قوضت وقائع السلوك الاتصالى المعاصر، المدعومة بانفتاح إعلامى، وبتطور تقنى لم يشهد العالم مثيلا له من قبل، مفاهيم سيادة الدولة القومية على أراضيها، وكان من أبرز تجليات هذا التقويض.. ضعف قدرة الدولة القومية على الحفاظ على سيطرتها على فضاءاتها الإعلامية، وعلى ملكيتها لها، بحسبان الملكية هى حق إبعاد الغير، فقد فتحت ثورة الاتصالات الحديثة حدود الدولة الجغرافية، وأعتقتها من مجالها المحلى، المكانى والزمانى، المحدود، إلى مجال ثقافى مفتوح، سواء فى علاقاتها بمواطنيها، أو فى علاقاتها بغيرها من الدول. وكان من نتائج ثورة الاتصالات الحديثة التى يشهد عالمنا العربى اليوم، إنعاش بعض الأسئلة القديمة التى خلقت -بسبب الشعور بالتهديد- مناخا صالحا للاحتراب، بين جزء من الخطاب الثقافى العربى السلفى الذى تبنى الانغلاق على تراثنا، وجزء من الخطاب الثقافى الحديث الذى تبنى الانغلاق على الغرب، بحسبان تراثنا العظيم هو سبب تخلفنا، على الرغم من أن الانغلاقيين وجهان لعملة واحدة. كما أثارت ثورة الاتصالات الحديثة فى عالمنا العربى المعاصر مجموعة أخرى من القضايا، ربما كان من أهمها، قضية حرية الكاتب فى التعبير، ضد ما تمارسه الرقابة -فى عصر السماوات المفتوحة!- على الإنتاج الثقافى بخاصة، على الرغم من أن جماع ما تمنعه الرقابة فى مصر، لا يجاوز حيزا ضئيلا مما يستطيع أى مواطن فى أفقر قرانا الاطلاع عليه، بضربة زر واحدة على حاسبه الآلى، أو عبر الشاشة المرئية، وما تبثه مختلف الأقمار الصناعية التى ملأت فضاءاتنا. الأمر الذى يضع جدوى بقاء الرقابة فى مجتمعنا موضع المساءلة. يعمل الجهاز الرقابى -فى أية دولة- بوصفه وسيطا أيديولوجيا يسعى إلى مصادرة ما يظن أنه يهدد قيم المجتمع، وهذا ما أخضع النتاج الثقافى الأدبى والفنى بخاصة، إلى نظام معيارى ارتبط بما يسمى موروث المجتمع الخلقى، أو بوهم وجود هذا الموروث الجمعى على أقل تقدير، الأمر الذى مثل شكلا من أشكال الوصاية الأخلاقية والقيمية على ما يستقبله أفراد مجتمعنا، من النتاج الفكرى والثقافى، دون حسبان تباينات المجتمع الفكرية، والاختلافات القائمة بين فئاته الأيديولوجية. وهذا ما صب معظم النتاج الثقافى فى قوالب تحاشت مراجعة السياسى، والجنسى، والعقدى، وذلك من خلال المهمة التى يمارسها هذا الحارس الأيديولوجى، الذى حكم الحراك الفكرى والثقافى طويلا بضلعى المقص، الإباحة بعد التعديل، أو الحظر والمصادرة. .. وأرى أن مجتمعا عمره سبعة آلاف سنة، توالت عليه حضارات شتى، وامتلك هذا التراكم التاريخى الفريد، هو مجتمع راشد، لا يحتاج إلى رقيب دينى أو غير دينى على نتاجيه، الفكرى والأدبى، فلنكتف بالمجتمع رقيبا على ثقافته، وذلك من أجل فتح الأنساق الفكرية المغلقة، وتطوير حركة الجدلين الفكرى والثقافى، اللازمين لأى تطور سياسى واجتماعى وثقافى، بعد أن غاب عن بيئتنا الثقافية أى تفاعل مؤثر بين المؤسسات الثقافية، وما يموج به الواقع الثقافى الحالى من تيارات، فكرية وثقافية وجمالية، منذ أن تبنت المؤسسات الثقافية القائمة الاهتمام بقضايا ثانوية فى خارج صلب اهتمامات المجتمع، وشيدت سلطتها على ملكيتها لموارد ثقافية حددت سلفا شروط استثمارها! ونشير إلى الدور المهم الذى يمكن أن تلعبه النقابات الفنية، والاتحادات الفكرية، فى دعم حرية الفكر، وذلك إذا استطاعت ان تعدل قوانينها على نحو يحد من المساس بأمن الكاتب أو الفنان، بسبب رأى أبداه، أو نشاط إبداعى مارسه. ربما تدفعنا هذه الحرية المنشودة إلى ما لم تستطع نخبة هذا المجتمع الفكرية والثقافية أن تقوم به من قبل، وذلك فى أن تقف موقفا نقديا مؤثرا من تراثها من جهة، وموقفا نقديا آخر مما تفرضه الثورة المعرفية الجديدة من قيم لا تناسب مجتمعاتنا من جهة أخرى، وهذا ما لن يتم إلا عبر الإيمان بالجدل، والتمسك بحرية التعبير، من أجل أن يسمح المجتمع للموضوعات جميعها، أن تدخل تحت مظلة الحوار والمساءلة، بدلا من أن تناقش فى الغرف المغلقة، على نحو قد يؤدى إلى خلق مجتمع منافق، يقول ما لا يقصده، ويقصد ما لا يقوله. ولا يمكننا فى هذا السياق أن نغض الطرف عن الإشارة إلى رفض معظم المثقفين أن تقوم أية مؤسسة دينية، فى مصر أو فى الوطن العربى، بدور رقابى على الإبداع، فالحكم على منتوجات الخيال، وتقويمه، ليس من اختصاص الجهات الدينية، لأن ما يحكم عالم الخيال يختلف عما يحكم عالم الواقع. وفى ظل تحول الفنون والآداب إلى علوم متخصصة، أصبح تقويم رجل الدين، أو المؤسسات الدينية والعقدية، للعمل الأدبى أو الفنى، يشبه تقويم مخرج سينما، أو شاعر، لمسألة فقهية، أو عقدية، فضلا عن أن عالما عربيا تعيش تحت جناحه مجتمعات مختلفة الديانات والمذاهب، والأعراق، جمعها معا تراكم واحد لحضارات غنية متعددة، لا يمكن أن تعبر عنه جهة دينية واحدة فقط، فى موضوع مثل موضوع مكانة الأخلاق والقيم ومساوئ حضورها فى النتاج الثقافى المعاصر، فالعمل الأدبى أو الفنى سريع الاستجابة لواقعه، ومن طبيعة الفن الجيد إثارة الأسئلة، وتجاوز الواقع، إيمانا بممكن آخر وجديد، أى أن أسئلة العمل الأدبى أو الفنى القوى هى أسئلة إشكالية على الدوام، وهذا ما يناقض أية أفكار ثابتة، عقدية أو إيديولوجية، تؤمن باستقرار المفاهيم. أما الموضوع فى العمل الأدبى، فمثل الموضوع فى العمل الفنى، لا ينظره الراشد إلا من خلال شكل المضمون فيه، ولا يطل معناه على القارئ إلا حين يفقد العمل جمالياته، ولا يتبقى منه غير رسالته المباشرة الفجة، ربما قال صديقى، أراك تنادى بحرية الجميل! وربما قلت، نعم أنادى بحرية الجميل، أما السؤال الذى سيبقى مؤرقا، ودون إجابة قاطعة، فهو سؤالنا الدائم عن معنى الجميل!