شهد التاريخ الإنساني الظهور الأول لفئة المرتزقة المحاربين أيام الامبرطورية الرومانية جراء اتساع أقاليمها ونزعتها العدوانية للتوسع، ثم توالت بعدها استخدامات هذه الفئة باشكال مختلفة وفقاً للغرض الذي من أجله استخدمت، وكانت أبشع هذه الأغراض حين جرى استخدامها من قبل الدول الاستعمارية اثناء حمى الاستعمار التي مارستها القوى الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين ضد شعوب العالم الثالث.
وقد قدر لوطننا العربي ان يكتوي بالآثار المدمرة لهذه الفئة الخالية من النبل والشهامة، والراهنة إرادتها لمن يدفع لها أكثر جراء استخدامها في العمليات القتالية في الجنوب السوداني وأثناء حرب اليمن. وما زالت الذاكرة العربية تتذكر أسماء مثل (بوب دينار وجون كوبر وشرام وميشيل المجنون) وما فعله وجودهم من اثر سيىء حتى بالنسبة للقضايا التي رهنوا إرادتهم من أجلها.
ومنذ أن احتلت الولاياتالمتحدةالأمريكية العراق في أبريل/نيسان 2003 وبسبب فشلها في معالجة الشأن العراقي بالحدود الدنيا من المعقولية لاستقامة الأمر الذي دحرجها الى الوحل حتى أذنيها في المستنقع العراقي جراء خسائرها البشرية اليومية، وما أهدرته من أموال قدرتها بعض الأوساط الأمريكية بحدود 500 مليار دولار إزاء ذلك، فإن مخططي هذا العدوان عادوا لنبش الدفاتر العتيقة من تجارب المحتلين وبعثوا الحياة في نشاط فئة المرتزقة المؤجرين لأسيادهم، وهذا ما دفعهم لتنشيط هممهم لاستئجار الأفراد للقتال بديلاً عنهم، وقد تدرجت عملية ظهور هولاء المرتزقة في العراق خطوة بعد خطوة حتى تحول الى أمر واقع شديد الخطورة وباهظ التكاليف.
هذا الأمر المقلق دفع رئيس مجموعة العمل التابعة للأمم المتحدة (خوسيه لويس جوميز) في ختام الدورة الثانية لمجموعة العمل التي انعقدت الأسبوع الماضي في جنيف، لأن يعبر عن صدمته إزاء إقدام الشركات الأمنية الأمريكية العاملة في العراق، على تجنيد مرتزقة من الدول الفقيرة من أجل إرسالهم الى مناطق خطرة في العراق وهو ما أدى إى قتل كثيرين منهم منذ ان شرعوا في العمل ترافقاً مع بدايات الاحتلال، إضافة الى ذلك فإن هبة تجنيد المرتزقة تصاعدت إزاء المقابل المالي المدفوع لهم كبدائل أو كدروع للجنود الأمريكان، وهو ما زاد في عدوانيتهم تجاه المدنيين العراقيين من خلال خرقهم لحقوق الإنسان. وقد بثت محطات تلفزيونية أمريكية عامي 2004 و2005 أفلاماً تلفزيونية توضح ممارسات مرتزقة الشركات الأمنية العدوانية ضد المدنيين ولأتفه الأسباب، من دون ان تطالهم يد القانون بحجة عدم خضوع العسكريين العاملين تحت مسمى القوات متعددة الجنسيات للقانون العراقي، وفي ذلك مفارقة صارمة لم يحصل عليها المرتزقة طيلة استئجارهم منذ أيام الرومان حتى اليوم.
ان عدد المرتزقة العاملين في العراق وفقاً لتقارير الأممالمتحدة يتراوح بين 35 ألفاً و40 ألفاً، وبذلك فإنهم يشكلون القوة الثانية من قوات الاحتلال بعد الجيش الأمريكي، وهذا بحد ذاته دلالة كبيرة على حجم السوق الكبير الذي فتحته الولاياتالمتحدة لعموم المرتزقة في العالم بعد عطالة طويلة أنهكت الكثير من قواهم، ما يوضح لكل المغفلين المنتشين بخطابات الإدارة الأمريكية حقائق ما تدعيه حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية وغيرها الكثير.