بقلم: د. بثينة شعبان بالإضافة إلى كلّ ما كتب ونشر عن مخططات غربية تستهدف الهوية العربية طمعاً بالاستيلاء على ثروات المكان والزمان، فلا شك أن الأزمة الخطيرة التي تمّر بها هذه المنطقة وربما العالم اليوم، هي في إحدى جوانبها الهامة، أزمة قيادة. حيث لم يكن الدور التاريخي «للقائد»، وليس «الحاكم»، أكثر تجلياً ووضوحاً مما هو عليه اليوم. ودور «القادة» في التاريخ أمر معروف ومقرّ. فما كانت الهند لتصل إلى ما هي عليه اليوم من وحدة ومنعة واستقرار لولا القيادة المتميزة لنهرو وغاندي والنخبة التي التفت حولهما. وما كانت جنوب أفريقيا لتنعم بالحرية من الأبارثيد لولا القيادة اللامعة لنلسن مانديلا وصحبه. وما كانت ماليزيا لتحقق تلك القفزة الهامة في تاريخها لولا الرؤية النافذة والإرادة الصلبة لمهاتير محمد وفريقه. وبهذا السياق ما كانت رسالة الإسلام لتنتشر لو لم يكن الرسول العربي صلى الله عليه وسلم قدوة في الخلق والعمل والتفاني ولو لم يتمتع بكلّ الخصال التي جعلت منه قائداً مستنيراً ومبشراً حكيماً. والناظر اليوم بشؤون العراقيين الذين كانوا حتى وقت قريب الجبين العالي لأمة العرب، علماً وحضارةً وغنىً واستقراراً، لا يملك إلا أن يزفر الآهة العميقة لحظهم التاريخي السيئ في كثرة الحكام وانعدام القيادة القادرة على استثمار ثروات البلد المادية والبشرية لتصدّ عنه الغزاة الغربيين الطامعين بالنفط، وتوفر لمواطنيه الأمن والحرية والازدهار. وما يجري اليوم في فلسطين، بالإضافة إلى كلّ المخططات الحاقدة لاحتلال بغيض، هو في أحد أهم جوانبه، قصور في قيادة تمتلك الرؤية والإرادة والبعد التاريخي لكلّ قرار وكل تحرّك، وإن كان هذا القصور بحدّ ذاته هو نتيجة لتصفية الاحتلال المستمرة والممنهجة والمتكررة لكلّ قيادي يمكن أن يوفّر لشعبه ما يحتاجه هذا الشعب من قيادة تساعده في التخلص من الاحتلال وفي إيصال صوت الفلسطينيين، كلّ الفلسطينيين، إلى العالم برمته، وتوصل كفاحه من أجل الحرية والاستقلال إلى نهايته المنطقية.
وفي مراجعة سريعة لقائمة الاغتيالات الإسرائيلية للقيادات الفلسطينية منذ عام 1972 وحتى اليوم نجد أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية وفِرقَ الموت التابعة لها اغتالت اثنين وأربعين من خيرة قياديي حركة فتح في بيروت وروما وباريس واليونان وقبرص وبلجيكا وألمانيا والبرتغال والأردن والولاياتالمتحدة ولندن وتونس، وفلسطين طبعاً، بالإضافة إلى عشرات الكوادر من قيادات حماس والجهاد والجبهة الشعبية، وبالإضافة طبعاً إلى المئات منهم الذين مازالوا يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيلي. و نلاحظ أن تقييم الاحتلال لأهمية نتائج الاستهداف والقتل هذه قد تمّ نقله لاحتلال آخر في العراق حيث تعمد قوات الاحتلال الأمريكية، و فرق الموت، ومنذ اليوم الأول لغزوها العراق إلى تصفية العلماء والمثقفين وأساتذة الجامعات والأطباء والكوادر الشابة الواعدة بحيث تحرم العراقيين من قيادات مستقبلية تحسن التفكير والعطاء والرؤية والعمل من أجل إنقاذ المستقبل العراقي من الآثار الكارثية للاحتلال المدمّر.
وبمعنى ما، فإن القاتل والضحية يعانيان من أزمة قيادة وإن تكن النتائج الكارثية أشدّ وأدهى على الضحية طبعاً. فأي قيادة هذه التي جرّت أقوى دولة عسكرياً، واقتصادياً وعلمياً، إلى حروب وحشية دموية في أقدس منطقة في العالم راح ضحيتها آلاف الجنود الأمريكيين وأُنفِقَت بها مئات المليارات وألحقت الخزي والعار بتاريخ الولاياتالمتحدة بسبب كل هذا الخراب والدمار والقتل اليومي للمدنيين العراقيين و التهجير الطائفي للملايين من المدنيين الأبرياء في العراق مما أنهى دور الولاياتالمتحدة كدولة أخلاقية أو حريصة على الحقوق والكرامة الإنسانية؟ فالقادة هناك يعملون من أجل تحقيق مصالح مصانع الأسلحة وأصحاب شركات النفط، وبهذا المعيار فقد نجحوا بتدمير بلد عربيّ و إعادته إلى القرون الوسطى من أجل نهب ثرواته و مقدراته، ولم يكن هدفهم في نيكاراغوا أو فيتنام أو تشيلي الليندي أو إيران مصدّق، سوى تحقيق مصلحة صنّاع الموت بغض النظر عن الجرائم التي يرتكبونها بحق الشعوب، كما أن هذه الجرائم - إلى حد أقلّ - ترتكب بحق شعوبهم هم حيث يدفع جنودهم وشعبهم لهذه الحروب من دمائهم وأموالهم كي تنعم القلة القليلة هناك بما تصبو إليه من رأسمال ونفوذ. ومن هذا المنظور فليست مصادفة على الإطلاق أن نقرأ في جريدة هآرتز في 28 يونيو 2007 أن عدد أصحاب المليارات في إسرائيل قد ارتفع عام 2006 بنسبة 15% إذ أين تذهب نتائج سلب الفلسطينيين أرضهم وديارهم وممتلكاتهم؟ وأين تذهب نتائج هدم منازل الفلسطينيين في القدس وتهجير الفلسطينيين من قلب مدينة الخليل وسلبهم محلاتهم التجارية وبيوتهم سوى إلى جيوب بعض «الإسرائيليين» الذين يعيثون فساداً تحت مسميات وبذرائع مختلفة.
والملاحظ هو أنهم كلما تطوّرت أبحاثهم الداعية لضرورة الاستثمار في الموارد البشرية كلما استهدفوا مواردنا البشرية وحولوهم من كوادر منتجة ومحترمة ومستقرة إلى لاجئين ونازحين بعد قتل العلماء والمفكرين والمبدعين منهم. فإذا كانت الديمقراطية الغربية تركّز على الإنسان وتجلّ حياته وحريته فماذا عساها تقول لستة ملايين عراقي لاجئ داخل بلادهم في دول أخُرى؟ وإذا كان الجواب أن نظام الحكم السابق في العراق هو الذي أوصل شعبه إلى هذه النتيجة فقد أسلفتُ أن افتقار العراق إلى قيادة حكيمة ومخلصة قد ساهمت في ايصاله إلى ما هو عليه اليوم من خراب ودمار بالإضافة إلى افتقار الغرب لقيادة تقود شعوبها والعالم إلى الحرية والازدهار والاستقرار بدلاً من سيول الدماء البريئة التي تسفكها جيوشها الغازية.
هناك تراجع إذن على مستوى القيادات السياسية في العالم وانحراف بعض منها عن مساره ليعبّر عن طغيان الفرد أو فئة معينة تمثّل فكراً شمولياً كالذي يحاول المحافظون الجدد نشره بقوة السلاح وقتل الملايين، كما حاول غيرهم عبر التاريخ فلطخوا تاريخ أممهم بالمجازر والعار.
هذه الحالة ليست وليدة طفرة مفاجئة وإنما هي نتاج مرحلة تاريخية طويلة تراجعت بها الأصوات الجريئة وتعرضت أصوات أخرى للإسكات، وطبعاً كلّ ما جرى أخذ لبوس حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، إلا أن الأمور تقاس بنتائجها فإذا كانت الشعوب تنعم بالأمن والاستقرار والحياة الحرة الكريمة فهذا يعني أن عمل القيادة مستقيم ومثمر وأما إذا كانت النتائج انهيار مستوى حياة الأفراد وإلحاق الأذى بكرامتهم وإنسانيتهم فإن ذلك يعني دون أدنى شك أن ما تمّ قد يتمّ من أجل أمور لا علاقة لها بالادعاءات مهما كانت برّاقة. إن تطوير المواصفات الأخلاقية للأداء القيادي والالتزام بها معياراً أمرٌ في غاية الأهمية في الغرب والشرق لأنه يهدف إلى خدمة المصلحة الحقيقية لهذه الشعوب و كرامتها في الحاضر والمستقبل. أما ما نشهده اليوم من ادعاءات واهية للغزاة عن "الحرية" و "الديمقراطية" مقابل ركام الخراب وسيول الدماء البريئة فهو إسداء صفة المصلحة الوطنية على شركات أو توجهات تهدف إلى ازدياد ثروات البعض ومنح السطوة اللامتناهية للبعض الآخر، ولمصلحة هؤلاء تشنّ الحروب وتدّمر البلدان وتبدأ حروب أهلية وتجد في النتيجة النهائية أطفالاً و نساءً وشباناً يذوقون أصناف الظلم و العذاب و المعاناة لأنّ من يفترض أن يقود سفينتهم إلى برّ الأمان قد ركّز جهوده على تحقيق بعض المصالح الضيقة وترك السفينة تتيه في اليمّ. إن أزمة القيادة في العالم حقيقية مع أنها لا تتعارض بل تتكامل مع كلّ الأسباب الأخرى التي تشعل نار الفوضى والبؤس والقتل والتهجير والحرمان والتي امتدت اليوم من بابل إلى بيت لحم وتهددّ بالامتداد أكثر والخروج عن السيطرة اليوم أو غداً في أماكن أخرى من منطقتنا المقدسة التي خصّها الله سبحانه وتعالى بأنها مهبط الوحي وأرض الأنبياء، فهل يتمكن أبناؤها من تقديم قيادة تحمل الرسالة بالألق والِكبر اللذين يليقان بهذه الأمة وبما يحملها أبناؤها في قلوبهم من إيمان بالخير حيثما حلوا وأنىّ رحلوا؟ وهل يتركها طغاة العالم لأهلها بعد قرون من استهدافهم لها بالغزو والمجازر والدمار؟