهذه الطريقة الحديثة هو الملاذ الوحيد والأكيد للخروج من عنق الزجاجة والتخلص بلا رجعة؛ من المركزية المتحجّرة.. والبيروقراطية العفنة.. والانطلاق إلى آفاق واسعة فى التقدم الصناعي والزراعي .. وتوفير فرص العمل أمام الشباب والقضاء على البطالة المتفشية ..
أنا أزعم أكثر من هذا أن نجاح "أسلوب إدارة المشروعات" فى التنمية الاقتصادية هو فى حد ذاته ثورة هادئة.. من شأنها أن تحوِّل المجتمعات الراكدة المتبلّدة إلى مجتمعات حية فاعلة واعية بقدرتها على التغيير؛ إذْ تشهد ثماره متحققة فى حياتها اليومية .. كما أزعم أن هذا التحول خطوة حتمية لازمة لتفجير المؤسسات التى عشش فيها الفساد خلال عهد مبارك وأصبحت مستعصية على الإصلاح بالأساليب التقليدية الموروثة.. وأعنى بهذه المؤسسات: القضاء والشرطة والإعلام والإدارة.. سوف تستيقظ جميعها لتجد نفسها فى عالم آخر قد تجاوز مشكلاتها المزمنة وأساليبها فى التعويق والتنكيل والتضليل والتبلّد البيروقراطي..
نحن إذن أمام نقلة ثورية هادئة من نوع جديد.. غير مألوفة لنا.. ومحاولة فهمها فى إطار المنطق القانوني وحده محاولة قاصرة ومقترب خاطئ؛ فما كانت الثورات بكل أنواعها مفهومة ولا مقبولة -عبر التاريخ كله- من رجل القانون، بحكم وظيفته وتكوينه الفكري؛ فهو -فى أفضل أحواله- مع الاستمرار والاستقرار.. مع القانون.. حتى ولو كان صانعه طاغية مستبدّ.. حتى ولو كان مفصَّلًا على مقاس الطاغية وأهوائه.. رجل القانون بطبيعة تكوينه ضد التغيير وضد الثورة.. وإذا وُجد من رجال القانون ثُوَّار، فقد أصبحوا كذلك لأنهم تجاوزوا أنفسهم ومهنتهم وتعلّلقت قلوبهم بحرية شعوبهم وحقوقها فى الحياة الكريمة ضد الظلم المتحصِّن بعباءة القانون.
المشكلة فى هذا المشروع ليست فى المشروع نفسه، وإنما فى غياب فكرة "إدارة المشروعات" عن أفهامنا وثقافتنا.. وفى الطبيعة الغوغائية لإعلامنا الذى احتفل بمشروع توشكى؛ لصرف الأذهان عن تعمير سيناء.. الإعلام الذى صوَّر الجريمة للناس [تضليلًا] على أنها: "بناء حضارة جديدة فى قلب الصحراء"؛ ليسوِّغ للطاغية الأحمق إهدار المليارات من أموال الشعب.. ذابت تحت حرارة الرمال الحارقة.. هذا الإعلام نفسه هو الذى يحاول الآن تضليل الناس وصرفهم عن "مشروع محور قناة السويس" لأنه الركيزة الأساسية فى تعمير سيناء- الحلم المصري الأكبر.. والكابوس القاتل للمشروع الصهيوني الأمريكي.. نجاحه يثبِّت أركان النظام الذى يعمل أعداء مصر و أعداء ثورتها على تقويضه وإسقاطه.. ومن ثَمَّ لا يريدون له أن ينجح.. أو أن تحتشد قوى الشعب لمساندته .. [email protected]