مع عودة وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير إلى بيروت غدا والتحرك الذي يقوم به توني بلير في الموضوع الفلسطيني، يسترجع البعض ذكريات نظام الانتداب الأوروبي في الأراضي العربية. ففرنسا تتحرك من اجل تسوية الاوضاع وترتيبها في لبنان الذي كان خاضعاً للانتداب الفرنسي. وبريطانيا تسعى الى ترتيب الاوضاع في فلسطين التي خضعت الى الانتداب البريطاني حتى تم تسليمها الى المنظمات الصهيونية. ويخيل للمرء وهو يتابع، عن بعد، تحرك المسؤولين البريطاني والفرنسي ان ما يقومان به في مناطق نفوذ القوتين الأوروبيتين هو محطة من محطات استعادة اوروبا سلم الزعامة الدولية بصورة عامة. ولكن هل هذا صحيح؟
التحرك الذي يقوم به توني بلير، بعد ان عين مندوباً للرباعية الدولية بتوصية من الرئيس الأمريكي، يبدو مطابقا الى ابعد حد لما دعا اليه عندما كان رئيسا للحكومة البريطانية. بل ان تحركه يبدو تطبيقا لما كانت تدعو اليه رئيسة الحكومة البريطانية السابقة مارغريت تاتشر. فكلما اشتدت الدعوة الى اعطاء الفلسطينيين حقوقهم السياسية، كانت تجيب عليها تاتشر بالدعوة الى “تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين” وإلى بناء مؤسسات فلسطينية قادرة على الاضطلاع بهذا الامر. توني بلير الذي يعتبر اكثر تاتشرية من تاتشر اخذ عن معلمته ومصدر إلهامه هذا الموقف وطوره وفقا لتطور الاحداث المشرقية. ذلك انه كلما واجهت بريطانيا والولاياتالمتحدة المصاعب في المنطقة، لجأ بلير الى تحريك هذا الشعار بغية ان يأخذ من القضية الفلسطينية ومن الفلسطينيين شهادات تسمح له، كزعيم لبريطانيا وحليف قوي للولايات المتحدة، بتنفيذ سياستهم المشتركة في انحاء اخرى من المنطقة العربية.
بالطبع إن تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين لا يضيرهم. انه بالتأكيد في مصلحتهم. فتوفير العمل لأعداد اكبر من الفلسطينيين، وتحسين الخدمات الصحية التي تقدم اليهم، والارتقاء بمؤسساتهم التعليمية وتطوير المواصلات العامة في مدنهم واراضيهم كل ذلك يخدم الفلسطينيين ويخفف من وطأة الاوضاع الراهنة عليهم. إلا أنه من واجب الذين يحرصون على مستقبل الفلسطينيين ان يسألوا الاسئلة التالية: ما هي حدود تحسين مستوى معيشة الفلسطينيين؟ هل يشمل ذلك ضمان سيطرتهم على موارد المياه في أراضيهم وترشيد استخدامها؟ وهل ترمي سياسة تحسين المؤسسات الفلسطينية وتطوير خدماتها الى تهدئة النقمة الفلسطينية على الوضع الراهن ومن ثم ضمان استتبابه؟ ام ان المقصود من هذه السياسة تعبيد الطريق ووفقاً لبرنامج زمني قصير المدى امام اعطاء الفلسطينيين حقوقهم السياسية؟ اخيرا لا آخرا، سواء أكان المقصود بهذه السياسة تغيير الوضع الراهن الفلسطيني “الاسرائيلي” ام تثبيته، فما هو تأثيرها في مصالح اوروبا وأمنها واستقرارها ومكانتها الدولية؟
الذين تابعوا سياسة المستر بلير العربية وسياسته تجاه الصراع العربي “الاسرائيلي” يملكون العديد من الاجوبة الشافية على هذه الاسئلة. فرئيس الحكومة البريطانية السابق الذي عرف بانحيازه الى “اسرائيل” على حساب العرب والفلسطينيين. جماعات الضغط الصهيونية في بريطانيا والولاياتالمتحدة تصفه بأنه احد “ابرز الزعماء الصهاينة الدوليين”. موقف توني بلير تجاه الحرب على العراق والحرب “الإسرائيلية” على لبنان ومعارضته الشديدة لوقف اطلاق النار في الحرب الاخيرة يدلان على ان هذا الوصف هو في محله. كذلك فإن الذين خبروا شطارة المستر بلير الفائقة وقدرته على التلاعب غير المحدود بالالفاظ والمفاهيم والمشاعر حتى في بريطانيا نفسها، يعرفون انه سوف يستخدم منصبه كمندوب للرباعية الدولية لكي يجر الفلسطينيين الى التخلي عن حقوقهم الوطنية مقابل “تحسين اوضاعهم المعيشية” وان تلك التحسينات لن تشمل مجالات ذات اهمية فائقة لدى “الاسرائيليين” مثل قضايا المياه.
التحرك الذي يقوم به برنار كوشنير في بيروت يبدو اكثر استقلالية من تحرك بلير تجاه القضية الفلسطينية. السياسة الفرنسية لبثت لعقود تشدد على مصالح فرنسا القومية وعلى استقلاليتها عن الولاياتالمتحدة. الرئيس الفرنسي ساركوزي جاء الى قصر الاليزيه ومعه الدعوة الى تطوير العلاقات الاطلسية والتحالف مع واشنطن. ولكنه بعد ان ولج الرئاسة اتجه الى دغدغة المشاعر القومية الفرنسية عبر البحث عن دور مستقل في المدار المتوسطي. فضلا عن ذلك فإن برنار كوشنير الاشتراكي اعلن انه لن يتخلى عن نهج الاشتراكيين على الصعيد الاوروبي والدولي. ولكن إلى أي مدى يتمكن كوشنير من التعبير عن هذا النهج عبر تحقيق سلام لبناني-لبناني يخدم لبنان، فرنسا وأوروبا؟
الزعامة الفرنسية الحالية سوف تجد صعوبة كبرى في تحقيق أي تقدم جدي على هذا الطريق ما دامت ادارة بوش مصممة على ممارسة الضغط الشديد على دمشق. القصد من هذا الضغط هو اجبار دمشق على تبديل سياستها تجاه المسألة العراقية. وسوف تستمر هذه الصعوبة ما دامت الادارة الأمريكية الحالية تعتبر ان وسيلتها الاكثر فعالية في الوصول الى هذه الغاية هي اثارة المتاعب للزعامة السورية عبر الاراضي اللبنانية. طالما استمر هذا الحال، فإن ادارة بوش سوف تعمل ضد تحقيق انفراج سياسي جدي في لبنان. من هنا عبرت واشنطن عن انزعاجها عندما اطلق كوشنير دعوته الى عقد طاولة الحوار بين زعماء لبنانيين في سان كلو. صحيح ان الدبلوماسية الفرنسية سعت الى تهدئة ردود الفعل الأمريكية السلبية. صحيح ان واشنطن خففت من معارضتها للمبادرة. ولكن من الارجح ان تنقض واشنطن على المبادرة الفرنسية وعلى المتحاورين بالقصف الشديد اذا اقتربوا من تحقيق اي اختراق لجدار القطيعة بين الزعامات اللبنانية. ومن الارجح عندها ان يتدخل الرئيس الفرنسي ساركوزي من اجل ابقاء المبادرة الفرنسية في حدود لا تغضب ادارة بوش.
ما يمكن استنتاجه حتى الآن هو انه سواء كانت المبادرات الدولية تجاه المنطقة العربية اوروبية ام كان الذين يضطلعون بتنفيذها زعماء أوروبيين، فإنها لا تزال حتى الآن تخضع للخطوط الحمراء وللحدود التي ترسمها الادارة الأمريكية لها. والسقف الذي تضعه الادارة الأمريكية لهذه التحركات محكوم، في حالات كثيرة، بمصالح “اسرائيل” وبالضغوط التي يمارسها انصارها في واشنطن. هذا الواقع يتناقض مع مصالح الفلسطينيين واللبنانيين والعرب، وهو يتناقض ايضا مع مصلحة اوروبا في تحقيق الاستقرار على حدودها الجنوبية ومع طموح الأوروبيين الى الاضطلاع بدور خاص على الصعيد الدولي. واذا كان لهذا الواقع محاذيره في الحالات العادية، فإن محاذيره اكبر من ذلك بكثير في ظل الرئاسة الأمريكية الحالية التي تعتبر من اقل الرئاسات معرفة بالسياسة الدولية وأوضاع المنطقة العربية بصورة خاصة. إن أخطار هذا الواقع لا تطال العرب ولا تطال الأوروبيين فحسب، بل انها تطال الولاياتالمتحدة ايضا. من هذه الزاوية فإن الزعماء الأوروبيين الذين يبتعدون عن هذه الادارة لا يخدمون بلادهم ولا ينصفون العرب فحسب، ولكنهم، في نهاية المطاف يقدمون خدمة ايضا للأمريكيين.