تعيش المنطقة العربية، وفلسطين في قلبها، وهذا هو واقع الحال شئنا نحن والعالم أم أبينا، حالة من اضطراب الرؤية السياسية التي تطبع مواقفنا وأداءنا بالعشوائية والفوضى. وعند مغادرة الحالة الشمولية والدخول في التفاصيل سوف تصبح الصورة التي نتحدث عنها أكثر وضوحاً، وإننا لن نستغرق في الحديث عن كل مكونات الصورة، بل على بعض الخطوط الدالة.
فإذا تناولنا “الثورة الفلسطينية” كالتعبير الأكثر تداولاً، فما مدلولات هذا التعبير. هل هي منظمة التحرير الفلسطينية (1964)، أم فتح الانطلاقة (1965)، أم فتح/ منظمة التحرير الفلسطينية (1968)، أم فتح السلطة الوطنية (1995)، أم الجبهة الشعبية (حبش)، أم الجبهة الشعبية (حواتمة)، أم الجبهة الشعبية (جبريل)، أم فتح (أبو نضال)، أم فتح (أبوموسى)، أم الحركة الإسلامية (حماس)، أم الحركة الإسلامية (الجهاد)، أم جيش الإسلام، أم جبهة التحرير العربية، أم جبهة التحرير الفلسطينية. ولكل ثورة من هذه الثورات الفلسطينية ايديولوجيتها السياسية، ومصادر تمويلها وتسليحها، وعلاقاتها العربية والدولية، وهي الطرف الأضعف في هذه العلاقات. وإذا قارنا “الثورة الفلسطينية” بثورات كوبا وفيتنام والجزائر التي عاصرتها نجد أنها من نوع مختلف، فالثورة الفلسطينية متفردة بظروفها.
مكون آخر من مكونات الصورة هو المواطن الفلسطيني. هل هو المواطن أو اللاجئ في ضفتي نهر الأردن، أم هو المواطن أو اللاجئ في قطاع غزة، أم من آثر الصمود من عرب 1948 في فلسطين، أم هو اللاجئ في سوريا والعراق ولبنان ومصر، أم المغترب في شمال إفريقيا ومنطقة الخليج، أم الذي تشتت في أوروبا والأمريكتين وباقي قارات العالم؟ ونريد أن نكتفي بالإشارة الى المؤثرات الثقافية المختلفة على هؤلاء الفلسطينيين في بيئاتهم المختلفة، حيث لم تتوافر لهم في مدارسهم معلومات كافية عن فلسطين ولا عناصر معرفية غير مدرسية كالإعلام والثقافة الشعبية. ولكل فئة من هؤلاء تجربتها الاجتماعية المختلفة.
في الفترة التي بدأ فيها الغزو الاستيطاني اليهودي لفلسطين في ظل الانتداب البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، كان العقل الفلسطيني واقعاً تحت تأثير حزمة من الأساطير المضللة التي تباعد ما بينه وبين الواقع. ومن هذه الأساطير، ربط القوة بالكثرة العددية سواء بين عرب فلسطين وأعداد المستوطنين في ذلك الوقت، أو بين كل من العرب واليهود ككل، وقد عززت هذه المقارنة الاتكالية لدى الفلسطينيين في غياب المعلومات عن قوة العدو وقدراته الحقيقية. وتتمثل الأسطورة الثانية في اعتقاد الفلسطينيين أن العرب يتحركون في ميدان السياسة كجسم واحد، وسيقاتلون في ميدان الحرب كجيش واحد، وهذه الأخرى عمقت في نفوسهم روح الاتكالية.
أما العوامل الأخرى غير الذاتية التي أوصلت الفلسطينيين الى هذا الحال، فتتمثل في الاستعمار البريطاني، والحركة الصهيونية، وأنظمة الحكم العربية.
رغم النفاق السياسي البريطاني المتمثل في المزاعم التي كانت تطلقها السلطات البريطانية بأنها لا ترغب في إقامة دولة يهودية في فلسطين، إلا أن السلطات البريطانية كانت تعمل بكل الوسائل لإقامة الدولة اليهودية، سواء بفتح أبواب الهجرة وعدم كبح الهجرة اليهودية غير المشروعة، وتسهيل نقل ملكية الأرض لليهود، وغض الطرف عن تكديس الأسلحة، بل إقامة صناعة حربية مشتركة بين الجيش البريطاني والجالية اليهودية في فلسطين بحجة توفير الذخيرة للحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية. أما الذي حاربته بريطانيا فهو إقامة دولة فلسطينية على الأراضي الفلسطينية، حيث عارضت أطراف عربية خاضعة للنفوذ البريطاني تشكيل حكومة فلسطينية.
في سعيها لإقامة دولة يهودية في فلسطين، لم تفصح الحركة الصهيونية عن سياستها المضمرة تجاه الشعب العربي الفلسطيني، الذي كان يشكل الأغلبية الساحقة من السكان. ولكن تتابع الأحداث كشف أن الاتجاهات الصهيونية الليبرالية مثل حزب العمل بزعامة بن غوريون والمتطرفة بزعامة مناحيم بيغن قامت بتطبيق نظرية زئيف جابوتنسكي التي وردت في كتابه الجدار الحديدي والمتمثلة في إعداد واستخدام القوة العسكرية التي لا تقهر لتأمين إقامة الدولة اليهودية. فقد نقل سمحا فلاب (1987) عن مناحيم بيغن قوله إن الفرق بينه وبين بن غوريون، هو أن الأخير كان يلجأ الى الحيلة والمراوغة بينما كان بيغن ينفذ سياساته في العلن. وأن بن غوريون قد بذل جهوداً جبارة لمنع إقامة دولة فلسطينية عام ،1948 وأنه دمر المدن والقرى العربية وطرد سكانها لإقامة دولة يهودية متجانسة.
أما العامل الأكثر إيلاماً فهو دور المسؤولين العرب في انتزاع فلسطين من البيئة القومية العربية. فقد كانت الدول العربية حديثة الاستقلال في العام 1948 والعلاقة فيما بينها مهلهلة، وكانت خاضعة لنفوذ بريطانيا التي أقامت سياسة المحاور العربية المتنافرة في المنطقة. ولقد خُدع الفلسطينيون ومعهم الشعوب العربية بأن تحرير فلسطين سيتم خلال ثلاثة أيام، كما كانت تعلن الإذاعات العربية الرسمية عندما كاد أكبر جيشين عربيين على وشك الإطباق على تل أبيب، فقد توقف الجيش المصري شمال أسدود، والجيش العراقي غرب قلقيلية، ولكن الأمر انقلب بفعل فاعل، وقامت “إسرائيل” على 78% من الأراضي الفلسطينية بمقتضى اتفاقيات رودس عام 1949.
في أعقاب النكبة اغتيل النقراشي باشا رئيس وزراء مصر والملك عبدالله حاكم الأردن، وتغيرت أنظمة الحكم في سوريا ومصر والعراق، ولكن استراتيجية الانقسامات العربية ظلت تتفاعل لخدمة مصالح النخب الحاكمة التي قسمت الفلسطينيين واقتسمتهم، وفصلت فيما بينهم ثم أخذت تطالبهم بالوحدة.