أثارت التصريحات الأخيرة لجيمس بيفر -مدير مكتب هيئة المعونة الأمريكيةبالقاهرة- وجيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأدنى حول دعم الديمقراطية في مصر، والتمويل المباشر الذي تقدمه واشنطن لعدد من الحركات والأحزاب وربما الأشخاص لهذا الغرض، العديد من التساؤلات لدى قطاع واسع من المصريين. ليس فقط حول عدم أحقية الولاياتالمتحدة في التدخل في الشأن المصري، ولكن حول مدى قدرة واشنطن على مواصلة الادعاء بأنها رسول الديمقراطية في العالم. ففي الوقت الذي ادعت الولاياتالمتحدة أنها حاضنة الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم والداعية إلى تبنيها عالميا، تحالفت خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين مع أسوأ النظم الفاشية في أمريكا اللاتينية، ومع شاه إيران حتى قيام الثورة ضده في السبعينيات. وشاركت الولاياتالمتحدة في دعم انقلابات عسكرية للإطاحة بنظم منتخبة ديمقراطيا لاختلافها معها والدفع بحكومات موالية لها إلى السلطة. فدعمت الإطاحة بنظام جوذمان في جواتمالا عام1954، وبالرئيس سلفادور الليندي عام1973، وكلاهما كانا من النظم الديمقراطية التي وصلت بإرادة شعبية خالصة. كما تدخلت عسكريا للإطاحة بمحمد مصدق رئيس وزراء إيران مطلع الخمسينيات الذي رفض التدخل الأمريكي الغربي وقام بتأميم شركات النفط، وخلع الشاه، إلا أنه سرعان ما تحالفت الولاياتالمتحدة مع بريطانيا وأعادت الشاه في عملية أطلقت عليها أجاكسي ودعمت واشنطن حركة طالبان، وهي التي باركت وصولهم إلى السلطة منتصف التسعينيات ليقضوا علي كل ما هو تنويري وحضاري في أفغانستان. وكان نشر الديمقراطية مبررا لكثير من القرارات والسياسات الأمريكية التي تتناقض جذريا مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي مقدمتها احتلال العراق عام2003 ولاشك في أن تصاعد حدة عدم الاستقرار في العراق والتدهور الحاد في الأوضاع الإنسانية للشعب العراقي اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان من جانب القوات الأمريكية، قد قوض من نشر الديمقراطية كشعار وسياسة، وابرز الوجه الحقيقي القبيح له. كذلك، رفضت واشنطن تماما حكومة حماس المنتخبة ديمقراطيا بشهادة الولاياتالمتحدة ذاتها والاتحاد الأوروبي، وسمحت لإسرائيل بفرض حصار خانق علي قطاع غزة وتوجيه الضربات له تنكيلا بحماس، في الوقت الذي تعتبر فيه إسرائيل البلد الحر والديمقراطي الوحيد في المنطقة رغم كل ممارساتها الصارخة في فلسطين ولبنان والجولان ضد العرب وانتهاكاتها الصارخة لأبسط حقوق الإنسان وهو حقه في الحياة والأمن. بل وترفض أي محاولة من جانب المجتمع الدولي لإدانة إسرائيل داخل الأممالمتحدة في مساندة جائرة وغير عادلة وتحد واضح للإرادة الدولية. وفي حين تدخلت واشنطن عسكريا في ليبيا تحت مظلة حلف الأطلنطي بدعوى دعم الثوار في مواجهة قمع القذافي، وتسعي لذلك في سوريا، فقد تجاهلت الانتهاكات الصارخة بحق الثوار في البحرين حيث تقع واحدة من كبرى القواعد العسكرية لها وأقدمها في المنطقة والعالم. وقد يري البعض أن هذه السياسات الخارجية لا تتناقض مع النموذج الديمقراطي داخل الولاياتالمتحدة. إلا أن القراءة المتأنية للتاريخ الأمريكي على مدى القرنين الماضيين ومنذ ظهورها كدولة يشير إلى أن هناك مجموعة من الحقائق التي تدحض هذه المقولة أيضا. منها إبادة الملايين من السكان الأصليين من الهنود الأحمر بعد أن فشل الأمريكان في استعبادهم، بالقتل المباشر، والسخرة حتى الموت، وتسميم آبار المياه التي يشربون منها، وحقنهم بالفيروسات وجراثيم أشد الأمراض فتكا مثل الطاعون والتيفود وغيرها. وقد اعترف الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش بهذا عندما أشار إلى التشابه بين نشأة الدولة في الولاياتالمتحدة وإسرائيل. هذا إلى جانب العبودية التي فرضت على الأفارقة داخل الولاياتالمتحدة رغم أنهم أحرار، وإنكار حقوقهم وحرياتهم المدنية حتى منتصف الستينيات، والسياسية والاقتصادية حتى منتصف السبعينيات. وما زال التمييز قائما في الولاياتالمتحدة رغم القوانين التي تكفل المساواة والحقوق للأمريكان ككل، وإن اتخذ صورا وأساليب مختلفة. ولعل معتقل جوانتانامو الأمريكي الذي لا ينطبق عليه أي من قوانين حقوق الإنسان إلى الحد الذي جعل منظمة العفو الدولية تصفه بأنه يمثل همجية هذا العصر، دليل دامغ على زيف الديمقراطية الأمريكية. إن النموذج الديمقراطي الأمريكي الذي تتحدث عنه واشنطن وكثيرون خارجها هو محض ادعاء. يؤكد ذلك حقائق السياستين الداخلية والخارجية الأمريكية. ولا يمكن لدولة تفتقر إلي الديمقراطية في سياستها الداخلية والخارجية أن تدعم الديمقراطية في غيرها من الدول. فمبادئ وقيم الديمقراطية لا يمكن تجزئتها. والواقع أن الأمر لا يتعلق بالمثل والمبادئ فالسياسة الأمريكية لا تعرف سوي المصلحة. وهناك بالتأكيد مصالح وأجندات أمريكية تقف وراء تدخلها بدعوي دعم الديمقراطية في مصر، وليس مصلحة الشعب المصري ورخاءه وازدهار مصر وتقدمها. إن الديمقراطية في مصر سوف يدعمها ثوار مصر الذين هبوا من أجل الحرية والكرامة، وهم الضمانة الوحيدة لنظام ديمقراطي حقيقي نأمله ونتطلع إليه جميعا. * أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة