الاقتراح الذي أطلقه الرئيس الأمريكي جورج بوش بصدد تعيين رئيس الحكومة البريطاني السابق توني بلير مبعوثاً خاصاً للرباعية الدولية إلى الشرق الأوسط هو أمر يوفر مادة جديدة للنفاد إلى العقل الذي يدبر سياسة واشنطن تجاه المنطقة، وللتعرف إلى المنطق الذي يقود خطى هذه السياسة وللتبصر في محفزاتها وخلفياتها. فمن المفترض هنا أن يكون مبعوث الرباعية شخصية دولية تلعب دوراً محورياً في تجديد مساعي التسوية بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، وبين العرب عموماً و”الإسرائيليين”. وكي تتمكن هذه الشخصية من الاضطلاع بهذا الدور فإنه من المفروض أيضاً أن تتصف بصفات تؤهلها له. فهل تتوفر مثل هذه الصفات في توني بلير؟
من الصفات التي ينبغي توفرها في شخصية ممثل الرباعية-هذا إذا توخت الرباعية تحقيق العدالة في المنطقة- أن يكون منصفاً ومتجرداً وغير منحاز إلى أي طرف من طرفي أو أطراف النزاع، فهل تتوفر هذه الصفة في توني بلير؟ لعل في ما قاله بلير نفسه عام 1998 لمناسبة مرور خمسين عاماً على قيام الكيان العبري ما يجيب عن هذا السؤال. ففي تلك المناسبة ألقى بلير خطاباً وجه فيه لوماً مباشراً إلى قادة حزب العمال الذين كانوا ينتقدون “إسرائيل”. وندد بهم لأنهم جعلوا المرء يخجل، على حد قوله، بأنه “صديق ل”إسرائيل”. ووعد بلير بتغيير هذا الحال بحيث يتمكن اصدقاء “إسرائيل” في حزب العمل، مثله هو شخصياً، بالإفصاح عن صداقتهم ل”إسرائيل” علناً وبقوة.
ووفى بلير بوعده إلى أبعد حد، بل تجاوزه بابعاد، إذ إنه لم يمكّن العماليين من اصدقاء “إسرائيل” من المجاهرة بآرائهم دون حرج فحسب، بل حول صداقة “إسرائيل” إلى جسر لاكتساب الحظوة داخل حزب العمال والحكومة. بالمقابل حول بلير مواقف الإنصاف التي اتخذها بعض قادة حزب العمال البريطاني تجاه الصراع العربي-”الإسرائيلي” مثل روبن كوك، وزير خارجية بريطانيا الراحل، إلى سبب لاضطهادهم، أما أعضاء حزب العمال الذين جاهروا بصداقتهم للعرب فقد أعلن بلير عليهم الحرب فأخرجهم من الحزب ولاحقهم حتى بعد خروجهم منه محاولاً إخراجهم، كلياً من الحياة العامة.
تعبيراً عن هذه السياسة عين بلير صديقه لورد ليفي، الصهيوني المتحمس ل”إسرائيل” مبعوثاً شخصياً له إلى الشرق الاوسط. ولقد اتصفت تصرفات ليفي، الذي كان يلقى دعماً غير محدود من بلير، بالصلف والفجاجة والانحياز الكامل إلى جانب “إسرائيل”. وهكذا لما أعلن ليفي انه سوف يترك منصبه بعد مغادرة بلير منصب رئاسة الحكومة، تنفس الكثيرون من الذين يحرصون على مصداقية بريطانيا في الشرق الاوسط والمنطقة العربية الصعداء. وعبر ريتشارد سبرنغ، وهو ناطق في الشؤون الخارجية باسم حزب المحافظين البريطاني، عن هؤلاء إذ وجه انتقاداً حاداً إلى ليفي واستطراداً إلى بلير نفسه، إذ اعتبر أن سلوك الأول سبب لبريطانيا الاحراجات في العالم العربي، وانه إذا أرادت الحكومة البريطانية استرجاع مصداقيتها بين العرب فعليها أن تبتعد عن تكرار الخطأ الذي وقع فيه بلير عندما عين ليفي كمندوب شخصي له في المنطقة.
كذلك عبر بلير عن انحيازه إلى “إسرائيل” على كل جبهة من جبهات الصراع مع العرب، أي سواء في صراعها مع الفلسطينيين أو مع السوريين أو مع اللبنانيين. فخلال الحرب “الإسرائيلية” الأخيرة على لبنان عارض، مثلما عارض جورج بوش، وقف إطلاق النار وإنهاء الحرب بصورة مبكرة. وكان حافزه إلى هذا الموقف اعتقاده ان الاستمرار فيها لمدة اطول سوف تمكن “إسرائيل” من الإجهاز على حزب الله. ولم يغير بلير موقفه من الحرب الا عندما غيرت “إسرائيل” والإدارة الأمريكية هذا الموقف.
في ظل هذه المواقف أصبح من المألوف أن تتحدث الأوساط الصهيونية البريطانية الوثيقة الصلة برئيس الحكومة البريطاني السابق باعتباره “زعيماً صهيونياً عالمياً”. وبسبب هذه المواقف، وجه “الإسرائيليون”، وعلى رأسهم رئيس الحكومة ايهود اولمرت، الشكر إلى بلير بمناسبة مغادرته الحكم وأعربوا عن امتنانهم العميق لصديق “إسرائيل” للدعم الذي قدمه إلى “الإسرائيليين” طيلة مدة وجوده في الحكم.
ومن الصفات التي ينبغي أن تتوفر في شخصية ممثل الرباعية في المنطقة ان يكون على خبرة بشؤونها وعلى معرفة وثيقة بأهلها وبمصالحهم ومشاعرهم وتطلعاتهم. كما يفترض ان يستند إلى هذه الخبرة والمعرفة لكي يقترح الخطوات والسياسات المناسبة. وهذا النوع من الخبرة والمعرفة ضرورية لمن يريد التعاطي في أمور المنطقة مهما كان مشروعه أو غرضه. إنها ضرورية لمن يريد أن يخدم المنطقة بإخلاص، وسواء كان من خارجها أو من داخلها ومن أهلها. وهي ضرورية لمن يريد أن يسيطر على هذه المنطقة وأن يستغلها لمصلحة قوة خارجية ومستبدة. في الحالتين تغدو المعرفة بأحوال المنطقة شرطاً ضرورياً. فهل تتوفر هذه السمة بتوني بلير؟ لعل بلير، بحكم صداقته المؤكدة ل”الإسرائيليين” يعرفهم حق المعرفة، ويعي مصالحهم ومشاعرهم. إلا أن هذا لا يجعله خبيراً بالمنطقة ولا عارفاً بأهلها وبثقافاتهم وأطباعهم.
الدليل الساطع على افتقار بلير إلى الدراية بالمنطقة وعلى معرفة الأكثرية الساحقة من أهلها أنه كان من كبار المحرضين على الحرب ضد العراق والمخططين والمروجين لها والمساهمين في تنفيذها. وهذه الحرب وجهت ضربة قوية إلى المجموعة العربية قد لا تشفى منها في المستقبل القريب بسبب أهمية العراق في المنطقة. إلا أن هذه الضربة ارتدت على الغرب نفسه كما ترتد قطعة البومارانغ الأسترالية على مطلقيها. ولقد دفعت الولاياتالمتحدة ومعها بريطانيا ثمناً كبيراً، حتى الآن، بسبب الحرب العبثية ضد العراق. إلا أن ما دفعته الدولتان حتى الآن لا يقارن بما ستضطران إلى دفعه فيما لو استمر الاحتلال، أو فيما لو انتهى الاحتلال وتمكنت القوى المناهضة له سواء تمثلت بالقوى الوطنية والقومية العراقية، أو تمثلت بالجماعات الإسلامية الراديكالية أو بالجماعات المؤيدة لإيران من الحلول محل المحتلين. فكل هذه الجماعات تمثل اليوم خطراً أكبر على هاتين الدولتين من الوضع الذي كان قائماً سابقاً.
من يضع العراق، واستطراداً المنطقة كلها، أمام مثل هذه الخيارات الصعبة لا يعتبر خبيراً في شؤونها وفي أحوالها، ولا يصح أن يكلف بأية مهمة تؤثر في مصيرها. انه سوف يراكم ويعمق الإساءات إلى العرب ولكنه في نفس الوقت سوف يجلب على دول الغرب الأضرار الكبرى ويهدد أمنها واستقرارها. ولا يحتاج أصحاب القرار في الرباعية أو في واشنطن ولندن أو بروكسل إلى مراجعة سجل بلير مراجعة دقيقة لكي يكتشفوا أن سياسته الشرق أوسطية لا تؤهله للمساهمة في تدبير شؤونها. لقد انتهج توني بلير، طيلة وجوده في الحكم، سياسة العداء المحكم للعرب. التوقعات المتفائلة رجحت ان تخرج هذه السياسة من “10 داوننغ ستريت”، بيت الحكومة البريطانية، بعد خروجه منه، ولكن تعيين بلير في منصب ممثل الرباعية سوف يحبط هذه التوقعات، وسوف يمكن رئيس الحكومة البريطانية السابق من مواصلة هذه السابقة عبر آليات جديدة. ان جورج بوش يريد مكافأة بلير على معاداته العرب، ويريد أن يمعن في إذلالهم وإيذائهم عبر حليفه المستقيل. إذا تبنت الرباعية هذا الاقتراح، فإنها سوف تصبح شريكة لبوش في سياسة تجر المنطقة والعالم بأسره إلى المزيد من الكوارث.