لجنة المرأة بنقابة الصحفيين تصدر دليلًا إرشاديًا لتغطية الانتخابات البرلمانية    بعد التراجع الأخير.. أسعار الفراخ والبيض في أسواق وبورصة الشرقية الإثنين 10-11-2025    وزير المالية: بعثة صندوق النقد تصل قريبًا ومؤشراتنا مطمئنة    وزير الاستثمار: 16 مليار دولار حجم التجارة مع الصين.. ولدينا 46 شركة تعمل في مصر    10 آلاف تأخير و2700 إلغاء.. شركات الطيران بأمريكا تواجه أسوأ يوم منذ بداية الإغلاق الحكومى    زيلينسكي يكشف ما حدث خلال لقائه مع ترامب    واشنطن تضغط على إسرائيل لبدء المرحلة الثانية من خطة ترامب    «طلعوا الشتوى».. تحذير شديد بشأن حالة الطقس: استعدوا ل منخفض جوى بارد    حجز مدير كيان تعليمي وهمي للنصب على المواطنين وتزوير الشهادات    الزراعة: تحصينات الحمي القلاعية تحقق نجاحًا بنسبة 100%    «لاعب مهمل».. حازم إمام يشن هجومًا ناريًا على نجم الزمالك    «محدش كان يعرفك وعملنالك سعر».. قناة الزمالك تفتح النار على زيزو بعد تصرفه مع هشام نصر    السوبرانو فاطمة سعيد: حفل افتتاح المتحف الكبير حدث تاريخي لن يتكرر.. وردود الفعل كانت إيجابية جدًا    حدث ليلا.. مواجهات وملفات ساخنة حول العالم (فيديو)    الأهلى بطلا لكأس السوبر المصرى للمرة ال16.. فى كاريكاتير اليوم السابع    شيري عادل: «بتكسف لما بتفرج على نفسي في أي مسلسل»    عدسة نانوية ثورية ابتكار روسي بديل للأشعة السينية في الطب    السقا والرداد وأيتن عامر.. نجوم الفن في عزاء والد محمد رمضان | صور    اليوم.. العرض الخاص لفيلم «السلم والثعبان 2» بحضور أبطال العمل    اليوم..1283 مرشحًا فرديًا يتنافسون على 142 مقعدًا فى «ماراثون النواب»    التحول الرقمي.. مساعد وزير الصحة: هدفنا تمكين متخذي القرار عبر بيانات دقيقة وموثوقة    مواجهات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلى شمال القدس المحتلة    حركة القطارات| 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الاثنين 10 نوفمبر    قطع التيار الكهربائي اليوم عن 18 منطقة في كفر الشيخ.. اعرف السبب    «الكهرباء»: تركيب 2 مليون عداد كودي لمواجهة سرقة التيار وتحسين جودة الخدمة    مساعد وزير الصحة: نستهدف توفير 3 أسرة لكل 1000 نسمة وفق المعايير العالمية    عاجل نقل الفنان محمد صبحي للعناية المركزة.. التفاصيل هنا    وفد أمريكي يعلن من بيروت استعداده للمساعدة في نزع سلاح حزب الله    ترامب يتهم "بي بي سي" بالتلاعب بخطابه ومحاولة التأثير على الانتخابات الأمريكية    طوابير بالتنقيط وصور بالذكاء الاصطناعي.. المشهد الأبرز في تصويت المصريين بالخارج يكشف هزلية "انتخابات" النواب    رئيس لجنة كورونا يوضح أعراض الفيروس الجديد ويحذر الفئات الأكثر عرضة    الطالبان المتهمان في حادث دهس الشيخ زايد: «والدنا خبط الضحايا بالعربية وجرى»    وفاة العقيد عمرو حسن من قوات تأمين الانتخابات شمال المنيا    «مش بيلعب وبينضم».. شيكابالا ينتقد تواجد مصطفى شوبير مع منتخب مصر    معسكر منتخب مصر المشارك في كأس العرب ينطلق اليوم استعدادا لمواجهتي الجزائر    مي عمر أمام أحمد السقا في فيلم «هيروشيما»    باريس سان جيرمان يسترجع صدارة الدوري بفوز على ليون في ال +90    «لا تقاوم».. طريقة عمل الملوخية خطوة بخطوة    أداة «غير مضمونة» للتخلص من الشيب.. موضة حقن الشعر الرمادي تثير جدلا    أمواج تسونامي خفيفة تصل شمال شرق اليابان بعد زلزال بقوة 6.9 درجة    ON SPORT تعرض ملخص لمسات زيزو فى السوبر المحلى أمام الزمالك    «لاعيبة لا تستحق قميص الزمالك».. ميدو يفتح النار على مسؤولي القلعة البيضاء    الكشف إصابة أحمد سامي مدافع بيراميدز    مساعد وزير الصحة لنظم المعلومات: التحول الرقمي محور المؤتمر العالمي الثالث للسكان والصحة    نشأت أبو الخير يكتب: القديس مارمرقس كاروز الديار المصرية    3 أبراج «مستحيل يقولوا بحبك في الأول».. يخافون من الرفض ولا يعترفون بمشاعرهم بسهولة    ميشيل مساك لصاحبة السعادة: أغنية الحلوة تصدرت الترند مرتين    البابا تواضروس ومحافظ الجيزة يفتتحان عددًا من المشروعات الخدمية والاجتماعية ب6 أكتوبر    محافظ قنا يشارك في احتفالات موسم الشهيد مارجرجس بدير المحروسة    3 سيارات إطفاء تسيطر على حريق مخبز بالبدرشين    تطورات الحالة الصحية للمطرب إسماعيل الليثى بعد تعرضه لحادث أليم    كشف ملابسات فيديو صفع سيدة بالشرقية بسبب خلافات على تهوية الخبز    نجل عبد الناصر يرد على ياسر جلال بعد تصريح إنزال قوات صاعقة جزائرية بميدان التحرير    هل يجوز الحلف ب«وحياتك» أو «ورحمة أمك»؟.. أمين الفتوى يُجيب    هل يجوز أن تكتب الأم ذهبها كله لابنتها؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    هل يذهب من مسه السحر للمعالجين بالقرآن؟.. أمين الفتوى يجيب    خالد الجندي: الاستخارة ليست منامًا ولا 3 أيام فقط بل تيسير أو صرف من الله    تعرف على مواقيت الصلاة بمطروح اليوم وأذكار الصباح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نماذج من الإيجابية في القرآن الكريم
نشر في الشعب يوم 01 - 09 - 2011

الإيجابية أو الذاتية كلمات فرضت نفسها على حياتنا الثقافية؛ نتيجة احتياج الساحة الدعوية إليها؛ ولأنها كلمات جديدة على حياة الناس في هذه الأيام؛ فربما احتاجت إلى تأصيل شرعي ولغوي؛ حتى لا نُفاجأ بأحد المتحذلقين يقف أمامك منتصبًا يسألك عن الأصل اللغوي لهذه الكلمة، ويفاجئك- جهلاً- بأنها لا وجود لها في معاجمنا اللغوية؛ فإنني سأسارع إلى التأصيل اللغوي لكلمة الإيجابية- أما الذاتية فهي نسبة إلى الذات- وأظنها لا تحتاج إلى تذليل أو تأصيل.
الإيجابية مصدر صناعي جيء به للدلالة على سرعة التفاعل مع الحدث وحضور البديهة عند اشتجار الأمور وتشابكها، وهي مأخوذة من مادة الفعل "وجب" وفعلها أجاب: يجيب- إجابة، بمعنى لبى- وأطاع في سرعة وبلا تردد، ومصدر الفعل أجاب: إجابة ومجاوبة، يقول صاحب الألفية في النحو: "لفاعل الفعالُ والمفاعلة" ومن مادة الفعل "وجب" جاء اسم الله تعالى (المجيب) ومن ذلك قوله تعالى: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ) (الأحقاف: من الآية 31)، وقوله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّه) (الشورى: من الآية 47)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: من الآية 24).

ولأن الفعل يقصد به التفاعل مع المواقف، وإبداء الرأي فيها والمشاركة المؤثرة في تحديد مصيرها، انطلاقًا من إحساس ذاتي واقتناع داخلي؛ فإن البعض استحسن تسميتها ¬"بالذاتية" لتكون أقرب إلى الانفعال الذاتي دون انتظار لتوجيه خارجي.
والإيجابية بهذا المعنى تمثل المطلب الدعوي والأهم، الذي تحتاج إليه المرحلة في هذه الأيام.
ولو نظرنا في مقومات النجاح التي سبقت كل عمل إصلاحي ناضج أو كل حركة تغييرية ناجحة، لرأينا الإيجابية أو الذاتية كانت هي السمة الأساسية الأشد وضوحًا، والأكثر قوةً وتأثيرًا في حياة القائمين على هذه الحركات في كل زمان ومكان، وكتاب الله سبحانه وتعالى بما حوى من أوامر ونواه ودعوة ملحة إلى التغيير والإصلاح، هو أوضح مثال لذلك.
وهو أيضًا دليلنا الشرعي على وجوب الإيجابية وضرورتها في حياة المسلمين اليوم، فمن يقرأ خطاب الله تعالى لأنبيائه يجد الإيجابية هي لحمة هذا الخطاب وسداه، ففي كتاب الله تعالى ثناء على الأنبياء وذريتهم؛ لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، ففي سورة الأنبياء، ذكر القرآن قصة إبراهيم مع قومه، وقصة داود وسليمان، وقصة لوط مع قومه، وبعد أن ذكر إسحاق ويعقوب وقصة نوح عليه السلام، عاد ليثني على أيوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل، ويونس وزكريا ويحيى، ثم عقب على هؤلاء جميعًا بالثناء عليهم بأنهم (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) (الأنبياء: من الآية 90)، وجعل سبحانه وتعالى من صفات المؤمنين الصادقين المسارعة إلى الخيرات والسبق إليها بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) (المؤمنون).
والمواقف الدالة على الإيجابية والذاتية واستشعار الهمّ بهذا الدين في كتاب الله أكثر من أن تحصى؛
فهذا رجل يعيش في مجتمع كافر لا يعين على الخير، ولا يدعو إليه، وبرغم ذلك فإنه ضرب المثل في الإيجابية والمسارعة إلى الحق وفعل الخير، فعندما يرى تواطؤ الناس على الشر، وإجماعهم على إيقاع الأذى بنبي الله موسى، يقوم من بينهم ليوهن عزمهم ويثبط همتهم، ويكثر لهم النصح، ويحضهم على الإخلاص. ولا يترك سبيلاً من سبل الحجاج العقلي والإقناع الوجداني إلا يسلكها معهم آملاً أن يصل بهم إلى كف الأذى عن نبي الله موسى؛ فهو يبدأ معهم بإحياء ومضة الخير في فطرتهم: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (غافر: من الآية 28) ثم يسهل عليهم أمر البداية ويحببها إليهم، ويطمئن نفوسهم بأنهم لن يصيبهم من تبعة إيمانهم بما جاء به شر أو أذى، وإنما الشر لو وجد فسيحيق بصاحبه (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) (غافر: من الآية 28) ثم ينقلب مخوفًا ومحذرًا في صورة الناصح الأمين، وإنه لكذلك، فيقول: (وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) (غافر: من الآية 28) وهي طريقة في الحجاج لم تترك سبيلاً للنفس كي تهرب أو تخادع.
ثم يعرض بإسرافهم على أنفسهم وكذبهم على ربهم مهددًا لهم بذلك فيقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) (غافر: من الآية 28) وفي ذاتية عالية وثقة بالنفس زائدة ورغبة في الخير ملحة صادقة، يتابع الرجل رسالته فيذكرهم أن النعيم لا يدوم، وأن الملك والجاه والسلطان لا يثبت ولا ينفع أمام غضبة الله وسلطانه".
(يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) (غافر: من الآية 29) ولاحظ معي استعمال ضمير المتكلم، وإدخال نفسه معهم في مصير واحد، زيادة في التلطف، والتحسس لمداخل القلوب واستمالتها (فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا) (غافر: من الآية 29).
وبرغم إصرار فرعون- وهو صاحب السلطان والجبروت- على الجمود والكنود وإضمار العداوة، والتمادي في خداع الناس، وركوب موجة التأله الكاذب بقوله: (مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) (غافر: من الآية 29)، برغم هذا الموقف الذي استغل فيه سلبية الناس وانهزامهم وانعدام وزنهم وثقتهم في أنفسهم، لم ينهزم الرجل المؤمن، ولم يستبعد أن يوقع الله التغيير على يديه برغم عدم وضوح أية إشارة أو علامة على قرب التغيير أو هزيمة الباطل المتبجح في هذا الموقف، لكنه يصر على بذل آخر جهد يستطيعه في هذا المضمار، قائلاً: (يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) (غافر).
وبعد أن يصب على أسماعهم تلك الطرقات العنيفات من تذكيرهم بمصارع السابقين من الهالكين، ممن سبقوهم إلى الجدال والعناد، يعود إلى إظهار عاطفة الحب لهم والخوف عليهم، والإشفاق من سوء المصير بين يدي جبار السماوات والأرض في يوم لا ينفعهم فيه طغيان فرعون ولا حاشية ولا سلطانه.
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) (غافر: 32، 33).
وكلمة عاصم جاءت نكرة لينفي من حسهم أي أمل في أية قوة تعصمهم من غضب جبار السماوات والأرض، وهي إشارة ذكية إلى فرعون الذي يقتدون به، ويلوذون بحماه. ويضيعون دينهم ودنياهم بسببه رغبة فيه أو رهبة منه، وهو في الحالين لا يملك من الأمر شيئًا (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (غافر: من الآية 30).
ثم لا يتركهم إلا بعد أن يقيم الحجة عليهم ويذكرهم بأقرب النماذج إليهم وألصق الأحوال بهم، وهو حقبة المصريين مع نبي الله يوسف، وكيف وقفوا منه من قبل موقفًا غبيًّا كالذي يفعلونه الآن مع موسى (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)) (غافر).
ومن ينظر في قصة هذا الرجل، يلاحظ أنه رغم عظم الدور الذي أداه، وروعة المواقف التي وقفها، وبرغم ثبات قلبه، وقوة حجته ورباطة جأشه، فإن السياق القرآني لم يَزد على وصفه بأنه مؤمن من آل فرعون، فهو ليس نبيًّا ولا رسولاً، وليس مدعومًا بقوة سياسية ولا بشرعية حزبية، وإنما كل الذي حكاه السياق هو أنه رجل مؤمن عميق الإيمان بربه مهموم بدعوته، حريص على قومه وعشيرته، مدرك لطبيعة مهمته، تتضح في حسه ومشاعره حقيقة الولاء لمن يحملون هم الدين، ويجاهدون لإصلاح الناس وإسعادهم، كما تتضح في مشاعر حقيقة البراء من الكافرين والخداعين والمتاجرين بآلام الناس وجبنهم، وهوانهم من الطغاة والظالمين، وتقديم الرجل للناس خاليًّا من كل سلطان إلا سلطان ربه والاستناد إليه، أراه رسالة إلى كل الرجال المخلصين العقلاء من أبناء أمتنا اليوم؛ ليقوموا في أمتهم بمثل هذا الدور العظيم، وساعتها سيكون الجهد أوفر، وسيكون العائد أكبر، وستكون الدعوة بين الناس أكثر قبولاً، وأسرع استجابة؛ لأن مجتمعنا اليوم أقل ولاءً للشياطين، وما يزال غالب أفراده يرتادون المساجد، ويؤدون الفرائض، ويذكرون الله، وما يزال يملكون في حسهم رصيدًا من خوف الحساب من اليوم الآخر، ويعملون حسابًا كبيرًا لهذا اليوم.
إن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى رجال من طراز هذا الرجل، لا ينتظرون أوامر إليهم كي تدفعهم إلى أداء دورهم الدعوي، وإنما ينطلقون إلى أداء مهمتهم من إحساسهم بأن الدور الدعوي خير كله، وبأنه مطالب أن يبلغ دعوة الله حبًّا في الله، وإخلاصًا له، ويقينًا بوعده، وتصديقًا بلقائه.
(فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)) (الكهف: من الآية 110).
وإن كان يريد إذنًا بالدعوة، فليأخذ من قول ربه له: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125 من الآية) ومن قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ (33)) (فصلت).
ومن يقرأ سورة القصص يتأكد أن رد الرجل لم يكن فقط في دعوة أهله وقومه، وتثبيط همة الملأ من قوم فرعون عن إيذاء موسى، كما رأينا في سورة غافر، ولكن عندما رأى إجماع الناس على الباطل، وأن تيار كفرهم وعنادهم أكبر من أن يوقفه جهد رجل ونصائحه، سارع ليحذر موسى من مكرهم وفجورهم، ويفضح ما تواطئوا عليه من التآمر الشيطاني على حياة المخلصين من المؤمنين (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ (20)) (القصص).
واستجاب موسى لنصيحة الرجل على الفور (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)) (القصص).
إن الرجل لم يلتمس لنفسه العذر في أنه بذل في موقف النصح والإقناع لقومه ما بذل، وأنه اجتهد بكل درجة ممكنة لينقلهم من الكفر إلى الإيمان، أو ليكف أيديهم عن إيذاء المؤمنين، ولكنه عندما لم تفلح جهوده في دعوتهم وهدايتهم انتقل إلى ميدان جهادي آخر، دون أن ينتظر إذنًا من أحد، أو يعود إلى كبير أو صغير يلتمس منه المشورة، أو يتلقى منه الإذن؛ لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى مشورة أو إذن، وأسرع من أن ينتظر ترددًا أو تقصيرًا.
لقد انتقل من ميدان الدعوة والنصيحة إلى ميدان العمل، صبيانه أرواح المخلصين ونصحهم وبيان ما يُدبَّر لهم على أيدي هؤلاء القساة الظالمين المجرمين، فكان الرجل في المجالين عظيمًا وعاقلاً وإيجابيًّا أريبًا.
وقريب من نموذج هذا الرجل، رجل آخر، نلقاه في سورة "يس" عند قوله تعالى:(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)) (يس)
"قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم، فجاء رجل من أقصى المدينة يسعى أي لينصرهم من قومه، قالوا وهو حبيب بن سرى، وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال اسم صاحب يس حبيب النجار، فقتله قومه، وقال السدي كان قصارًا، وقال عمر بن الحكم كان إسكافًا، وقال قتادة: كان يتعبد في غار هناك.
وأيًّا ما كان الاسم أو الصفة التي كان عليها الرجل، فإن الذي يعنينا هو موقف الرجل من قومه، ومجيئه من أقصى المدينة دون تكليف من أحد، إلا بما وجده في نفسه من ضرورة الدفاع عن المرسلين؛ لثقته في عدالة قضيتهم وصحة دعوتهم وصدق رسالتهم. ويلاحظ أن القرآن من قدم الجار والمجرور الذي يشعر ببعد المسافة وشدة المشقة. (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى)، والفعل الدال على حالة الرجل وقت مجيئه يدل على ما يتمتع به الرجل من شعور بالمسئولية. واهتمام بالأمر جعله يذهب لنصرة الرسل سعيًا، وهو ليس بالمشي العادي- إنما هو مشي سريع أقرب إلى الجري منه إلى السير العادي.
وما أن يصل إلى منتدى القوم حتى يعالنهم بما يعتقد صحته، ويرى فيه نجاة قومه ونصرة الدعاة الصالحين، وزيادة في ترغيب قومه بالهداية وصف الدعاة بأعظم وصف وأصدقه وهو أنهم رسل الله، وبذلك وضع قومه أمام مقام الألوهية لعلهم يخشعون فيهتدون، ثم شفع كلامه بما يستميل قلوبهم ويطمئن نفوسهم، ويقربهم في اتباع المرسلين وهو أنهم لا يتقاضون منهم أجرًا نظير دعوتهم وهدايتهم.
ثم إن حالهم يشهد بأنهم صادقون مخلصون، ويحاول إيقاظ الفطرة المخدرة الغائبة في أعماقهم بقوله يستحثهم وييستنهضهم في صورة أسلوب تحريضي تحقيقي، قائلاً: (وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)) (يس)، يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له، وإليه ترجعون يوم المعاد فيجازيكم على أعمالكم إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.
ثم يبدي الرجل إنكاره ودهشته في صورة استفهام تعجبي يحمل معنى التوبيخ والتقريع عندما يقول مستنكرًا: (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ (23) (يس)، وفي نوع من الإسقاط والتعريض بهم، وفي كياسة عالية، وذكاء عظيم يجعل نفسه هدفًا للمثل الذي لا يحمد، ويعلن عن استهجانه ونفوره لهذا التفكير الأعوج مصدرًا حكمًا على نفسه إن كان كذلك، ولما كان هو من المؤمنين، وليس من هذا الصنف البليد؛ فإن الحكم يكون قد أصابهم هم، لكن ذلك كله يتم دون مواجهة أو مصادمة أو تهييج، إنه لم يزد على أن قال: إني إن فعلت ذلك أكون في ضلال مبين، فهل ترضون أن تكونوا كذلك؟! ثم يعلن إيمانه بربه سبحانه موجهًا خطابه لقومه قائلاً: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) (يس: من الآية 25)، أي الذي كفرتم به (فَاسْمَعُون) (يس: من الآية 25) أي فاسمعوا قولي.
ويحتمل أن يكون خطابه إلى الرسل يشهدهم على إيمانه، وتلمح في الآيات إيجازًا بالحذف، فنجد أنفسنا أمام نهاية مأساوية حزينة عندما يخاطبنا بعد أن صار بين يدي ربه في الجنة؛ فندرك حينئذ أن الرجل كان ضحية جهل المدعوين وحمقهم واستيلاء الشيطان عليهم.
ومن يتصور مجتمعًا مجمعًا على الكفر مقيمًا عليه متلبسًا به قد عايش أوضاعه وأحواله، وصار له معها إلف وعادة، يدرك مدى صعوبة المهمة التي يقوم به رجل يصادم هذا كله ويصادره، ويتكلم على حالهم كله بأنه ليس بشيء، مهما كان رقيقًا مهذبًا أديبًا، لا بد أن يلاقي من قومه إنكارًا أو إعراضًا، وقسوة تصل إلى حد التصفية الجسدية الكاملة، وهو المصير الذي لقيه أخونا المؤمن في موقفه الإيماني هذا،
إنها النفوس الأبية النقية التي لا تقبل الزيف ولا تسيغه، ولا تنحني في مواقف الحق، إلا لله رب العالمين (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)) (يس) قالها منتصرًا بها للحق الذي قامت عليه السماوات والأرض، صادعًا بها في وجه الباطل رغم علمه بما عليه أهل الباطل من جحود وكنود، وما يتوقع منهم من بغي وظلم وعدوان أثيم، لكن الحق أغلى عليه من نفسه، والصدع به آثر لديه من العيش الذليل حتى وإن كان الثمن هو الروح.
إنني أحس أنني اقتربت، بل امتزجت بروح مؤمنة تقية من أبناء هذا الزمان، عاشت للحق، وصدعت به وواجهت سلطان الظلم والعدوان، وهو أعزل إلا من سلاح الإيمان، كان عليل الجسم سقيم البدن، وهكذا كان صاحب يس، فقد كان كما روى ابن إسحاق رجلاً سقيمًا قد أسرع فيه الجزام.
وأرى النموذج الذي اقتربنا منه وغمرتنا روحه المباركة الطيبة هو "حبيب" هذا الزمان، ومعه سيكون معه المقال المقبل إن شاء الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.