إيه أخبار الحب..؟.. ذاك كان هو السؤال المعتاد والمتوقع الذى كان ينطلق دائما من بين شفتى الفنان الكبير عبد الغفار عودة المبتسمتين فى هدوء آسر حتى وهو يستعد للحديث فى أصعب المشاكل أو يستمع إلى أصعب الأنباء. والذى كان فى الحال وعلى التوّ يبدد كل ما يمكن أن يوحى به مظهره الفخم الضخم من تجهم أو صرامة –أهّلاه للعب دور هامان فى المسلسل التلفزيونى الشهير– دون مراعاة لما يكنّه قلبه الطيب ومشاعره المرهفة من ودّ ومحبة كان شاغلهما الشاغل هو الاطمئنان على المحبة، ومعرفة آخر أخبار العطاء، وبالتحديد عطاء الموهوبين فى مساحة الفن الدرامى التى عشقها ومنحها طاقة عقله وجهد نفسه وفيضان مشاعره حتى اللحظة الأخيرة قبيل الرحيل! كل ذلك تذكرناه وعشنا معه واحتفلنا به فى "مسرح الغد" ضمن ليلة عرفان ضمّت من أحباء الفنان الكبير وتلاميذه كثيرين، دعاهم مديره الفنان عبد الرحيم حسن وزملاؤه الذين تكفلوا بالمناسبة، فأعطوها حقها من الجهد؛ مثلما أعطى الحاضرون عبد الغفار عودة بعض حقّه من التقدير وبعض ما يستحقه من الوفاء وبعض ما أسعفتهم به ذاكرتهم المُحبة من كنوز الذكريات. تحدث رفاق الرحلة؛ صديقاه الدكتور سناء شافع والدكتور حسين عبد القادر عن ذكريات مفعمة جمعتهم وعن مواقف له كانا من شهودها، وعن إنجازات حقيقية لا يزال شهودها والمستفيدون منها الذين اعترف بمواهبهم وأعطاهم فرص الظهور ودفعات الدعم حاضرين، وأولهم تلاميذه ومريدوه فى مشروع "المسرح المتجول" فكرته وعطاؤه وثمرة إصراره ودأبه العجيب. وحين جاء دورى قمت لأتحدث وقد أجهدنى التذكر وأثقل قلبى تلاحق الذكريات، فقررت على طريقة المسرح أن أستريح منها بالبوح، وأتخلص من ألمها بالحكاية، ولتكن إذن شهادة أو ثلاث شهادات، وليكن أيضا ما يكون: أما الشهادة الأولى فزمانها كان عام 1978م؛ حينما اجتمع عاشقون للمسرح المصرى ومدافعون عنه كى يؤسسوا ناديا تكون مهمته إحياءه وبعثه وإيقاظه من حالة ركود انتابته وسط ركام أفلام المقاولات ومطاردات أذواق الطبقة الجديدة ورغبات "المحدثين" الذين سيّدتهم الأموال ومكنتهم المكاسب كى يسيطروا ويبدلوا ويشوهوا طوال أيام الانفتاح. من أجل ذلك الهدف التقت الفنانة الكبيرة السيدة سميحة أيوب –مديرة المسرح القومى وقتها- والدكتور إبراهيم حمادة والدكتور سمير سرحان والدكتور فوزى فهمى والمخرج عبد الغفار عودة والدكتور ناجى شاكر والفنان التشكيلى الدكتور حسن درويش والكاتب المسرحى صفوت شعلان والصحفى مرسى النويشى والفنان زوسر مرزوق وكاتب هذه الكلمات -الذى كان معيدا بمعهد الفنون المسرحية آنذاك- والإدارى لمعى يوسف بطاقته الكبيرة فى العمل وإخلاصه. أما الكاتب المسرحى الكبير الأستاذ سعد الدين وهبه فقد أظلنا دعمه "الأدبى" وساندتنا رعايته "المعنوية" حقيقة. ومع ذلك فقد كانت البداية مغامرة أو مخاطرة بخزينة خاوية ليس بها ما نبدأ به. وقلوب مرتجفة تخشى أن تخسر الفرصة السانحة من احتفاء المسرح القومى بالفكرة ومنح المجموعة الحق فى الاجتماع بإحدى قاعاته وعرض ما ننتجه من مسرحيات على منصته؟! وبسرعة البرق -وكما يحدث دائما فى المشروعات الكبرى– ومضت فى أذهاننا الخاطرة الملهمة: الإعلان عن العضوية السنوية وبمبلغ جنيه واحد فقط. وفى ظرف شهر تقريبا حدثت المفاجأة الكبرى حين انضم إلى النادى أكثر من 25 ألف عضو، أى بما يضمن إصدار عدة أعداد من مجلة "نادى المسرح" – كان العدد أيامها يكلف سبعة آلاف جنيه طباعة– وكان العمل تطوعيا محضا؛ حيث لم تكن هناك أية مكافآت للكتاب أو للعاملين المتطوعين بالمجلة والنادى الذى عينت السيدة سميحة أيوب رئيسا لمجلس إدارته، ثم استقر الوضع على أن تسند رئاسة تحرير المجلة للدكتور سمير سرحان والدكتور فوزى فهمى "معا"!.. وأن يكلف بالإدارة المالية صفوت شعلان وبإدارة المجلة الصحفى المرسى النويش، ويعهد إلى بسكرتارية التحرير، ثم فيما بعد بإدارة التحرير، حيث لم تكن المهمة سهلة على الإطلاق رغم جاذبيتها ورغم الشغف المحموم بها! وهنا بدأ دور عبد الغفار عودة فى الظهور كمكلف بالعروض المسرحية. وهنا أيضا تفجر إخلاصه وانبثقت طاقاته الدائبة فى العمل، فبدأ الإنتاج المسرحى الراقى المذهل: إنتاج مسرحية من يخاف فرجينيا وولف مع مخرج شاب جديد هو محمد عبد الهادى يقدم لأول مرة هو والنص الشهير حيث لاقى نجاحا فنيا شهد له به. وكذلك إنتاج مسرحية الأستاذ تأليف سعد الدين وهبة وأول إخراج للفنان الكبير جميل راتب على المسرح المصرى.. عدا أعمال مسرحية قصية دشنت أسماء جديدة لمعت لشبان مسرحيين من جميع التخصصات. كما بدأت قوافل المشاهدين من المحافظات ومن قصور الثقافة فى الحضور المتتالى مرتّبة منضبطة رائعة كى تشاهد العرض ثم تحضر الندوة الملحقة، وبعدها تعود فى سيارات وزارة الثقافة حاملة رسل المسرح ودعاة التنوير ورافعى مشاعل التحضر وباقات الارتقاء. ألا يفعل المسرح كل ذلك؟.. ألم نردد معا كثيرا مقولة خالدة تقول: أعطنى مسرحا أعطك شعبا؟!.. لقد كان ذلك تطبيقا عمليا حقيقيا ودرسا واقعيا مستعصيا على الإنكار. تلك كانت هى الشهادة الأولى. ( يتبع ).