بقلم : أد يحيى هاشم حسن فرغل yehia_hashem@ hotmail .com يتساءل بعض الناس عن المراد بمعنى البركة التي وضعها الله بالمسجد الأقصى ، في قوله تعالى ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) وقد يستريب بها بعضهم من حيث تتسرب إليهم بعض وساوس الشيطان ؛ تحت ضغط ما يحدث للمسجد وحوله من بلاء ودمار للبلاد والعباد . وقد يتساءلون عن مغزى الجهاد من حوله بينما البركة من شأنها أن تكفل له السلام ، أو تكفل له ما يفترض أن يتحقق بالجهاد
يتوقعون من البركة أن تلفهم بعباءة السلام ، دون أن يتلفعوا من قبل ومن بعد ببركة واجبات السلام ، لقد كان عليهم أن يفهموا أنه لا يمكن لهم أن يحصلوا على بركة السلام إذا عملوا له بعيدا عن الاستعداد ببركة الجهاد والاتحاد
ذلك أنه للسلام وجه واحد صحيح : وجه البركة عندما يتناغم مع بركة الحق والاتحاد والعدل والجهاد ، ولكنه يتشوه وينقلب إلى وجه النقمة عند ما يتخلق بالخنوع ، ويتصاغر للطغيان ، ويتزيف بالاستسلام ويغرق في مستنقع الخيانة .
والمراد بالمسجد الأقصى كما جاء في كتب التفسير: ( بيت المقدس الذي بإيلياء ) .
أما عن معنى البركة لغة فهو إدامة التشريف والكرامة ، وتطلق البركة أيضا على الزيادة ، وفي المراد بها هنا جنح بعض المفسرين إلى البركة الدنيوية ( لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحروثهم وغروسهم ) ، وفهم آخرون من البركة ما يشمل الدنيا و الآخرة ( لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدن موسى عليه الصلاة والسلام ، ومحفوف بالأنهار والاشجار )، وقيل : بركته بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين ، ( .. ولأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي وفيه الصخرة ومنه يحشر الناس يوم القيامة ) ، ويفتح ابن تيمية جغرافية الأرض المباركة لتشمل الشام والحجاز واليمن جميعا .
وهنا يرجع السؤال : كيف يمكن تصور هذا المعنى من الزيادة وإدامة التشريف والكرامة مع ما يقع بالمسجد وما حوله ومن حوله من صور البلاء والدمار للبلاد والعباد في أطوار متعاقبة من التاريخ ، من أظهرها الحملة التدميرية الاستئصالية الصهيوينة الاستيطانية المعاصرة بتدبير من الغرب الصليبي وذيوله العلمانيين .
وللإجابة على هذا التساؤل نقول : إن المقصود معنى البركة إسلاميا ، أي بما لا يستبعد المشقة والبلاء من معنى البركة ، ودورهما في جلب المثوبة لمن يستحقها والعقوبة لمن يستحقها ، جلب المثوبة ظاهرا ، أو جلبها باطنا في أعطاف البلاء ، وفي كل ذلك مزيد من البركة لا ينقطع .
ولكننا من جهة أخرى نجد المقاييس الإسلامية لا تتجاهل المقاييس الفطرية البشرية ، التي تتطلع إلى بركات الدنيا في طلب العفو والسلامة : تطلبها رجاءً وتطلبها عبادة : فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء
لهذا – وانطلاقا من الذاتية الإسلامية – يجب إضافة مبدأ الخلود عند معالجة الموضوع . فيصبح هم المسلم الأكبر في طلب البركة: النجاة من الشر الدائم ( النار ) ويصبح همه الأكبر الفوز بالخير الدائم ( الجنة ) .
وفي سياق البحث عن المفهوم الأعمق للبركة ، نجد للإسلام نظرته المتميزة لما هو الفرح ، ولما هي السعادة ، ففي هذا الشأن لابد من الكدح والابتلاء والجهاد .
. إن الجهاد والتحريم والحرمان في المشروع الإسلامي يطرح باعتبار أنه يقوم بالدور الأساسي في بناء الإنسان ، كما يطرح باعتبار أنه يقوم بالدور الأساسي في إدراك السعادة أو النعيم ، والنوال .
وفي هذا السياق نعلم أن " النظام " هو المفتاح لفهم "السلوك الكوني " وما ينطوي عليه من ضرورات وسنن ، ومن ثم يأتي البلاء كما يأتي الجهاد حركة من حركات هذا النظام ، هذا النظام الذي تخضع له جهات الكون وأبعاده ، وكلياته وأجزاؤه ، في هذه الدنيا ، في السماء والأرض ، الأرض المباركة وغير المباركة .
وبما أن النظام رحمة أو بركة - يقينا - فإن الرحمة أو البركة لا يتصور أن تأتي إلا في موكب النظام ، أو كجزء من النظام . وليس من المتصور إذن أن تأتي الرحمة أو البركة لتلغي النظام ، لأنها عندئذ كأنها رحمة أو بركة تلغي الرحمة أو البركة !!
وإذن فإن الذين يستغربون للبركة أن تحف بها ضرورة النظام وما يكون له من مرارة في حلوقهم أو ضيق في صدورهم ، ويتوقعون أن تأتي رحمة الله أو بركة الله من باب الانتقاض على قوانين الله ونظامه في الكون - وبخاصة إذا كانت هذه القوانين من بين ما أعلمنا الله به - إنما هم واهمون .
وأخيرا فإن هذا يعني أن البركة التي وضعها الله في بيت المقدس أو المسجد الأقصى إنما تأتي في إطار النظام الإلهي للكون الذي يتقاضى الإنسانَ مسئولياته في هذا الكون ، ولا يعطلها ، ومن بينها مسئولياته في الجهاد والاتحاد والكد والبلاء
في ضوء هذه النظرة الإسلامية الشاملة لمفهوم البركة يأتي الحديث عن بركات المسجد الأقصى وما حوله إذ شيدت بركة المسجد الأقصى – كما شيدت لبنات مبناه – من وقائع وحقائق وآيات وأحاديث وأحداث :
ومن لبنات البركة فيه أنه صلى الله عليه وسلم ( صلى قِبل بيت المقدس ستة عشر شهرا – أوسبعة عشر شهرا ) قَبل تحويل القبلة إلى المسجد الحرام
ومن لبنات البركة فيه دلالة ما جاء في مسند الإمام أحمد بسنده عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحرم من بيت المقدس غفر الله له ما تقدم من ذنبه )
ومن لبنات البركة فيه دلالة ما جاء في كونه ( أرض المحشر والمنشر ، إئتوه فصلوا فيه)
وفي كونه أعلى جهة في حوضه صلى الله عليه وسلم ( إن حوضي ما بين الكعبة وبيت المقدس ، أبيض مثل اللبن ، آنيته عدد النجوم ، وإني لأكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة )
ومن لبنات بركته مضاعفة الثواب لمن صلى فيه ( صلاة في المسجد الحرام كمائة ألف صلاة ، وصلاة في مسجدي كألف صلاة ، وفي بيت المقدس كخمسمائة صلاة ) أي من غير المسجد الحرام والمسجد النبوي كما تدل على ذلك أحاديث أخرى
ومن لبنات البركة فيه مضاعفة الثواب لمن أهل بعمرة منه ( من أهل بعمرة من بيت المقدس كانت كفارة لما قبلها من الذنوب )
ومن لبنات البركة فيه دلالة ما جاء في الأخبار عن الأنبياء السابقين : ففي بيت المقدس تاب الله على داود عليه السلام ، ورد الله على سليمان عليه السلام ملكه ، وبشر الله زكريا بيحيى عليهما السلام ، وسخر الله لداود الجبال والطير ، وأوصى إبراهيم وإسحاق عليهما السلام إذا ماتا أن يدفنا في أرضه، وفيه ولد عيسى عليه السلام وتكلم ، وأنزلت المائدة عليه في بيت المقدس ، ورفعه الله إلى السماء وهو في بيت المقدس ، وصلى الرسول صلى الله عليه وسلم زمانا إلى بيت المقدس ، وأسري به وعرج في بيت المقدس
ومن لبنات البركة فيه دلالة ما حدث فيه من حضور صفوة من الصحابة : ففي سنن أبي داود بسنده عن يعلى بن شداد بن أوس قال : ( شهدت مع معاوية بيت المقدس ، فجمَّع بنا ، فنظرت فإذا جل من في المسجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) . وصلى به عشرات من أعيان الصحابة و مجموعة مرموقة من أعلام التابعين والأئمة في تاريخ الإسلام . ومئات لا يحصون من أعلام المسلمين .
ولقد توجت هذه البركة من قبل ومن بعد بما جاءت به معجزة الإسراء والمعراج . قال تعالى سبحانه وتعالى : " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير " وجاء في المعراج قوله سبحانه وتعالى في سورة النجم : " والنجم إذا هوى " إلى قوله تعالى "لقد رأى من آيات ربه الكبرى " ومن بركات معراجه منه فرض الصلاة ، ورؤيته ربه جل في علاه
ذكر السيوطي في " الآية الكبرى " أن أتقن روايات الإسراء والمعراج وأجودها حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك ، وذكر أن خبر الإسراء والمعراج ورد مطولا ومختصرا عن أكثر من ثلاثين راويا من الصحابة كما يقول السيوطي في كتابه " " الخصائص الكبرى " ، أما الإمام الزرقاني فقد أوصله في شرح المواهب اللدنية إلى خمسة وأربعين من الصحابة " وفي المعراج رأى صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وتعالى وليس من المبالغة حسبان ذلك من بركات المكان الذي بدأ منه . ففي مسلم في صحيحه بسنده عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك قال نورا أنى أراه . وعن محمد بن بشار عن معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته ، فقال : عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال : كنت أسأله هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر : قد سألت فقال : رأيت نورا اه
ومن ناحية أخرى جاء في صحيح البخاري : بسنده عن القاسم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم ، ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه سادا ما بين الأفق .
وفي تفسير هذا الاختلاف قال الإمام النووي : الراجح عند أكثر العلماء أنه رأى ربه ليلة الإسراء ، لحديث ابن عباس وغيره ، وإثبات هذا لا يكون إلا بالسماع من رسول الله ، ولم تعتمد عائشة في نفي الرؤية على حديث رسول الله . وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات فلا تعارض حقيقي من ناحية الأخبار.