أسعار الأسماك واللحوم اليوم 26 أبريل    حركة القطارات| 45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. الجمعة 26 أبريل 2024    مايكروسوف تتجاوز التوقعات وتسجل نموا قويا في المبيعات والأرباح    طريقة تغيير الساعة في هواتف سامسونج مع بدء التوقيت الصيفي.. 5 خطوات مهمة    «هنصحى بدري ولا متأخر؟».. سؤال حير المواطنين مع تغيير توقيت الساعة    المستهدف أعضاء بريكس، فريق ترامب يدرس إجراءات ضد الدول التي تتخلى عن الدولار    البنتاجون: أوكرانيا ستتمكن من مهاجمة شبه جزيرة القرم بصواريخ «ATACMS»    بلينكن ل نظيره الصيني: لا بديل عن الدبلوماسية وجهاً لوجه    عاجل - قوات الاحتلال تقتحم نابلس الفلسطينية    سيول جارفة وأتربة، تحذير شديد اللهجة من الأرصاد بشأن طقس اليوم الجمعة    «الإفتاء» تعلن موعد صلاة الفجر بعد تغيير التوقيت الصيفي    أذكار وأدعية ليلة الجمعة.. اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا    بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024.. توجيهات الصحة بتجنُّب زيادة استهلالك الكافيين    مع بداية التوقيت الصيفي.. الصحة توجه منشور توعوي للمواطنين    جدعنة أهالي «المنيا» تنقذ «محمود» من خسارة شقى عمره: 8 سنين تعب    سرقة أعضاء Live.. تفاصيل صادمة في جريمة قتل «طفل شبرا الخيمة»    رئيس لجنة الخطة بالبرلمان: الموازنة الجديدة لمصر تُدعم مسار التنمية ومؤشرات إيجابية لإدارة الدين    نجم الأهلي السابق يوجه رسالة دعم للفريق قبل مواجهة مازيمبي    ناقد رياضي: الزمالك فرط في الفوز على دريمز الغاني    طارق السيد: ملف بوطيب كارثة داخل الزمالك.. وواثق في قدرات اللاعبين أمام دريمز    إعلان نتيجة مسابقة المعلمة القدوة بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    هيئة الغذاء والدواء بالمملكة: إلزام منتجات سعودية بهذا الاسم    عاجل.. رمضان صبحي يفجر مفاجأة عن عودته إلى منتخب مصر    أبرزها الاغتسال والتطيب.. سنن مستحبة يوم الجمعة (تعرف عليها)    إصابة 8 أشخاص في تصادم 3 سيارات فوق كوبري المندرة بأسيوط    انطلاق حفل افتتاح مهرجان الفيلم القصير في الإسكندرية    تشرفت بالمشاركة .. كريم فهمي يروج لفيلم السرب    بشرى سارة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال رسميًا    يونيو المقبل.. 21364 دارسًا يؤدون اختبارات نهاية المستوى برواق العلوم الشرعية والعربية بالجامع الأزهر    نقابة محاميين شمال أسيوط تدين مقتل اثنين من أبنائها    رمضان صبحي يحسم الجدل بشأن تقديم اعتذار ل الأهلي    «زي النهارده».. استقالة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري من مشيخة الأزهر 26 أبريل 1935    ليلى زاهر: جالي تهديدات بسبب دوري في «أعلى نسبة مشاهدة» (فيديو)    "أكسيوس": مباحثات سرية بين مصر والاحتلال لمناقشة خطة غزو رفح    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميا    عاجل - محمد موسى يهاجم "الموسيقيين" بسبب بيكا وشاكوش (فيديو)    ذكري تحرير سيناء..برلماني : بطولات سطرها شهدائنا وإعمار بإرادة المصريين    "حزب الله" يعلن ضرب قافلة إسرائيلية في كمين مركب    عاجل - بعد تطبيق التوقيت الصيفي 2024 فعليًا.. انتبه هذه المواعيد يطرأ عليها التغيير    عاجل - تطورات جديدة في بلاغ اتهام بيكا وشاكوش بالتحريض على الفسق والفجور (فيديو)    بالصور.. مصطفى عسل يتأهل إلى نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش    هاني حتحوت يكشف تشكيل الأهلي المتوقع أمام مازيمبي    مواقيت الصلاة بالتوقيت الصيفي .. في القاهرة والإسكندرية وباقي محافظات مصر    برج العذراء.. حظك اليوم الجمعة 26 أبريل 2024 : روتين جديد    هل العمل في بيع مستحضرات التجميل والميك آب حرام؟.. الإفتاء تحسم الجدل    أنغام تبدأ حفل عيد تحرير سيناء بأغنية «بلدي التاريخ»    استشاري: رش المخدرات بالكتامين يتلف خلايا المخ والأعصاب    لوحة مفقودة منذ 100 عام تباع ب 30 مليون يورو في مزاد بفيينا    الأقصر.. ضبط عاطل هارب من تنفيذ 35 سنة سجنًا في 19 قضية تبديد    حكايات..«جوناثان» أقدم سلحفاة في العالم وسر فقدانها حاستي الشم والنظر    حدثت في فيلم المراكبي، شكوى إنبي بالتتويج بدوري 2003 تفجر قضية كبرى في شهادة ميلاد لاعب    عاجل - "التنمية المحلية" تعلن موعد البت في طلبات التصالح على مخالفات البناء    «اللهم بشرى تشبه الغيث وسعادة تملأ القلب».. أفضل دعاء يوم الجمعة    قيادي بفتح: عدد شهداء العدوان على غزة يتراوح بين 50 إلى 60 ألفا    المحكمة العليا الأمريكية قد تمدد تعليق محاكمة ترامب    أنغام باحتفالية مجلس القبائل: كل سنة وأحنا احرار بفضل القيادة العظيمة الرئيس السيسى    فيديو جراف| 42 عامًا على تحرير سيناء.. ملحمة العبور والتنمية على أرض الفيروز    مواطنون: التأمين الصحي حقق «طفرة».. الجراحات أسرع والخدمات فندقية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نماذج من الإيجابية في القرآن الكريم
نشر في الشعب يوم 01 - 09 - 2011

الإيجابية أو الذاتية كلمات فرضت نفسها على حياتنا الثقافية؛ نتيجة احتياج الساحة الدعوية إليها؛ ولأنها كلمات جديدة على حياة الناس في هذه الأيام؛ فربما احتاجت إلى تأصيل شرعي ولغوي؛ حتى لا نُفاجأ بأحد المتحذلقين يقف أمامك منتصبًا يسألك عن الأصل اللغوي لهذه الكلمة، ويفاجئك- جهلاً- بأنها لا وجود لها في معاجمنا اللغوية؛ فإنني سأسارع إلى التأصيل اللغوي لكلمة الإيجابية- أما الذاتية فهي نسبة إلى الذات- وأظنها لا تحتاج إلى تذليل أو تأصيل.
الإيجابية مصدر صناعي جيء به للدلالة على سرعة التفاعل مع الحدث وحضور البديهة عند اشتجار الأمور وتشابكها، وهي مأخوذة من مادة الفعل "وجب" وفعلها أجاب: يجيب- إجابة، بمعنى لبى- وأطاع في سرعة وبلا تردد، ومصدر الفعل أجاب: إجابة ومجاوبة، يقول صاحب الألفية في النحو: "لفاعل الفعالُ والمفاعلة" ومن مادة الفعل "وجب" جاء اسم الله تعالى (المجيب) ومن ذلك قوله تعالى: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ) (الأحقاف: من الآية 31)، وقوله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّه) (الشورى: من الآية 47)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: من الآية 24).

ولأن الفعل يقصد به التفاعل مع المواقف، وإبداء الرأي فيها والمشاركة المؤثرة في تحديد مصيرها، انطلاقًا من إحساس ذاتي واقتناع داخلي؛ فإن البعض استحسن تسميتها ¬"بالذاتية" لتكون أقرب إلى الانفعال الذاتي دون انتظار لتوجيه خارجي.
والإيجابية بهذا المعنى تمثل المطلب الدعوي والأهم، الذي تحتاج إليه المرحلة في هذه الأيام.
ولو نظرنا في مقومات النجاح التي سبقت كل عمل إصلاحي ناضج أو كل حركة تغييرية ناجحة، لرأينا الإيجابية أو الذاتية كانت هي السمة الأساسية الأشد وضوحًا، والأكثر قوةً وتأثيرًا في حياة القائمين على هذه الحركات في كل زمان ومكان، وكتاب الله سبحانه وتعالى بما حوى من أوامر ونواه ودعوة ملحة إلى التغيير والإصلاح، هو أوضح مثال لذلك.
وهو أيضًا دليلنا الشرعي على وجوب الإيجابية وضرورتها في حياة المسلمين اليوم، فمن يقرأ خطاب الله تعالى لأنبيائه يجد الإيجابية هي لحمة هذا الخطاب وسداه، ففي كتاب الله تعالى ثناء على الأنبياء وذريتهم؛ لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، ففي سورة الأنبياء، ذكر القرآن قصة إبراهيم مع قومه، وقصة داود وسليمان، وقصة لوط مع قومه، وبعد أن ذكر إسحاق ويعقوب وقصة نوح عليه السلام، عاد ليثني على أيوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل، ويونس وزكريا ويحيى، ثم عقب على هؤلاء جميعًا بالثناء عليهم بأنهم (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: من الآية 90)، وجعل سبحانه وتعالى من صفات المؤمنين الصادقين المسارعة إلى الخيرات والسبق إليها بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) (المؤمنون).
والمواقف الدالة على الإيجابية والذاتية واستشعار الهمّ بهذا الدين في كتاب الله أكثر من أن تحصى؛
فهذا رجل يعيش في مجتمع كافر لا يعين على الخير، ولا يدعو إليه، وبرغم ذلك فإنه ضرب المثل في الإيجابية والمسارعة إلى الحق وفعل الخير، فعندما يرى تواطؤ الناس على الشر، وإجماعهم على إيقاع الأذى بنبي الله موسى، يقوم من بينهم ليوهن عزمهم ويثبط همتهم، ويكثر لهم النصح، ويحضهم على الإخلاص. ولا يترك سبيلاً من سبل الحجاج العقلي والإقناع الوجداني إلا يسلكها معهم آملاً أن يصل بهم إلى كف الأذى عن نبي الله موسى؛ فهو يبدأ معهم بإحياء ومضة الخير في فطرتهم: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (غافر: من الآية 28) ثم يسهل عليهم أمر البداية ويحببها إليهم، ويطمئن نفوسهم بأنهم لن يصيبهم من تبعة إيمانهم بما جاء به شر أو أذى، وإنما الشر لو وجد فسيحيق بصاحبه (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) (غافر: من الآية 28) ثم ينقلب مخوفًا ومحذرًا في صورة الناصح الأمين، وإنه لكذلك، فيقول: (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) (غافر: من الآية 28) وهي طريقة في الحجاج لم تترك سبيلاً للنفس كي تهرب أو تخادع.
ثم يعرض بإسرافهم على أنفسهم وكذبهم على ربهم مهددًا لهم بذلك فيقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: من الآية 28) وفي ذاتية عالية وثقة بالنفس زائدة ورغبة في الخير ملحة صادقة، يتابع الرجل رسالته فيذكرهم أن النعيم لا يدوم، وأن الملك والجاه والسلطان لا يثبت ولا ينفع أمام غضبة الله وسلطانه".
(يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) (غافر: من الآية 29) ولاحظ معي استعمال ضمير المتكلم، وإدخال نفسه معهم في مصير واحد، زيادة في التلطف، والتحسس لمداخل القلوب واستمالتها (فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) (غافر: من الآية 29).
وبرغم إصرار فرعون- وهو صاحب السلطان والجبروت- على الجمود والكنود وإضمار العداوة، والتمادي في خداع الناس، وركوب موجة التأله الكاذب بقوله: (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: من الآية 29)، برغم هذا الموقف الذي استغل فيه سلبية الناس وانهزامهم وانعدام وزنهم وثقتهم في أنفسهم، لم ينهزم الرجل المؤمن، ولم يستبعد أن يوقع الله التغيير على يديه برغم عدم وضوح أية إشارة أو علامة على قرب التغيير أو هزيمة الباطل المتبجح في هذا الموقف، لكنه يصر على بذل آخر جهد يستطيعه في هذا المضمار، قائلاً: (يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) (غافر).
وبعد أن يصب على أسماعهم تلك الطرقات العنيفات من تذكيرهم بمصارع السابقين من الهالكين، ممن سبقوهم إلى الجدال والعناد، يعود إلى إظهار عاطفة الحب لهم والخوف عليهم، والإشفاق من سوء المصير بين يدي جبار السماوات والأرض في يوم لا ينفعهم فيه طغيان فرعون ولا حاشية ولا سلطانه.
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) (غافر: 32، 33).
وكلمة عاصم جاءت نكرة لينفي من حسهم أي أمل في أية قوة تعصمهم من غضب جبار السماوات والأرض، وهي إشارة ذكية إلى فرعون الذي يقتدون به، ويلوذون بحماه. ويضيعون دينهم ودنياهم بسببه رغبة فيه أو رهبة منه، وهو في الحالين لا يملك من الأمر شيئًا (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (غافر: من الآية 30).
ثم لا يتركهم إلا بعد أن يقيم الحجة عليهم ويذكرهم بأقرب النماذج إليهم وألصق الأحوال بهم، وهو حقبة المصريين مع نبي الله يوسف، وكيف وقفوا منه من قبل موقفًا غبيًّا كالذي يفعلونه الآن مع موسى (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)) (غافر).
ومن ينظر في قصة هذا الرجل، يلاحظ أنه رغم عظم الدور الذي أداه، وروعة المواقف التي وقفها، وبرغم ثبات قلبه، وقوة حجته ورباطة جأشه، فإن السياق القرآني لم يَزد على وصفه بأنه مؤمن من آل فرعون، فهو ليس نبيًّا ولا رسولاً، وليس مدعومًا بقوة سياسية ولا بشرعية حزبية، وإنما كل الذي حكاه السياق هو أنه رجل مؤمن عميق الإيمان بربه مهموم بدعوته، حريص على قومه وعشيرته، مدرك لطبيعة مهمته، تتضح في حسه ومشاعره حقيقة الولاء لمن يحملون هم الدين، ويجاهدون لإصلاح الناس وإسعادهم، كما تتضح في مشاعر حقيقة البراء من الكافرين والخداعين والمتاجرين بآلام الناس وجبنهم، وهوانهم من الطغاة والظالمين، وتقديم الرجل للناس خاليًّا من كل سلطان إلا سلطان ربه والاستناد إليه، أراه رسالة إلى كل الرجال المخلصين العقلاء من أبناء أمتنا اليوم؛ ليقوموا في أمتهم بمثل هذا الدور العظيم، وساعتها سيكون الجهد أوفر، وسيكون العائد أكبر، وستكون الدعوة بين الناس أكثر قبولاً، وأسرع استجابة؛ لأن مجتمعنا اليوم أقل ولاءً للشياطين، وما يزال غالب أفراده يرتادون المساجد، ويؤدون الفرائض، ويذكرون الله، وما يزال يملكون في حسهم رصيدًا من خوف الحساب من اليوم الآخر، ويعملون حسابًا كبيرًا لهذا اليوم.
إن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى رجال من طراز هذا الرجل، لا ينتظرون أوامر إليهم كي تدفعهم إلى أداء دورهم الدعوي، وإنما ينطلقون إلى أداء مهمتهم من إحساسهم بأن الدور الدعوي خير كله، وبأنه مطالب أن يبلغ دعوة الله حبًّا في الله، وإخلاصًا له، ويقينًا بوعده، وتصديقًا بلقائه.
(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) (الكهف: من الآية 110).
وإن كان يريد إذنًا بالدعوة، فليأخذ من قول ربه له: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125 من الآية) ومن قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)) (فصلت).
ومن يقرأ سورة القصص يتأكد أن رد الرجل لم يكن فقط في دعوة أهله وقومه، وتثبيط همة الملأ من قوم فرعون عن إيذاء موسى، كما رأينا في سورة غافر، ولكن عندما رأى إجماع الناس على الباطل، وأن تيار كفرهم وعنادهم أكبر من أن يوقفه جهد رجل ونصائحه، سارع ليحذر موسى من مكرهم وفجورهم، ويفضح ما تواطئوا عليه من التآمر الشيطاني على حياة المخلصين من المؤمنين (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20)) (القصص).
واستجاب موسى لنصيحة الرجل على الفور (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)) (القصص).
إن الرجل لم يلتمس لنفسه العذر في أنه بذل في موقف النصح والإقناع لقومه ما بذل، وأنه اجتهد بكل درجة ممكنة لينقلهم من الكفر إلى الإيمان، أو ليكف أيديهم عن إيذاء المؤمنين، ولكنه عندما لم تفلح جهوده في دعوتهم وهدايتهم انتقل إلى ميدان جهادي آخر، دون أن ينتظر إذنًا من أحد، أو يعود إلى كبير أو صغير يلتمس منه المشورة، أو يتلقى منه الإذن؛ لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى مشورة أو إذن، وأسرع من أن ينتظر ترددًا أو تقصيرًا.
لقد انتقل من ميدان الدعوة والنصيحة إلى ميدان العمل، صبيانه أرواح المخلصين ونصحهم وبيان ما يُدبَّر لهم على أيدي هؤلاء القساة الظالمين المجرمين، فكان الرجل في المجالين عظيمًا وعاقلاً وإيجابيًّا أريبًا.
وقريب من نموذج هذا الرجل، رجل آخر، نلقاه في سورة "يس" عند قوله تعالى:(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)) (يس)
"قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم، فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى أي لينصرهم من قومه، قالوا وهو حبيب بن سرى، وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال اسم صاحب يس حبيب النجار، فقتله قومه، وقال السدي كان قصارًا، وقال عمر بن الحكم كان إسكافًا، وقال قتادة: كان يتعبد في غار هناك.
وأيًّا ما كان الاسم أو الصفة التي كان عليها الرجل، فإن الذي يعنينا هو موقف الرجل من قومه، ومجيئه من أقصى المدينة دون تكليف من أحد، إلا بما وجده في نفسه من ضرورة الدفاع عن المرسلين؛ لثقته في عدالة قضيتهم وصحة دعوتهم وصدق رسالتهم. ويلاحظ أن القرآن من قدم الجار والمجرور الذي يشعر ببعد المسافة وشدة المشقة. (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى)، والفعل الدال على حالة الرجل وقت مجيئه يدل على ما يتمتع به الرجل من شعور بالمسئولية. واهتمام بالأمر جعله يذهب لنصرة الرسل سعيًا، وهو ليس بالمشي العادي- إنما هو مشي سريع أقرب إلى الجري منه إلى السير العادي.
وما أن يصل إلى منتدى القوم حتى يعالنهم بما يعتقد صحته، ويرى فيه نجاة قومه ونصرة الدعاة الصالحين، وزيادة في ترغيب قومه بالهداية وصف الدعاة بأعظم وصف وأصدقه وهو أنهم رسل الله، وبذلك وضع قومه أمام مقام الألوهية لعلهم يخشعون فيهتدون، ثم شفع كلامه بما يستميل قلوبهم ويطمئن نفوسهم، ويقربهم في اتباع المرسلين وهو أنهم لا يتقاضون منهم أجرًا نظير دعوتهم وهدايتهم.
ثم إن حالهم يشهد بأنهم صادقون مخلصون، ويحاول إيقاظ الفطرة المخدرة الغائبة في أعماقهم بقوله يستحثهم وييستنهضهم في صورة أسلوب تحريضي تحقيقي، قائلاً: (وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)) (يس)، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له، وإليه ترجعون يوم المعاد فيجازيكم على أعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
ثم يبدي الرجل إنكاره ودهشته في صورة استفهام تعجبي يحمل معنى التوبيخ والتقريع عندما يقول مستنكرًا: (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ (23) (يس)، وفي نوع من الإسقاط والتعريض بهم، وفي كياسة عالية، وذكاء عظيم يجعل نفسه هدفًا للمثل الذي لا يحمد، ويعلن عن استهجانه ونفوره لهذا التفكير الأعوج مصدرًا حكمًا على نفسه إن كان كذلك، ولما كان هو من المؤمنين، وليس من هذا الصنف البليد؛ فإن الحكم يكون قد أصابهم هم، لكن ذلك كله يتم دون مواجهة أو مصادمة أو تهييج، إنه لم يزد على أن قال: إني إن فعلت ذلك أكون في ضلال مبين، فهل ترضون أن تكونوا كذلك؟! ثم يعلن إيمانه بربه سبحانه موجهًا خطابه لقومه قائلاً: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) (يس: من الآية 25)، أي الذي كفرتم به (فَاسْمَعُون) (يس: من الآية 25) أي فاسمعوا قولي.
ويحتمل أن يكون خطابه إلى الرسل يشهدهم على إيمانه، وتلمح في الآيات إيجازًا بالحذف، فنجد أنفسنا أمام نهاية مأساوية حزينة عندما يخاطبنا بعد أن صار بين يدي ربه في الجنة؛ فندرك حينئذ أن الرجل كان ضحية جهل المدعوين وحمقهم واستيلاء الشيطان عليهم.
ومن يتصور مجتمعًا مجمعًا على الكفر مقيمًا عليه متلبسًا به قد عايش أوضاعه وأحواله، وصار له معها إلف وعادة، يدرك مدى صعوبة المهمة التي يقوم به رجل يصادم هذا كله ويصادره، ويتكلم على حالهم كله بأنه ليس بشيء، مهما كان رقيقًا مهذبًا أديبًا، لا بد أن يلاقي من قومه إنكارًا أو إعراضًا، وقسوة تصل إلى حد التصفية الجسدية الكاملة، وهو المصير الذي لقيه أخونا المؤمن في موقفه الإيماني هذا،
إنها النفوس الأبية النقية التي لا تقبل الزيف ولا تسيغه، ولا تنحني في مواقف الحق، إلا لله رب العالمين (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)) (يس) قالها منتصرًا بها للحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، صادعًا بها في وجه الباطل رغم علمه بما عليه أهل الباطل من جحود وكنود، وما يتوقع منهم من بغي وظلم وعدوان أثيم، لكن الحق أغلى عليه من نفسه، والصدع به آثر لديه من العيش الذليل حتى وإن كان الثمن هو الروح.
إنني أحس أنني اقتربت، بل امتزجت بروح مؤمنة تقية من أبناء هذا الزمان، عاشت للحق، وصدعت به وواجهت سلطان الظلم والعدوان، وهو أعزل إلا من سلاح الإيمان، كان عليل الجسم سقيم البدن، وهكذا كان صاحب يس، فقد كان كما روى ابن إسحاق رجلاً سقيمًا قد أسرع فيه الجزام.
وأرى النموذج الذي اقتربنا منه وغمرتنا روحه المباركة الطيبة هو "حبيب" هذا الزمان، ومعه سيكون معه المقال المقبل إن شاء الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.