تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نماذج من الإيجابية في القرآن الكريم
نشر في الشعب يوم 01 - 09 - 2011

الإيجابية أو الذاتية كلمات فرضت نفسها على حياتنا الثقافية؛ نتيجة احتياج الساحة الدعوية إليها؛ ولأنها كلمات جديدة على حياة الناس في هذه الأيام؛ فربما احتاجت إلى تأصيل شرعي ولغوي؛ حتى لا نُفاجأ بأحد المتحذلقين يقف أمامك منتصبًا يسألك عن الأصل اللغوي لهذه الكلمة، ويفاجئك- جهلاً- بأنها لا وجود لها في معاجمنا اللغوية؛ فإنني سأسارع إلى التأصيل اللغوي لكلمة الإيجابية- أما الذاتية فهي نسبة إلى الذات- وأظنها لا تحتاج إلى تذليل أو تأصيل.
الإيجابية مصدر صناعي جيء به للدلالة على سرعة التفاعل مع الحدث وحضور البديهة عند اشتجار الأمور وتشابكها، وهي مأخوذة من مادة الفعل "وجب" وفعلها أجاب: يجيب- إجابة، بمعنى لبى- وأطاع في سرعة وبلا تردد، ومصدر الفعل أجاب: إجابة ومجاوبة، يقول صاحب الألفية في النحو: "لفاعل الفعالُ والمفاعلة" ومن مادة الفعل "وجب" جاء اسم الله تعالى (المجيب) ومن ذلك قوله تعالى: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ) (الأحقاف: من الآية 31)، وقوله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّه) (الشورى: من الآية 47)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: من الآية 24).

ولأن الفعل يقصد به التفاعل مع المواقف، وإبداء الرأي فيها والمشاركة المؤثرة في تحديد مصيرها، انطلاقًا من إحساس ذاتي واقتناع داخلي؛ فإن البعض استحسن تسميتها ¬"بالذاتية" لتكون أقرب إلى الانفعال الذاتي دون انتظار لتوجيه خارجي.
والإيجابية بهذا المعنى تمثل المطلب الدعوي والأهم، الذي تحتاج إليه المرحلة في هذه الأيام.
ولو نظرنا في مقومات النجاح التي سبقت كل عمل إصلاحي ناضج أو كل حركة تغييرية ناجحة، لرأينا الإيجابية أو الذاتية كانت هي السمة الأساسية الأشد وضوحًا، والأكثر قوةً وتأثيرًا في حياة القائمين على هذه الحركات في كل زمان ومكان، وكتاب الله سبحانه وتعالى بما حوى من أوامر ونواه ودعوة ملحة إلى التغيير والإصلاح، هو أوضح مثال لذلك.
وهو أيضًا دليلنا الشرعي على وجوب الإيجابية وضرورتها في حياة المسلمين اليوم، فمن يقرأ خطاب الله تعالى لأنبيائه يجد الإيجابية هي لحمة هذا الخطاب وسداه، ففي كتاب الله تعالى ثناء على الأنبياء وذريتهم؛ لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، ففي سورة الأنبياء، ذكر القرآن قصة إبراهيم مع قومه، وقصة داود وسليمان، وقصة لوط مع قومه، وبعد أن ذكر إسحاق ويعقوب وقصة نوح عليه السلام، عاد ليثني على أيوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل، ويونس وزكريا ويحيى، ثم عقب على هؤلاء جميعًا بالثناء عليهم بأنهم (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: من الآية 90)، وجعل سبحانه وتعالى من صفات المؤمنين الصادقين المسارعة إلى الخيرات والسبق إليها بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) (المؤمنون).
والمواقف الدالة على الإيجابية والذاتية واستشعار الهمّ بهذا الدين في كتاب الله أكثر من أن تحصى؛
فهذا رجل يعيش في مجتمع كافر لا يعين على الخير، ولا يدعو إليه، وبرغم ذلك فإنه ضرب المثل في الإيجابية والمسارعة إلى الحق وفعل الخير، فعندما يرى تواطؤ الناس على الشر، وإجماعهم على إيقاع الأذى بنبي الله موسى، يقوم من بينهم ليوهن عزمهم ويثبط همتهم، ويكثر لهم النصح، ويحضهم على الإخلاص. ولا يترك سبيلاً من سبل الحجاج العقلي والإقناع الوجداني إلا يسلكها معهم آملاً أن يصل بهم إلى كف الأذى عن نبي الله موسى؛ فهو يبدأ معهم بإحياء ومضة الخير في فطرتهم: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (غافر: من الآية 28) ثم يسهل عليهم أمر البداية ويحببها إليهم، ويطمئن نفوسهم بأنهم لن يصيبهم من تبعة إيمانهم بما جاء به شر أو أذى، وإنما الشر لو وجد فسيحيق بصاحبه (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) (غافر: من الآية 28) ثم ينقلب مخوفًا ومحذرًا في صورة الناصح الأمين، وإنه لكذلك، فيقول: (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) (غافر: من الآية 28) وهي طريقة في الحجاج لم تترك سبيلاً للنفس كي تهرب أو تخادع.
ثم يعرض بإسرافهم على أنفسهم وكذبهم على ربهم مهددًا لهم بذلك فيقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: من الآية 28) وفي ذاتية عالية وثقة بالنفس زائدة ورغبة في الخير ملحة صادقة، يتابع الرجل رسالته فيذكرهم أن النعيم لا يدوم، وأن الملك والجاه والسلطان لا يثبت ولا ينفع أمام غضبة الله وسلطانه".
(يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) (غافر: من الآية 29) ولاحظ معي استعمال ضمير المتكلم، وإدخال نفسه معهم في مصير واحد، زيادة في التلطف، والتحسس لمداخل القلوب واستمالتها (فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) (غافر: من الآية 29).
وبرغم إصرار فرعون- وهو صاحب السلطان والجبروت- على الجمود والكنود وإضمار العداوة، والتمادي في خداع الناس، وركوب موجة التأله الكاذب بقوله: (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: من الآية 29)، برغم هذا الموقف الذي استغل فيه سلبية الناس وانهزامهم وانعدام وزنهم وثقتهم في أنفسهم، لم ينهزم الرجل المؤمن، ولم يستبعد أن يوقع الله التغيير على يديه برغم عدم وضوح أية إشارة أو علامة على قرب التغيير أو هزيمة الباطل المتبجح في هذا الموقف، لكنه يصر على بذل آخر جهد يستطيعه في هذا المضمار، قائلاً: (يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) (غافر).
وبعد أن يصب على أسماعهم تلك الطرقات العنيفات من تذكيرهم بمصارع السابقين من الهالكين، ممن سبقوهم إلى الجدال والعناد، يعود إلى إظهار عاطفة الحب لهم والخوف عليهم، والإشفاق من سوء المصير بين يدي جبار السماوات والأرض في يوم لا ينفعهم فيه طغيان فرعون ولا حاشية ولا سلطانه.
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) (غافر: 32، 33).
وكلمة عاصم جاءت نكرة لينفي من حسهم أي أمل في أية قوة تعصمهم من غضب جبار السماوات والأرض، وهي إشارة ذكية إلى فرعون الذي يقتدون به، ويلوذون بحماه. ويضيعون دينهم ودنياهم بسببه رغبة فيه أو رهبة منه، وهو في الحالين لا يملك من الأمر شيئًا (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (غافر: من الآية 30).
ثم لا يتركهم إلا بعد أن يقيم الحجة عليهم ويذكرهم بأقرب النماذج إليهم وألصق الأحوال بهم، وهو حقبة المصريين مع نبي الله يوسف، وكيف وقفوا منه من قبل موقفًا غبيًّا كالذي يفعلونه الآن مع موسى (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)) (غافر).
ومن ينظر في قصة هذا الرجل، يلاحظ أنه رغم عظم الدور الذي أداه، وروعة المواقف التي وقفها، وبرغم ثبات قلبه، وقوة حجته ورباطة جأشه، فإن السياق القرآني لم يَزد على وصفه بأنه مؤمن من آل فرعون، فهو ليس نبيًّا ولا رسولاً، وليس مدعومًا بقوة سياسية ولا بشرعية حزبية، وإنما كل الذي حكاه السياق هو أنه رجل مؤمن عميق الإيمان بربه مهموم بدعوته، حريص على قومه وعشيرته، مدرك لطبيعة مهمته، تتضح في حسه ومشاعره حقيقة الولاء لمن يحملون هم الدين، ويجاهدون لإصلاح الناس وإسعادهم، كما تتضح في مشاعر حقيقة البراء من الكافرين والخداعين والمتاجرين بآلام الناس وجبنهم، وهوانهم من الطغاة والظالمين، وتقديم الرجل للناس خاليًّا من كل سلطان إلا سلطان ربه والاستناد إليه، أراه رسالة إلى كل الرجال المخلصين العقلاء من أبناء أمتنا اليوم؛ ليقوموا في أمتهم بمثل هذا الدور العظيم، وساعتها سيكون الجهد أوفر، وسيكون العائد أكبر، وستكون الدعوة بين الناس أكثر قبولاً، وأسرع استجابة؛ لأن مجتمعنا اليوم أقل ولاءً للشياطين، وما يزال غالب أفراده يرتادون المساجد، ويؤدون الفرائض، ويذكرون الله، وما يزال يملكون في حسهم رصيدًا من خوف الحساب من اليوم الآخر، ويعملون حسابًا كبيرًا لهذا اليوم.
إن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى رجال من طراز هذا الرجل، لا ينتظرون أوامر إليهم كي تدفعهم إلى أداء دورهم الدعوي، وإنما ينطلقون إلى أداء مهمتهم من إحساسهم بأن الدور الدعوي خير كله، وبأنه مطالب أن يبلغ دعوة الله حبًّا في الله، وإخلاصًا له، ويقينًا بوعده، وتصديقًا بلقائه.
(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) (الكهف: من الآية 110).
وإن كان يريد إذنًا بالدعوة، فليأخذ من قول ربه له: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125 من الآية) ومن قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)) (فصلت).
ومن يقرأ سورة القصص يتأكد أن رد الرجل لم يكن فقط في دعوة أهله وقومه، وتثبيط همة الملأ من قوم فرعون عن إيذاء موسى، كما رأينا في سورة غافر، ولكن عندما رأى إجماع الناس على الباطل، وأن تيار كفرهم وعنادهم أكبر من أن يوقفه جهد رجل ونصائحه، سارع ليحذر موسى من مكرهم وفجورهم، ويفضح ما تواطئوا عليه من التآمر الشيطاني على حياة المخلصين من المؤمنين (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20)) (القصص).
واستجاب موسى لنصيحة الرجل على الفور (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)) (القصص).
إن الرجل لم يلتمس لنفسه العذر في أنه بذل في موقف النصح والإقناع لقومه ما بذل، وأنه اجتهد بكل درجة ممكنة لينقلهم من الكفر إلى الإيمان، أو ليكف أيديهم عن إيذاء المؤمنين، ولكنه عندما لم تفلح جهوده في دعوتهم وهدايتهم انتقل إلى ميدان جهادي آخر، دون أن ينتظر إذنًا من أحد، أو يعود إلى كبير أو صغير يلتمس منه المشورة، أو يتلقى منه الإذن؛ لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى مشورة أو إذن، وأسرع من أن ينتظر ترددًا أو تقصيرًا.
لقد انتقل من ميدان الدعوة والنصيحة إلى ميدان العمل، صبيانه أرواح المخلصين ونصحهم وبيان ما يُدبَّر لهم على أيدي هؤلاء القساة الظالمين المجرمين، فكان الرجل في المجالين عظيمًا وعاقلاً وإيجابيًّا أريبًا.
وقريب من نموذج هذا الرجل، رجل آخر، نلقاه في سورة "يس" عند قوله تعالى:(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)) (يس)
"قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم، فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى أي لينصرهم من قومه، قالوا وهو حبيب بن سرى، وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال اسم صاحب يس حبيب النجار، فقتله قومه، وقال السدي كان قصارًا، وقال عمر بن الحكم كان إسكافًا، وقال قتادة: كان يتعبد في غار هناك.
وأيًّا ما كان الاسم أو الصفة التي كان عليها الرجل، فإن الذي يعنينا هو موقف الرجل من قومه، ومجيئه من أقصى المدينة دون تكليف من أحد، إلا بما وجده في نفسه من ضرورة الدفاع عن المرسلين؛ لثقته في عدالة قضيتهم وصحة دعوتهم وصدق رسالتهم. ويلاحظ أن القرآن من قدم الجار والمجرور الذي يشعر ببعد المسافة وشدة المشقة. (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى)، والفعل الدال على حالة الرجل وقت مجيئه يدل على ما يتمتع به الرجل من شعور بالمسئولية. واهتمام بالأمر جعله يذهب لنصرة الرسل سعيًا، وهو ليس بالمشي العادي- إنما هو مشي سريع أقرب إلى الجري منه إلى السير العادي.
وما أن يصل إلى منتدى القوم حتى يعالنهم بما يعتقد صحته، ويرى فيه نجاة قومه ونصرة الدعاة الصالحين، وزيادة في ترغيب قومه بالهداية وصف الدعاة بأعظم وصف وأصدقه وهو أنهم رسل الله، وبذلك وضع قومه أمام مقام الألوهية لعلهم يخشعون فيهتدون، ثم شفع كلامه بما يستميل قلوبهم ويطمئن نفوسهم، ويقربهم في اتباع المرسلين وهو أنهم لا يتقاضون منهم أجرًا نظير دعوتهم وهدايتهم.
ثم إن حالهم يشهد بأنهم صادقون مخلصون، ويحاول إيقاظ الفطرة المخدرة الغائبة في أعماقهم بقوله يستحثهم وييستنهضهم في صورة أسلوب تحريضي تحقيقي، قائلاً: (وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)) (يس)، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له، وإليه ترجعون يوم المعاد فيجازيكم على أعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
ثم يبدي الرجل إنكاره ودهشته في صورة استفهام تعجبي يحمل معنى التوبيخ والتقريع عندما يقول مستنكرًا: (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ (23) (يس)، وفي نوع من الإسقاط والتعريض بهم، وفي كياسة عالية، وذكاء عظيم يجعل نفسه هدفًا للمثل الذي لا يحمد، ويعلن عن استهجانه ونفوره لهذا التفكير الأعوج مصدرًا حكمًا على نفسه إن كان كذلك، ولما كان هو من المؤمنين، وليس من هذا الصنف البليد؛ فإن الحكم يكون قد أصابهم هم، لكن ذلك كله يتم دون مواجهة أو مصادمة أو تهييج، إنه لم يزد على أن قال: إني إن فعلت ذلك أكون في ضلال مبين، فهل ترضون أن تكونوا كذلك؟! ثم يعلن إيمانه بربه سبحانه موجهًا خطابه لقومه قائلاً: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) (يس: من الآية 25)، أي الذي كفرتم به (فَاسْمَعُون) (يس: من الآية 25) أي فاسمعوا قولي.
ويحتمل أن يكون خطابه إلى الرسل يشهدهم على إيمانه، وتلمح في الآيات إيجازًا بالحذف، فنجد أنفسنا أمام نهاية مأساوية حزينة عندما يخاطبنا بعد أن صار بين يدي ربه في الجنة؛ فندرك حينئذ أن الرجل كان ضحية جهل المدعوين وحمقهم واستيلاء الشيطان عليهم.
ومن يتصور مجتمعًا مجمعًا على الكفر مقيمًا عليه متلبسًا به قد عايش أوضاعه وأحواله، وصار له معها إلف وعادة، يدرك مدى صعوبة المهمة التي يقوم به رجل يصادم هذا كله ويصادره، ويتكلم على حالهم كله بأنه ليس بشيء، مهما كان رقيقًا مهذبًا أديبًا، لا بد أن يلاقي من قومه إنكارًا أو إعراضًا، وقسوة تصل إلى حد التصفية الجسدية الكاملة، وهو المصير الذي لقيه أخونا المؤمن في موقفه الإيماني هذا،
إنها النفوس الأبية النقية التي لا تقبل الزيف ولا تسيغه، ولا تنحني في مواقف الحق، إلا لله رب العالمين (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)) (يس) قالها منتصرًا بها للحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، صادعًا بها في وجه الباطل رغم علمه بما عليه أهل الباطل من جحود وكنود، وما يتوقع منهم من بغي وظلم وعدوان أثيم، لكن الحق أغلى عليه من نفسه، والصدع به آثر لديه من العيش الذليل حتى وإن كان الثمن هو الروح.
إنني أحس أنني اقتربت، بل امتزجت بروح مؤمنة تقية من أبناء هذا الزمان، عاشت للحق، وصدعت به وواجهت سلطان الظلم والعدوان، وهو أعزل إلا من سلاح الإيمان، كان عليل الجسم سقيم البدن، وهكذا كان صاحب يس، فقد كان كما روى ابن إسحاق رجلاً سقيمًا قد أسرع فيه الجزام.
وأرى النموذج الذي اقتربنا منه وغمرتنا روحه المباركة الطيبة هو "حبيب" هذا الزمان، ومعه سيكون معه المقال المقبل إن شاء الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.