كما هى الحال فى مصر وليبيا، تعيش تونس ظروفا سياسية وأمنية واقتصادية صعبة، بل معقدة؛ نتيجة عامين من الركود الاقتصادى الكامل الناتج أساسا من عدم الاستقرار والعنف المنتشر فى الشارع، والتشاحن والكيد السياسى من قوى اليسار والعلمانيين للتيار الإسلامى الفائز بالأغلبية فى الانتخابات، الذى عطل كافة مظاهر الحياة فى البلاد. ولم يكن غريبا -نتيجة للتوتر فى الشارع التونسى- أن تمدد السلطات التونسية حالة الطوارئ فى البلاد ثلاثة أشهر قادمة، حتى الثالث من يونيو المقبل، بعد مشاورات بين الرئيس المنصف المرزوقى مع رئيس الحكومة حمادى الجبالى، ورئيس المجلس التأسيسى مصطفى بن جعفر. وكانت حالة الطوارئ قد فُرضت فى تونس فى يناير عام 2011م عقب فرار الرئيس السابق زين العابدين بن على إلى السعودية. ومنذ ذلك الوقت يجرى التمديد فى أغلب الحالات لمدة شهر واحد ثم يعاد التجديد ثانية. ونتيجة للظروف الاقتصادية غير المواتية، سعت حكومة «حركة النهضة» السابقة برئاسة حمادى الجبالى إلى الحصول على قرض من صندوق النقد الدولى، على أمل إنعاش الاقتصاد، لكن المعارضة التونسية تعتبر أن هذا القرض، الذى تبلغ قيمته 1,74 مليار دولار، خطرا جسيما على الاقتصاد التونسى الذى يعانى أصلا أزمات متعددة. رفضت المعارضة هذا القرض، وحذرت من شروطه وتداعياتها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، خاصة القدرة الشرائية للمواطن التونسى التى تدهورت تدهورا لافتا خلال الأشهر الماضية، فيما تحذر «حركة النهضة» وحكومتها من تسييس هذا الموضوع ومغالطة الرأى العام بشأنه؛ فهما يريان أن الاقتراض يشكل السبيل الوحيد لدفع عجلة الاقتصاد الوطنى التونسى، خاصة أن مستوى الادخار فى تونس لا يزال ضعيفا، وأن تونس بإمكانها التحكم فى معدل المديونية الذى يبلغ حاليا 47% من إجمالى الناتج المحلى. وقد ازدادت حدة الأزمة التونسية بعد استقالة رئيس الحكومة السابق وأمين عام «حركة النهضة» حمادى الجبالى، نتيجة عدم تمكنه من تشكيل حكومة كفاءات من التكنوقراط البعيدين عن السياسة والأيديولوجيات والمواقف المسبقة، خاصة بعد أن اتخذ الجبالى موقفا معارضا لحركته ولزعيمها راشد الغنوشى الذى انطلق من موقف أن الحكومة لا بد أن تكون سياسية. ويرى المراقبون أن أسوأ الأزمات التى يمكن أن تواجه حكومة العريض وتُفشل حكومته القادمة، هو انهيار مسار صياغة الدستور، لكن هذا الاحتمال بعيد؛ نظرا إلى التقدم الذى تحقق فى هذا المجال، بالإضافة إلى أنه ليس من مصلحة النهضة المجازفة بانتخابات جديدة للمجلس التأسيسى، وهى التى تتحكم اليوم فى القرارات بالمجلس نتيجة تقدمها فى عدد المقاعد، كما أن «النهضة» قبلت بحلول توفيقية فى المنعطفات الهامة للنقاش حول الدستور، على غرار التخلى عن إدراج الشريعة فى الدستور، والقبول بنظام رئاسى معدل مثلما طالبت بذلك المعارضة العلمانية. كما يمكن أن تحدث أزمة تواجه حكومة العريض إذا قوّى تكليفه برئاسة الحكومة إلى شوكة الجناح المتشدد ل«حركة النهضة» والمجموعات السلفية خارج نطاق الحركة؛ إذ يمكن أن يشجع ذلك هذه الأطراف على تقديم طلبات إضافية للمجلس التأسيسى، لكن هذا السيناريو أيضا بعيد الاحتمال؛ لابتعاد النهضة بتواصل عن السلفيين والتأثير القوى للغنوشى فى اتجاه الاعتدال. فى هذه الأجواء المتأزمة، جاء إعلان زعيم «حركة النهضة» الإسلامية راشد الغنوشى، أن الحركة تخلّت عن الوزارات السيادية فى الحكومة التونسية التى يجرى تشكيلها، وأنه تم التوافق على أن يشغلها مستقلون، فى قبول لمطلب أساسى للأحزاب السياسية. جاء هذا الإعلان ليخفف حدة الأزمة ويمكّن على العريض من الإعلان عن تشكيلته الحكومية فى أقرب وقت. لكن ما لفت الأنظار بشدة مؤخرًا فى المشهد التونسى، هو تقليل رئيس «حركة النهضة» راشد الغنوشى، حدة وخطورة الاحتجاجات والاحتقانات الأمنية، ووصفها ب«لعب الأطفال»، مقارنة بما يحدث فى دول أخرى عرفت ثورات، وقوله -تعليقا على حالة الحيرة أو القلق عند بعض المواطنين تجاه الوضع فى تونس- إن «جزءًا من الإعلام يساهم فى تهويل الوضع»، مضيفًا: «لا أنكر وجود نقائص فى مستويات اقتصادية واجتماعية وأمنية، لكنها طبيعية وبديهية فى مرحلة الانتقال الديمقراطى وما بعد الثورة». تأتى تصريحات الغنوشى، التى تبدو معبرة عن الثقة بالنفس وب«حركة النهضة»، بعد تقارير كثيرة تحدثت عن انشقاقات محتملة داخل الحركة نتيجة الاختلافات فى المواقف السياسية بين قيادات الحركة. وكان آخر هذه الخلافات ما لوّح به رئيس مجلس الشورى فى «حركة النهضة» فتحى العيادى بشأن طرد القيادات التى تدعو إلى الحوار مع حزب «نداء تونس» الذى يقوده الباجى قائد السبسى، فى رد قوى على دعوة أطلقها الرجل الثانى فى الحركة عبد الفتاح مورو. وشدد العيادى على أن ملف الحوار مع «نداء تونس» قد أُغلق، وأن الحركة ستجمد كل من يخرج من القيادات عن موقفها العام فى هذه القضية. تصريحات الغنوشى تنطلق من ثقة بالنفس، ومؤكدة أن الخلافات فى الرأى داخل الحركة أمر من طبيعة العمل الديمقراطى ومن سماته؛ فهناك مناقشات مطولة داخل الحركة فى كل القضايا المطروحة. المهم أن يخرج القرار النهائى بأكبر قدر من التوافق، وتلتزم به كوادر الحركة وأجهزتها. وقد أصدرت مؤسسة «ذى أتلانتك كاونسل The Atlantic Council» البحثية الأمريكية، تقريرا عن الوضع فى تونس، قالت فيه إن حالة الاستقطاب السياسى الحالية تعكس «آلام النمو» فى ديمقراطية ناشئة. وأعرب التقرير عن اعتقاده أن العريض سيكون أكثر تمسكًا بمواقفه من الجبالى، لكنه ليس من الواضح إلى أى حد أو فى أى المجالات بالذات سيكون ذلك. وأضاف التقرير أن أحد دروس الأزمة الأخيرة هى أن مجلس الشورى هو الذى يملك زمام تسيير سياسات «حركة النهضة» بالكامل، ومن ثمة فهو يملك، فى العديد من الحالات، زمام تسيير سياسات الحكومة. واعتبر التقرير أن التشكيلة الحكومية الجديدة سوى تظهر مدى استعداد حركة النهضة للقبول بحلول وسط فى ظل حكومة العريض.