كانت العلمانية، تاريخيا، من الأمور التى أدت إلى انفصال بنجلاديش عن باكستان؛ فالقادة البنغال كانوا علمانيين متطرفين وموالين للهند، فسعوا إلى الانفصال عن دولة باكستان التى انفصلت عن الهند من أجل أن تؤسس على أساس الإسلام والشريعة. بقيت العلمانية متحكمة فى بنجلاديش وفى ساستها وحكامها، وكان آخر مظهر لذلك هو الحكم الذى أصدرته مؤخرا محكمة جرائم الحرب بالإعدام على أحد قادة حزب «جماعة الإسلام» الإسلامى المعارض «دلوار حسين سعيدى»؛ فقد وجهت إلى الزعيم البارز ومنظّر الحركة الإسلامية، تهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال حرب الاستقلال عن باكستان. حكم المحكمة الذى صدر بحق الداعية الإسلامى البالغ من العمر 73 عاما، أصبح الحكم الثالث الصادر عن المحكمة العسكرية فى بنجلاديش بحق الشخصيات البارزة فى الأحداث الدامية التى جرت منذ 40 عامًا. أحكام جائرة ففى بداية شهر فبراير الماضى، حكمت المحكمة بالسجن مدى الحياة على زعيم حزب «جماعة الإسلام» الملا عبد القادر. وفى شهر يناير الماضى، صدر حكم بالإعدام على الداعية المعروف مولانا عبد الكلام أزاد، وهو من الشخصيات التى برزت فى أحداث عام 1971م الشهيرة. كل حكم من هذه الأحكام رافقته تظاهرات غاضبة لمؤيدى «جماعة الإسلام» خرجوا إلى الشوارع واشتبكوا مع قوات الأمن؛ إذ وصل عدد ضحايا الاشتباكات التى اجتاحت البلاد إلى العشرات، وأصيب أكثر من 200، لكن الحكم الذى صدر بحق دلوار حسين سعيدى، كان الأكثر إثارة؛ فقد بدأ الإسلاميون فى إضراب عام نتج منه إغلاق المدارس والمتاجر والمكاتب، فى أسوأ أعمال عنف تشهدها البلاد منذ استقلالها؛ ما رفع عدد القتلى إلى 80 قتيلا منذ 21 يناير الماضى. وكان سعيدى قد اتهم بثمانى تهم؛ منها القتل والاغتصاب وإجبار هندوس على اعتناق الإسلام أثناء الحرب الدامية فى 1971م بين بنجلاديش وباكستان (التى كانت دكا تتبعها تحت مسمى باكستانالشرقية). وقد شُكّلت المحكمة دون مشاركة أو إشراف من الأممالمتحدة عليها، رغم أن الدولة تطلق عليها اسم «المحكمة الدولية للجنايات»، وهى متهمة بأنها صنيعة السلطة لدوافع سياسية، لا سيما أن أغلبية المحاكمين ينتمون إلى المعارضة. أما الحكومة العلمانية المتطرفة فترد بأن هذه المحاكمات ضرورية من أجل طى صفحة حرب الاستقلال، التى أدت إلى مقتل ثلاثة ملايين. المسلمون الأكثرية المظلومة الغريب أن دولة بنجلاديش لا يعيش فيها المسلمون أقلية، لكنهم غالبية ساحقة تصل إلى أكثر من 85% من السكان البالغ عددهم 150 مليونا؛ فبنجلاديش هى ثالث أكبر بلد مسلم فى العالم بعد إندونيسيا وباكستان، لكن الإسلاميين فيها يتعرضون لعمليات انتقامية، وتصفية حسابات قديمة لأسباب سياسية. وكانت الحكومة البنغالية الحالية برئاسة حسينة واجد، قد شكّلت المحكمة الخاصة فى عام 2010م، للتعامل مع البنغاليين الذين حاولوا أن يعيقوا نيل بنجلاديش الاستقلال عن باكستان. تاريخ من الصراع وتعود الأحداث إلى ما بعد عام 1947م الذى شهد انفصال باكستان بشطريها عن الهند؛ فبعد هذا التاريخ، بذلت الهند قصارى جهدها للتحريض على انفصال باكستانالشرقية (البنغال) عن باكستانالغربية (باكستان)، فكان أن أوجدت لها وكلاء بنغاليين نجحوا فى الترويج بين العامة، لمزاعم معاملة السلطات الباكستانية إياهم معاملة مختلفة عن الباكستانيين. وقد آتت الجهود الهندية ثمارها باندلاع الحرب بين شطرى باكستان. وكانت الهند تقف بجانب باكستانالشرقية، حتى تم لها الانفصال والإعلان عن دولة بنجلاديش المستقلة فى 26 مارس عام 1971م، التى حظيت بدعم الدول التى كانت تناصب المسلمين العداء، لكن الجماعة الإسلامية كانت آنذاك تقف فى صف الوحدة وبقاء شطرى باكستان معا دولة غنية قوية. وما يؤكد النوايا العلمانية المتربصة بالإسلاميين، أنه فى العام نفسه اُعتقل الآلاف من معارضى للانفصال، لكن الحكومة آنذاك برّأتهم وأطلقت سراحهم، بعد إبرام اتفاق بين بنجلاديش وباكستان والهند، وأعلن العفو عن جميع المعارضين. فإذا كانت الحكومة قد برأت المتهمين وقتها، فلماذا تثار القضية مرة أخرى بعد مرور 42 عاما؟ الإجابة تكمن فى أن حزب «رابطة العوام» العلمانى الحاكم، أدرك مدى تعاظم قوة الجماعة الإسلامية، وتضاعف نفوذ الحزب بين الناس، وأيقن أنها وبثقلها الشعبى باتت تشكل خطرًا كبيرًا عليه وعلى الطابع العلمانى للدولة، فلم يجد سوى إعادة إثارة القضية عام 2008م. وكانت الاتهامات جاهزة، بل أكثر من ذلك؛ أعلنت الحكومة عدة قرارات قمعية؛ منها حظر أية ممارسة إسلامية سياسية، ومنع التعليم الإسلامى، واتخاذ كل الوسائل الموجهة لإضعاف المعارضة الإسلامية. التهم الموجهة إلى الشيخ سعيدى سياسية بالأساس، وتتعلق بموقفه المعارض للحكومة البنجلاديشية التى تصفى حساباتها معه ومع الجماعة الإسلامية المعارضة لحكمها ولسياساتها لدرجة وصلت إلى قتل عشرات المتظاهرين السلميين الرافضين لهذا الحكم بالرصاص الحى، وبأيدى رجال الشرطة. بهذه الأحكام، ترتكب الحكومة البنجلاديشية الأخطاء التى ترتكبها كل الحكومات الاستبدادية الفاسدة ضد شعوبها، وترفض التعامل بالمنطق والعقل والقانون، باعتبار أن الجماعة الإسلامية جزء أصيل من نسيج الشعب البنجلاديشي، ومن مصلحة الجميع تصفية الحسابات السياسية بالحوار السياسي، لا بالحظر والقتل والسجن والإعدام. ويعتقد المراقبون أن حكم الإعدام الصادر ضد الشيخ سعيدى، إذا نُفّذ، يمثل جريمة ضد الإنسانية، ومخالفة صريحة لكافة الأعراف والمواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، التى تجرم التمييز العنصرى، وتؤكد حق المواطنين فى المحاكمة العادلة، وفى أن تنظر قضيتهم محكمة مدنية مستقلة.