جاءت نتائج الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة مفاجئة لجهة التراجع الكبير في قوة "الليكود بيتنا" والتقدم الكبير لحزب "هناك مستقبل"، غير أن المفاجأة أتت نسبية نوعاً ما، كون استطلاعات الأسبوع الأخير أشارت إلى تراجع مضطرد في شعبية "الليكود بيتنا" وإلى نسبة مترددين عالية لامست حدود ال خمسة عشر بالمائة، حتى أن استطلاع يديعوت مينا تسيمح في الجمعة التي سبقت الانتخابات، قال بوضوح: إن هؤلاء قادرين حتماً على صنع المفاجأة وتغيير دفة القيادة أو على الأقل التأثير عليها جدياً وهو ما حدث فعلاً. الانتخابات أو بالأحرى طريقة التصويت للقوائم المختلفة تقدم صورة واضحة عن الواقع الحالي في الدولة العبرية، حيث الانزياح إلى اليمين ما زال متواصلاً، وحيث الرغبة في تناسي أو تجاهل الهمّ السياسي الأمني لصالح التركيز على القضايا الاقتصادية الاجتماعية، وهو الأمر شبه المستحيل قياساً إلى طبيعة الدولة العبرية ومقارباتها لأزماتها منذ نشأتها حتى اليوم. نتن ياهو بلا شك هو الخاسر الأكبر في الانتخابات شخصياً وسياسياً، فقد تراجعت قوة "الليكود بيتنا" بمقدار الربع تقريباً في نمط تصويت أظهر رفض الإسرائيليين أو شريحة واسعة منهم لسياسات رئيس الوزراء الذي وإن نجح في تهميش الملف الفلسطيني وإزاحته عن جدول الأعمال إلا أنه استبدله بالملف أو الخطر الإيراني، مدعياً أنه الخطر الاستراتيجي الأكبر على الدولة العبرية، وهو ما لم يعجب شريحة واسعة من النخبة السياسية والأمنية الحالية والسابقة التي ترى أن مواجهة إيران مهمة دولية بامتياز وأكبر من قدرات وإمكانيات الدولة العبرية، ويبدو أن فئة واسعة من الجمهور انحازت إلى وجهة نظر هؤلاء في تساوق مع توجهها المركزي بتجاهل الهمّ السياسي الأمني لصالح الهمّ بل الهموم الاقتصادية والاجتماعية. في التصويت العقابي لنتن ياهو لا يمكن تجاهل الأثر الذي تركته تصريحات الرئيس الأمريكي براك أوباما، كما الجنرال يوفال ديسكين القائد السابق لجهاز الشابك؛ فالأول اعتبر أن نتن ياهو لا يعرف مصلحة إسرائيل جيداً ويغامر بخسارة الأصدقاء والحلفاء، بما في ذلك أمريكا نفسها، ويقودها إلى عزلة دولية خانقة ومسار انتحارى يؤدي إلى نهايتها كونها دولة صغيرة محيطة بالأعداء ولا يمكنها الاستغناء عن حلفائها وأصدقائها التاريخيين في العالم نفس الأفكار تقريباً عبّر عنها يوفال ديسكين ولكن بلغة مختلفة متهماً نتن ياهو بالانطلاق في مقارباته من منطق شخصي وحزبي، وبافتقاده إلى المواهب والقدرات اللازمة لقيادة الدولة في مواجهة الأخطار العديدة المحدقة بها داخلياً وخارجياً. رغم ذلك أبقى الإسرائيليون نتن ياهو في المكان الأول وعملياً صوّتوا لبقائه في منصب رئيس الوزراء فقط لغياب منافس جدي بإمكانه أن يشكل بديلاً ملائماً، ولكن مع رسالة قاطعة مفادها أن عليه الانصياع لرغباتهم وتطلعاتهم وعدم التصرف كحاكم مطلق الصلاحيات. في ترتيب الخسارة تأتي شيلي يحيموفيتش زعيمة حزب العمل في المركز الثاني بعد نتن ياهو مباشرة ورغم أنها ضاعفت قوة الحزب البرلمانية، إلا أنها ضيّعت فرصة سانحة للعودة به إلى القمة، خاصة أنها بدأت الحملة الانتخابية مع 22 مقعداً تقريباً لتنتهي مع 15 فقط، يحيموفيتش أدارت معركتها الانتخابية بصورة بائسة، وكادت تخرج عن طورها كي تنفي صفة اليسار عن الحزب، وتعمدت الابتعاد عن الملفات السياسية وتحديداً الملف الفلسطيني لصالح التركيز على القضايا الاقتصادية، مع تجاهل تجنيد المتدينين والمساواة في العبء أو حتى الميزانيات الباهظة التي تقدم للمستوطنات وتثقل كاهل الخزينة العامة والنتيجة أن شريحة معتبرة من مصوّتي العمل التقليديين انتقلت إلى ميرتس والحركة - حزب لفني - أما لغتها السياسية المهادنة والمستجدية فلم تقنع الشريحة اليمينية التي ابتعدت عن "الليكود بيتنا" واتجهت إلى ليبيد وبدرجة أقل نفتالي بينيت، وفي المحصلة لم تنجح يحيموفيتش في تكريس صورتها القيادية ومقارباتها المتلعثمة، فوّتت فرصة تاريخية لتجاوز عتبة العشرين مقعد، وطرح بديل جدي لنتن ياهو ليس اقتصادياً واجتماعياً، وإنما سياسياً أيضاً. مقابل نتن ياهو يمكن الحديث عن يئير ليبيد بصفته الفائز الأكبر في الانتخابات، وهو من قاد حزبه الجديد إلى المكان الثاني خلف "الليكود بيتنا" متفوقاً حتى على حزب العمل العريق. ظاهرة ليبد لا تعبر فقط عن توق الإسرائيليين إلى زعامة جديدة مختلفة نقية وغير فاسدة، وإنما لنجاحه في التعبير عن هموم الطبقة الوسطى العلمانية والاشكنازية تحديداً، والتركيز على القضايا الاقتصادية والاجتماعية لجهة رفع مستوى التعليم وخفض الأسعار، خاصة فيما يتعلق بالسكن والمطالبة الجادة بتقاسم عادل للأعباء فيما يخص خدمة المتدينيين في الجيش والتوقف عن كونهم عبء على الاقتصاد ودافعي الضرائب من الطبقة الوسطى. ليبيد الذي ابتعد عن الهموم السياسية والأمنية والتموضع في يمين الوسط نجح كذلك في استقطاب شريحة واسعة من مصوّتي اليمين التقليديين خائبي الأمل من نتن ياهو وتجاهله لمطالبهم وحاجاتهم عوضاً عن خنوعه غير المبرر للمتدينين. فى الحديث عن الرابحين لا بد من التطرق إلى نفتالى بينيت الزعيم اليمينى الشاب الذي ضاعف تقريباً قوة حزب "البيت اليهودي" محولاً إياه من حزب قطاعي يخص المستوطنين إلى حزب وطني وطارحاً نفسه كزعيم مستقبلى لليمين، وبديل محتمل لنتن ياهو مقدماً مقاربة سياسية يمينية خالصة لا تختبىء خلف الكلمات ترفض حل الدولتين، وتعرض نسخة تحديثية للطرح اليميني التاريخي عن الحكم الذاتي الموسع للفلسطينيين أسماها سلام التعايش أو سلام السوبر ماركت حسب تعبيره الحرفي. فى ميزان الربح والخسارة يمكن الإشارة كذلك إلى حزب ميرتس الذي ضاعف قوته من ثلاث إلى ست مقاعد مكرّساً نفسه الحزب اليساري الوحيد في إسرائيل، وكاشفاً من جهة أخرى عن ابتعاد الجمهور عن اليسار وتفضيله مقاربات يمينية اقتصادية اجتماعية، وحتى سياسية ولو من باب تجاهل الصراع - غير الملح - مع الفلسطينيين، وقبول الأمر الواقع الحالي، وربما تصديق نظرية اليمنيين عن كون الصراع غير قابل للحل. هذه الحقيقة تبدت كذلك في النتيجة الباهتة التي حققها حزب ليفني الجديد كونه الحزب الوحيد الذي ركز على الجانب السياسي، واعتبارالتسوية مع الفلسطينيين حاجة ضرورية وملحة للدولة العبرية، متجاهلاً أو مستخفاً بالقضايا الاقتصادية الاجتماعية الأخرى، أو على الأقل رابطاً لها بالتسوية مع السلطة وهو الربط الذي لم ينل تأييداً واسعاً في الشارع الإسرائيلي، كما اتضح من عدد المقاعد التي حازها الحزب - ست مقاعد - ونسبة الأصوات المتدنية التي حصل عليها، والتي قاربت الخمسة بالمائة، وللمفارقة كانت مطابقة تماماً لتلك التي نالها حزب ميرتس اليساري ما يعنى أن عشرة بالمائة فقط من الإسرائيليين يعطون الأولوية للسلام على حساب الملفات الأخرى أو يتقبّلون فكرة أن لا إمكانية لحل أي من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية دون حل ما للصراع مع الفلسطينيين. في ميزان الربح والخسارة لا بد من التطرق أيضاً إلى الأحزاب الدينية - شاس ويهوديت هتوراة - التي حافظت على قوتها تقريباً، ولكن مع تصويت واضح ضدها عبر هذا الانزياح اليميني إلى الطروحات الاقتصادية الاجتماعية المعادية من قبل حزب يئير ليبيد، وحتى البيت اليهودي هذا قد يضعفها بشكل نسبي، ولكن لن يؤدي أبداً إلى تراجع دورها وثقلها السياسي، خاصة مع نظرة نتن ياهو إليها كشريك طبيعي له في الائتلاف الحكومي والتوجه السياسي بشكل عام. في ظل التركيز على نتن ياهو ليبيد وبينيت غاب أفيغدور ليبرمان عن الصورة، رغم أنه أحد أكبر الخاسرين، حيث تراجعت قوة حزبه بمقدار الثلث تقريباً، ووجهت النتائج إضافة إلى الملاحقات القضائية ضربة قد تكون قاصمة لطموحاته السياسية لخلافة نتن ياهو في قيادة معسكر اليمين القومي في إسرائيل. في السياق الانتخابي لا بد من الإشارة إلى حفاظ الكتل والقوائم العربية على قوتها وهي كانت قاب قوسين أو أدنى من الحصول على مقعد إضافي، وعموماً أظهرت الانتخابات الأخيرة أن خيار المقاطعة لم يكن صائباً وارتفاع نسبة التصويت من قبل الجمهور العربي حتى لو لم تتوحّد الكتل المتنافسة في قائمة واحدة كفيل برفع القوة البرلمانية للأحزاب العربية بمقدار الثلث تقريباً، وبالتالي تحوّلها إلى بيضة القبان بين الكتل والأحزاب الإسرائيلية المتنافسة وإجبار هذه الأخيرة على مغادرة مربع العنصرية واللامبالاة في التعاطي مع العرب وهمومهم. عموماً أظهرت نتائج الانتخابات رغبة الإسرائليين الواضحة في الابتعاد عن الهمّ السياسي لصالح الهمّ الاقتصادي الاجتماعى، فيما بدا الهروب إلى الأمام واهتمام بالعرض وتجاهل المرض مرض الاحتلال المزمن والذي بدون معالجته لا يمكن للدولة العبرية أن تتفرغ لمشاكلها الداخلية أو الوهم بإمكانية العيش كأي مدينة غربية أخرى، كما اعتاد يئير ليبد القول. في الأخير، وبكلمة لم تؤدي الانتخابات إلى نتيجة حاسمة وحتى في ظل التوافق على تهميش الملف الفلسطيني لصالح القضايا الداخلية في بعدها، بل أبعادها الاقتصادية الاجتماعية ثمة خلافات عميقة بين الأحزاب والكتل االسياسية على مقاربة تلك القضايا وجبن نتن ياهو السياسي – كما قال أوباما - وافتقاده إلى القدرات والمواهب، والقدرات القيادية اللازمة والضرورية – كما قال ديسكين - سيمنعاه من تشكيل ائتلاف حكومي مستقر ومتماسك وميله إلى تأجيل الأزمات والهرب منها لن يجعل من الانتخابات الأخيرة جزءاً من الحل، وإنما خطوة باتجاه انتخابات مبكرة أخرى لن تكون هي أيضاً قادرة على ابتداع أي حلول في ظل تناسي جذر الأزمة بل الأزمات التي تتخبط بها إسرائيل منذ نشأتها حتى اليوم الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة