بعد أسابيع من الفوز الكاسح الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية، وحيث رفع نسبة أصواته من 34 إلى 47 في المئة، ها هو الحزب يخطو خطوة أخرى بالغة الأهمية بحصوله على منصب رئيس الجمهورية لصالح مرشحه عبد الله غل الذي كان ترشيحه للمنصب هو الذي دفع إلى الانتخابات النيابية المبكرة.
بحسمه للمعركة الانتخابية الجديدة واستئثاره بمنصب الرئاسة، يمكن القول إن حزب العدالة والتنمية التركي قد سيطر على الموقع الرئيسي الثالث في الدولة بعد سيطرته على السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولتبق المؤسسة الأمنية والعسكرية خارج سيطرته، وهذه حتى في الديمقراطيات الكبيرة لا تخضع لسيطرة الأحزاب الحاكمة، لأنها أكثر رسوخاً منها، ويمكنها تبعاً لذلك التأثير بشكل قوي على الأحزاب والحكومات المنتخبة إذا ذهبت في اتجاه إحداث تغييرات جوهرية في مسارات راسخة في هياكل الدولة وسياساتها البنيوية.
الفارق بين المؤسسة العسكرية والأمنية في تركيا ونظيرتها في الدول الغربية هو حضورها الخفي شيئاً ما في الغرب، مع انسجامها مع التراث الجمعي للدولة القومية في تجلياتها الجديدة بعد الحرب العالمية، مقابل دورها السافر في الحالة التركية، فضلاً عن تبنيها لعلمنة قسرية مناهضة للدين لا تنسجم مع الوعي الجمعي للشعب التركي.
هناك بالطبع مؤسسة رابعة في النظام التركي لعلها الأكثر أهمية على الإطلاق، وتتمثل في مجلس الأمن القومي الذي طالما وقف في مواجهة الإسلاميين، وهو في واقع الحال الواجهة التي استخدمها العسكر منذ الستينيات لتأكيد سطوتهم، ولحماية الإرث الأتاتوركي العجيب، لاسيما أن الدستور قد منح المجلس صلاحيات واسعة يمكن من خلالها التلاعب عملياً باللعبة الديمقراطية برمتها، بما في ذلك حل الأحزاب وشطبها وحرمان مؤسسيها من العمل السياسي كما فعلوا مع نجم الين أريكان، وكما فعلوا مع رجب أردوغان نفسه عندما سجنوه لمدة أربعة أشهر على ترديده لبيت شعر في التراث التركي تشتم منه رائحة الأصولية!!
الآن، وبعد فوز غول بالرئاسة سيطر حزب العدالة والتنمية على نصف أعضاء المجلس العشرة، بمن فيهم رئيسه الذي هو رئيس الجمهورية نفسه، إضافة إلى رئيس الوزراء ووزيري الدفاع والخارجية والداخلية، ويبقى الخمسة الآخرون وهم رئيس الأركان وقادة الجيش الأربعة، مع العلم أن قيادة العدالة والتنمية لن تعدم صوتاً عاقلاً من بين أولئك يحسم الثنائية الموجودة بتساوي الأصوات، من دون أن ينفي ذلك إمكانية استمرار التجاذب بين الطرفين طوال المرحلة المقبلة، وحتى ينجح الحزب في إعادة النظر في الدستور وطرحه على استفتاء شعبي كما هو برنامجه المعروف.
في هذه الأيام، أعني بعد فوز غول سيتكرر الجدل الذي تابعناه إثر فوز الحزب في الانتخابات قبل أسابيع؛ وبالطبع بين علمانيين يقولون إن ما يجري لا صلة له البتة بظاهرة الإسلام السياسي العربية، وأن الحزب قد انتخب على أساس إنجازاته الاقتصادية، بل حتى على أساس من التزامه بالعلمانية وليس بالنهج الإسلامي، وبين علمانيين آخرين يطالبون الإسلاميين العرب لكي يغدو مقبولين بانتهاج سياسات العدالة والتنمية العلمانية في مختلف الميادين، بما في ذلك الأخلاقية، وربما العلاقة مع الجولة العبرية أيضاً، فيما يذهب بعض الإسلاميين في سياق احتفالهم بالفوز إلى القول إن التجربة "الإسلامية" في تركيا قد نجحت في انتزاع القيادة بذكاء، وأن أردوغان وأصحابه هم إسلاميون لم يغيروا جلدهم، لكنهم تمكنوا من الاحتيال على واقعهم الصعب ولن يلبثوا أن يسفروا عن هويتهم الحقيقية.
والحال أن من حقنا كمؤمنين بهوية هذه الأمة وريادتها أن نفرح بعودة تركيا إلى هويتها من خلال مجموعة من المتدينين، حتى لو عجزوا عن ترجمة ما يؤمنون به في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ما داموا يسيرون في الاتجاه الصحيح ويخدمون شعبهم بشكل جيد، لاسيما حين يسمحون تالياً بحرية التدين المحاربة في تركيا. وهنا نعيد التأكيد على أن هؤلاء لم ينجحوا فقط بسبب إنجازهم الاقتصادي (لهذا الإنجاز صلة بتدينهم وعدم فسادهم أيضاً)، بل نجحوا أولاً وقبل كل شيء بسبب خلفيتهم الدينية المنسجمة مع وعي الأتراك في ظل الصحوة الدينية الواسعة، ونذكّر مرة أخرى بأن الحزب الذي ورثوه قد سبق وحصل على 22 في المئة من أصوات الأتراك منتصف التسعينيات قبل أن يتزايد المد الإسلامي على هذا النحو الكبير. ومن يعتقد أن الأتراك قد نسوا لماذا سجن أردوغان ليس سوى مكابر يرفض الاعتراف بالحقيقة، ولو سألت أيا منهم عن سبب سجنه لردد على الفور بيت الشعر الشهير "المآذن حرابنا والقباب خوذاتنا والمساجد حصوننا والمصلون جنودنا".
حتى الآن نحن أمام تجربة سياسية لمتدينين في دولة تحارب التدين بمختلف الوسائل، وهو انتصار كبير من دون شك، وإذا ما نجحوا خلال الأعوام المقبلة في تكريس مصالحة بين الدين والحياة من دون المس بالحريات العامة، فإن الوضع سيشير إلى نجاح حقيقي، والمصالحة التي نتحدث عنها لا تعني النموذج الذي يحذر منه بعض العلمانيين، وغالباً بسبب موقف مسبق من الإسلام كدين، وإنما مصالحة مع الذات والهوية، وإلا فهل يماري أحد بأن بريطانيا أو ألمانيا أو هولندا على سبيل المثال دول مسيحية؟!
لا يعني ذلك أن الرؤى الإسلامية في السياسة والاقتصاد والاجتماع هي محض أوهام، كما يذهب البعض، بل هي حقيقة واقعة قد يأتي في تركيا لاحقاً من يتبناها في ظل ديمقراطية حقيقية وينافس بناءً عليها مثل سواه في الانتخابات.
تبقى نقطتان، الأولى أن ما يجري في تركيا لن يتكرر عربياً في الأمد القريب لأن النخب الحاكمة التي سيطرت على السلطة والثروة لن تسمح لأحد بالاقتراب من سلطتها أو تهديد مكتسباتها، أياً تكن هويته وأفكاره. أما الثانية فهي أن ما جرى إلى الآن لا يعني أن التجربة التركية ذاتها قد اكتملت، لأن العسكر ما زالوا واقفين بالباب، ومن ورائهم دعم خارجي لا تخفيه تصريحات المجاملة والمديح لأردوغان وأصحابه.