بقلم: د.بثينة شعبان منذ شهرين وجريدة النيويوركر تتصل بمعظم من تكلّموا مع الصحفي الأمريكي المرموق سيمور هيرش في الولاياتالمتحدة وفي المنطقة للتأكد من اقتباساته المنسوبة إلى هؤلاء الأشخاص في زمن تكاد تكون هذه الجريدة هي الوحيدة التي تحرص على صدقية المعلومة المنشورة. ومع ذلك لم يظهر المقال حتى الأسبوع الماضي. وحسب معلومات مؤكّدة لم تستطع النيويوركر نشر سوى 60% مما كتبه هيرش لأن السلطات الأمريكية، بما في ذلك البيت الأبيض، تدخّلت بشدّة لمنع نشر المقال كاملاً. ويستنتج المرء من المقابلات التي أجراها هيرش أن ما منع النيويوركر من نشره كاملاً هو أنّ الجزء المحذوف يفضح جرائم أخطر وأبشع ارتكبتها قوات الاحتلال الأمريكية أو فرق المرتزقة التي تنشر الموت والفتنة في العراق تحت اسم «متعاقدين» أو «شركات أمنية» عمداً وعن سابق إصرار ضدّ الشعب العراقي بهدف كسر كبريائه واعتزازه القومي. يقول هيرش في مقابلة له مع جريدة الشروق التونسية: «ما خفي من فضيحة أبو غريب أكثر قسوة وفظاعة، لديّ تقرير أعدّه خصيصاً الجنرال تاجوبا حول هذه القضية تضمّن فضائح أخرى، كما أنّه توجد وثائق تضمّ ما هو أفظع بكثير مما تمّ نشره وفضحه» وتضمّنت الدراسة معلومات موثّقة عن «إعادة توجيه الاستراتيجية الأمريكية لخلق الفتنة بين السنّة والشيعة وتمويل مجموعات متطرّفة في لبنان والعراق، وإرسال استخبارات إلى إيران لتحديد المواقع التي يجب ضربها، والتركيز على العمل الاستخباراتي، وتمويل العملاء من مسلمي المنطقة الذين يتجاوبون مع خدمة هذه الاستراتيجية». وجاء هذا التوجيه متزامناً مع الاجتماع السباعي، ومع اجتماع رايس برؤساء وأجهزة المخابرات العربية، ومع اجتياح الجيش الإسرائيلي لنابلس، التي نُكبت كمثيلتها الفلّوجة بتدمير المئات من بيوتها، واستمرار العنف الدّموي في شوارع بغداد، وخرج وللمرّة الأولى نائب الرئيس الأمريكي من الظلّ ليقوم بجولة على عدّة بلدان لكسب دعم هذه البلدان للاستراتيجية الجديدة، التي دون شكّ تحمل أخطاراً جسيمة للعرب، فكلّ السياسات الأمريكية تتعطّش لسفك مزيد من دماء العرب من أجل تشديد نهبها لنفطهم وحقوقهم، وتستهين بالمزيد من كرامة العرب.
وبسبب تأخير دراسة هيرش عن النّشر فقد ظهرت بوقت متزامن تقريباً مع دراسة أخرى لا تقلّ أهمية لكلّ من يريد أن يفهم حقيقة ما يجري بعنوان: «أثر العراق: لقد زادت الحربُ الإرهابَ سبع مرات على مستوى العالم»، وقد قام بالدراسة بيتر بيرغن وبول كروكشانك، الباحثان في مركز القانون والأمن في كلية الحقوق بجامعة نيويورك. وقد شرح الباحثان في هذه الدراسة أنهما أجريا مقارنةً بين «العمليات الإرهابية» التي جرت في العالم في الفترة الواقعة بين 11 سبتمبر 2001 - مارس 2003، أي قبل الحرب على العراق، وبين «العمليات الإرهابية» التي جرت في العالم بعد غزو واحتلال الولاياتالمتحدةالأمريكية للعراق، واستنتجا أنّ هذه الحرب ضاعفت «الأعمال الإرهابية» سبع مرات على مستوى العالم، وأنّ ما جرى في أفغانستان والعراق كان لها أبعد الأثر في هذه الزيادة الكبيرة في «العمليات الإرهابية». وقد استثنى الكاتبان ما يجري في فلسطين من هذه الدراسة، مع أنّ التعريف الذي اعتمدته مؤسسة راند للإرهاب، والذي تبنّاه الباحثان ينطبق تماماً على ما تمارسه إسرائيل ضدّ الفلسطينيين: «مؤسسة راند تعرّف الهجوم الإرهابي بأنّه هجوم على شخصية مدنية يهدف إلى بثّ الخوف أو الذعر من أجل الترويج لهدف سياسي معين». إنّ هذا التعريف ينطبق بالضبط على كلّ الممارسات الإسرائيلية بحقّ الشعب الفلسطيني من «أمطار الصيف» إلى «الشتاء الحارّ» إلى «استهداف الناشطين» إلى اغتيال القادة من الفلسطينيين، ولكنّني ومن وجهة نظر بحثية أتفهّم استثناء الباحثين لفلسطين لأنها تشكّل حالةً خاصّة، ولابدّ من أخذ هذه الخصوصية بالاعتبار في مجال آخر. والدراسة ترى أنّ الغضب والإحباط اللذين سببتهما حرب العراق قد زاد من كره المسلمين للولايات المتحدة والغرب، كما خلقا أرضية خصبة للجهاديين الذين يريدون الانتقام مما يجري في العراق، وأشارت الدراسة إلى أنّ نسبة عالية من الجهاديين في العراق قدموا إليها من بلدان مختلفة عربية وغربية، وتتوقع الدراسة أن تزداد «العمليات الإرهابية» في المستقبل التي تستهدف غربيين في الولاياتالمتحدة والغرب. ولكنّ الدراسة لا تُلامس الأسباب التفصيلية لهذه الزيادة، وعلى من يريد كشف هذه الأسباب أن يعود إلى دراسة سيمور هيرش، التي استنتج فيها أنّ «الهدف من أعمال الإذلال التي تعرّض لها العراقيون في (أبو غريب) ومن ثمّ كلّ العرب هو كسر شوكتهم وتحطيم كبريائهم»، وأضاف هيرش: «أعلم تماماً أنّ أكثر ما يهزّ أيّ عربي هو الشعور بالخزي والعار على عكسنا نحن في الغرب الذي يهزّنا كثيراً الشعور بالذنب». وبهذا فقد وضع هيرش إصبعه على الجرح في العراق وفلسطين ولبنان والصومال والسودان، إذ إنّ هدف كلّ ما يجري من حروب وتدخّل وضغوط على شعوب هذه البلدان هو «إذلالها». وأي إنسان سويّ يفضّل الموت على الذلّ، ولذلك فإنّ سبب نموّ عدد الجهاديين ليس انتشار ثقافة «الاستشهاد» بل إنّ سبب التّوق للاستشهاد هو رفع الظلم والعار والدفاع عن الكرامة والحقوق.
والحقيقة هي أنّ الرأي العام في الغرب بمجمله غير مطّلع على تفاصيل نتائج الحروب التي يشنّها بوش وإدارته على أفغانستان والعراق والصومال وفلسطين والسودان بسبب القيود الشديدة المفروضة على نشرها، ومن يُشاهد القنوات الغربية لا يرى أبداً المجازر اليومية ولا الإذلال الذي تتعرّض له شعوب هذه البلدان، ولا التنكيل الوحشي المستمرّ برجالها ونسائها وأولادها، ولا التّحقير المتعمّد لرموزها الفكرية والفنّية والعلمية والدينية، حيث إنّ وسائل الإعلام الغربية لا تتمكن من نشر هذه الصور والوقائع: فإذا كانت جريدة مرموقة مثل النيويوركر، التي تقوم بعمل فريد في الصحافة الموثّقة المدقّقة، ولكاتب بحجم ووزن سيمور هيرش قد اضطرّت أن تنشر بعض ما كتبه فقط، وذلك بعد حين وعناء طويل مع السلطات الأمريكية، فيمكن تصوّر المدى الذي يتمّ فيه كمّ أفواه الإعلام الحرّ في الغرب. ولذلك لا يمكن للإنسان الغربي أن يشعر بما يشعر به العرب، وهو أنّ السياسة الأمريكية التي تهدف في جوهرها إلى نفط العرب وتعتبر عملية النهب حماية ل «المصالح الأمريكية» لأنّ نفط العرب هو مصدر ازدهارهم الاقتصادي، تفعل كلّ ذلك كما قال هيرش، من خلال حرب «لا تخلو من نظرة استعلاء عنصرية إلى العرب». وها هي الولاياتالمتحدة اليوم تعيد السيناريو ذاته تجاه إيران حيث صرّح هانز بليكس المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة «أنّ النهج الذي يتّبعه العالم فيما يتعلّق بطموحات إيران النووية ينطوي على إهانة لطهران بالإصرار على أن توقّف أبحاثها دون إعطائها أي ضمانات أمنية»، وأضاف أنّه «ينبغي على الولاياتالمتحدة والدول الغربية أن تشرع في محادثات مباشرة مع إيران، بدلاً من أن تكتفي بتوجيه أوامر إلى طهران لتعليق أبحاثها النووية أولاً» لو يعلم الغربيون ماذا تعني نشرة الأخبار لأبناء هذه المنطقة المنكوبة بمجازر الحروب الغربية والإسرائيلية والأمريكية المتواصلة عليها منذ قرن. وماذا يعني مثلاً ادّعاء القوات الأمريكية قصف إسلاميين في الصومال ليكتشفوا أن ضحايا القصف المائة هم من النساء والأطفال، وأنّ مداهمات القوات الأمريكية للبيوت العراقية تتضمن إهانةً وإذلالاً وتنكيلاً ونهباً واغتصاباً واستباحةً لكلّ المحرمات والمقدّسات، ولو سُمح للإعلام «الحرّ» بنشر صور أفراد الجيش الإسرائيلي المُدجّجين بالسلاح يركلون أبواب البيوت الآمنة في نابلس المستباحة ليُدمّروا ويعصبوا أعين الصبية والشباب ويقتادوهم إلى سجون الاحتلال الإسرائيلي المكتظّة بأمثالهم، ولو يُفكّر أيّ أبٍ أو أمّ في الغرب ماذا يعني لطفلة أن تجد أمامها جندياً أجنبياً يُشهر السلاح في وجهها وهي في طريقها إلى مدرسة الحيّ، وماذا تشعر الأمهات اللواتي يشاهدن أفراد الجيش الإسرائيلي يغتالون أبناءهنّ أمامهنّ وهم في بيوتهنّ، أو يأخذون الأطفال دروعاً بشرية. كلّ هذا لا يشاهده المواطن الغربيّ، فالمسموح له هو أن يشاهد برامج ترفيهية ورياضية واقتصادية، ولكنّه في السياسة محروم من الحقيقة المرّة بجرائم قادته التي تلطّخ تاريخ الغرب بالمجازر والمحارق والإبادة.
فأيّ مستقبل تعد هذه السياسة العالم به، وأيّ حرب عالمية سوف يجد العالم نفسه منخرطاً بها في غضون سنوات قلائل. لقد أكّد بيرغن وكروكشانك أنّ قلة عدد الأمريكيين الذين قُتلوا في هذه الفترة نتيجة «هجمات إرهابية» لا تعني شيئاً «لأننا سوف نعيش مع نتيجة الورطة في العراق لأكثر من عقد قادم»، إنّ الخطوات التي اتخذتها الولاياتالمتحدة حيال السودان والصومال ولبنان وإيران في الأشهر الأخيرة تنذر بنموذج عراقيّ يتّسع باطّراد بالإضافة إلى استمرار الجرائم الإسرائيلية اليومية ضدّ المدنيين الفلسطينيين التي تستهدف كسر شوكة هذا الشعب وإرغامه على الخنوع، وتقبّل عار الهزيمة والتّنكيل والإذلال. ومع وصول الوضع الأمريكي في العراق حدّ الانهيار، فإنّ المنطقة والعالم قد يكونان مقدمين على زمن خطير جداً قد يُرغم مفتعلي هذه الحروب على إعادة الاعتقاد بأننا نعيش في عالم واحد لا عالمين، وأنّ النار التي يشعلونها هنا ستصل ألسنتها إلى الجميع، وأنّ الأساس في خلق الأمن للجميع هو إعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية وللمعايير الأخلاقية والتّخلص من النظرة العنصرية للعرب ونظرة التّعصب الديني اللتين تغذّيان منذ قرون كلّ حروبهم وسياساتهم. ولكن وبأيّ ثمن سوف يكتشف مفتعلو هذه الحروب حقائق الأمور وبعد أيّ مآس وكوارث؟