إذا ذكرت كلمة الرياضة فى مصر فإن الذهن ينصرف فورا لكرة القدم, ثم للناديين الأهلى والزمالك، فقد اختزلت الرياضة فى كرة القدم، بل مجرد تشجيعها بشكل تفصيلى ويومى، حتى أضحى تشجيع كرة القدم هو الهواية الأولى للشعب المصرى. ولا اعتراض على كرة القدم فى حد ذاتها كلعبة شعبية, ولكن الاعتراض على إهمال كافة أنواع الرياضيات الأخرى، بل والأهم من ذلك إهمال تحويل أبناء الشعب جميعا إلى رياضيين أصحاء وفقا للشعار المعروف (الرياضة للجميع). فالرياضة فرض دينى لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالتحلى بالقوة، والقوة تبدأ بصحة وسلامة بنيان الجسد، والرياضة أحد الوسائل الأساسية للحفاظ على الصحة، والتى تنعكس بعد ذلك على صفاء الذهن والتفكير. وهى حق للجميع, وإن كان التركيز بطبيعة الحال على الأطفال والفتية والشباب. والدولة وكبار المسئولين والإعلام الرسمى وراء هذا الهوس فى التشجيع الكروى (كرة القدم) ليس بهدف الاهتمام بالرياضة, ولكن لشغل الناس بعيدا عن الهموم العامة. ومحاولة تحقيق إنجاز فى كرة القدم يعوض غياب الإنجازات فى السياسة والعلم والاقتصاد! وحتى هذا لم يتحقق حتى الآن إلا على المستوى الأفريقى. ولكن كرة القدم تعيش بين الناس لسبب آخر، فلأن الرياضة تحتاج إلى تجهيزات وتكاليف مادية ومكان ملائم (السباحة - التنس - ألعاب القوى.. إلخ), وهو ما لا يجده الشباب، فإنهم يلعبون كرة القدم لأنها لا تحتاج إلا إلى كرة وأرض فضاء فى الشارع أو الحارة أو قطعة أرض خالية فى القرية. والوقع أن الدولة ملزمة بإنشاء نوادى حقيقية (لا مراكز الشباب البائسة الحالية) فى كل قرية وكل حى، وأن تشتمل قدر الإمكان على أكبر عدد ممكن من اللعبات المتنوعة. وجموع الناس مستعدة للمشاركة التطوعية فى بعض التمويل شريطة توفير قطعة أرض، ولكن الحكومة انشغلت أكثر بالسيطرة السياسية على مراكز الشباب, بحيث تكون تحت قبضة الحزب الحاكم، وألغت الانتخابات فى هذه المراكز مما تسبب فى انفضاض الشباب عنها. كذلك فإن انتشار المدارس بدون ملاعب، مفهوم خاطىء "للتربية والتعليم", فلا توجد مدرسة حقيقية بدون ملاعب وبحصص رياضية حقيقية، والمسألة ليست بكم المدارس التى تبنى بدون تعليم حقيقى وتربية حقيقية, بما فى ذلك التربية البدنية. لقد أصبحنا نخرج أجيالا ضعيفة العقول والأجسام معا. وأصبحت الرياضة بذلك محصورة فى أبناء الأغنياء وقسم من أبناء الطبقة الوسطى، بالإضافة لقلة محدودة من الرياضيين المحترفين. والتعلل بالإمكانيات مرفوض سواء فى هذا المجال أو غيره، بل إننا نرى كيف تجرى الأموال أنهارا وبالملايين فى مجال كرة القدم على سبيل المثال. ولابد من إحياء البطولات بين القرى والمدن داخل كل محافظة، وبين المدارس والجامعات المختلفة، لإعطاء جدية لممارسة الرياضة، واستخدامها كوسيلة للتربية وتعليم الأخلاق الحميدة من غرس قيم المنافسة الشريفة، والتعاون وتعلم النظام والانضباط. أما الاقتصار على الأندية الرياضية الحالية فهو أمر لا يكفى فهى محدودة العدد جدا, وتكاد تتركز فى القاهرة والمدن الكبرى والاشتراك فيها يصل إلى مبالغ خيالية، فى حين أن الرياضة حق للجميع. واتساع القاعدة الرياضية فى مختلف اللعبات من الحى والمدرسة والقرية، هو الذى يمكن أن يساعدنا فى انتخاب المجموعات والفرق التى تمثلنا فى البطولات الدولية والأولمبية. وقد تحولت الأولمبياد إلى أحد معايير التقدم الحضارى بين الأمم, وتأخذ الدول بجدية هذه المنافسة الحضارية، وتعتمد على الوسائل العلمية فى التدريب، لتحطيم الأرقام القياسية وحصد أكبر عدد من الميداليات والبطولات. وتحطيم الأرقام القياسية فى الرياضة من آيات التحدى الإنسانى لقوانين الطبيعة، واستمرارها حتى الآن من مظاهر الطاقة الإنسانية التى لا تنفد, وهذا التفاخر بين الأمم فى هذه المنافسات الشريفة مما يعمق الانتماء الوطنى، وهو رمز لتطور الأمم, لذلك فإن أغلب النتائج الرياضية تعكس التقدم الحضارى العام للأطراف المتنافسة، وهو رمز للتنافس السلمى بعيدا عن الحروب. وسجلنا فى البطولات الدولية كما هو معروف بالغ الرداءة, ونحن فى الأولمبياد إما نخرج بصفر كبير أو نكون فى ذيل القائمة بعدد هزيل من الميداليات، وفى هذا قياس حقيقى لحالتنا الحضارية العامة. وإن كنا نسعى لنثبت وجودنا فى هذا التنافس الحضارى بين الأمم، ولكن يظل الهدف الأساسى هو بناء أمة صحيحة وقوية بدنيا. ونعود لمسألة كرة القدم من جديد.. لنشير إلى ظاهرة بالغة الخطورة، باعتبار أن كرة القدم هى النشاط الأبرز فى المجال الرياضى الذى يشغل الجماهير، وهو حالة الانحطاط فى القيم الأخلاقية المحيطة بها، فإذا كان الهدف من الرياضة إزكاء قيم أخلاقية راقية بعد بناء الأجسام، فإن المناخ المحيط بكرة القدم لا يشيع إلا أسوأ القيم والأخلاقيات، من تشجيع غير رياضى تستخدم فيه الألفاظ البذيئة والعنف ضد جماهير النادى الآخر, وتحطيم السيارات والممتلكات العامة والخاصة. وانتقال هذا المستوى الهابط إلى بعض الإعلاميين الرياضيين. كذلك يتم نقل أسلوب الاحتراف من أوروبا والغرب عموما بأسلوب مشوه فلا ننقل إلا المساوىء، فننشغل بالحروب اليومية حول بيع اللاعبين بالملايين، وانتقال اللاعب من نادى لآخر وفقا لقاعدة من يدفع أكثر، وقد أصبح الإعلام طافحا بهذه القصص الرديئة. ولم ننقل من أوروبا الحزم والانضباط، واستخدام الوسائل العلمية فى التدريب. ويجب الجمع بين نظم الاحتراف، والحفاظ على القيم الرياضية الجميلة، وفكرة الارتباط بنادى محدد وأن يكون الولاء له، وعدم المغالاة فى الأموال التى يحصل عليها اللاعبون، وعدم السماح باستخدامهم فى الإعلانات للحصول على مزيد من الأموال, وهكذا سادت فى أجواء كرة القدم أجواء "البيزنس" وتراجعت كل المعانى الطيبة المرتبطة بالمنافسات الرياضية الشريفة، وساءت العلاقات بين اللاعبين والمدربين, وأصبحت المسألة علاقات مالية. وكل هذا الغثاء لم يفدنا فى الوصول لكأس العالم. فلا نحن بنينا قاعدة رياضية واسعة للشعب، ولا نحن حققنا مكسبا أدبيا على مستوى العالم. كما دخل الهوس فى تشجيع كرة القدم من أسوأ أبوابه، حيث قاد الإعلام الحكومى حملة ضد الجزائر أدت إلى أزمة بين البلدين بسبب مباراة كرة قدم، وتحولت الحملة إلى هجوم على الشعب الجزائرى الشقيق بأسره، وليس على مجموعة من المشجعين الجزائريين، ووصل الأمر إلى حالة من الشحن الطائفى والعنصرى ضد الشعب الجزائرى, ثم تحولت الحملة إلى شحن عنصرى ضد العرب جميعا!! وقاد هذه الحملة العجيبة أحد أبناء حاكم البلاد بنفسه من خلال التلفزيون الحكومى، والسبب الرئيسى لذلك أن النظام كان يراهن على مشاركة مصر فى كأس العالم لاعتبار ذلك من منجزاته، وقد أدى هذا العبث إلى تحول كرة القدم إلى باب للخصم من قيم المجتمع، ومن مكانة مصر بين العرب. ***** من المهم أن نوضح نقطتين فى مسألة مغزى البطولات الدولية والأولمبياد: 1- كما أوضحنا أن التنافس فى الأولمبياد، رمز للتنافس الحضارى بين الأمم، لذلك ستجد ترتيب الدول فى الأولمبياد قريب جدا للتماثل مع ترتيبها فى التنمية البشرية والاقتصادية، فلم يكن من قبيل الصدف أن الصين احتلت المركز الثالث فى دورة سيدنى عام 2000, ثم قفزت إلى المركز الثانى فى دورة أثينا عام 2004, ثم احتلت المركز الأول فى دورة بكين 2008, وأزاحت الولاياتالمتحدة إلى المركز الثانى, وجاءت روسيا فى المركز الثالث. وهذا يتوازى مع صعود الصين للمركز الثانى فى الاقتصاد العالمى، وهى على وشك إزاحة الولاياتالمتحدة من القمة الاقتصادية العالمية خلال سنوات قليلة تقدرها الدراسات بعام 2025. والتفوق الرياضى يرتبط بثلاثة عوامل رئيسية: أ. توسيع القاعدة الرياضية الشعبية فى شتى الألعاب على المستوى الوطنى. ب. الإنفاق المالى على هذا التوسيع. ج. الجدية الشديدة فى التدريب, وانتهاج الوسائل العلمية فيه مع النخبة الرياضية المنتخبة من هذه القاعدة العريضة. والتفوق فى المجال الرياضى لا يحقق مكاسب مادية للأمة المتفوقة، كما تفعل الجيوش باحتلال الأراضى أو كما تفعله الشركات الاقتصادية باحتلال الأسواق، ولكنه يفعل أكثر من ذلك، وهو احتلال القلوب، واكتساب احترام الشعوب الأخرى، وتعزيز مكانة الأمة المتفوقة من الناحية المعنوية. كما أن هذه الانتصارات تعزز روح الوطنية والاعتزاز بالوطن وأبنائه (ماذا يكون شعورنا عندما تخرج مصر بلا ميدالية واحدة. وإذا أخذت تحتل المركز الأخير بين الحاصلين على ميداليات؟!). 2- كما ذكرنا فإن تحطيم الأرقام القياسية منذ بدايات القرن العشرين مسألة لها مغزى إنسانى كبير، فهى تعكس إرادة الإنسان فى التغلب على قوانين الطبيعة (كقانون الجاذبية)، فإذا فكر الإنسان بشكل مجرد فقد يقول إن تحطيم الأرقام القياسية لابد أنه سيتوقف لأن هناك حدودا لقدرة الإنسان، لذا فإنها من الأمور المعجزة فى خلق الله الذى أودع طاقة لا نهائية فى الإنسان أن يظل تحطيم الأرقام القياسية متواصلا وبكثافة شديدة (تحدث عن هذه الظاهرة أحمد حسين فى كتابه المهم: الطاقة الإنسانية). بل إن عام 2009 شهد فى رياضة السباحة وحدها تحطيم 142 رقما عالميا!! (الناقد الرياضى حسن المستكاوى), وتتواصل ظاهرة استمرار تحطيم الأرقام القياسية فى ألعاب القوى ورفع الأثقال. وهذه الظاهرة الإنسانية (ظاهرة الإرادة والتحدى) فى المجال الرياضى هى نفسها التى تعمل كقانون فى شتى مجالات الحياة، وقيمة البطولات والميداليات والأرقام القياسية أنها تشحذ الهمم وتوجه الأبصار نحو هذه القيمة الأساسية فى حياة خليفة الله على الأرض: قيمة الإرادة والتحدى والتفوق على النفس، وأن التقدم مفتوح - بإرادة الله وإذنه - بدون سقف محدد. وهى نفس القيمة التى دفعت الإنسان لارتياد الفضاء حتى أصبحت جحافل الأقمار الصناعية تحيط بالأرض إحاطة السوار بالمعصم فترصد كل شبر على الأرض على مدار الساعة, وهى نفس القيمة التى دفعت الإنسان للوصول إلى القمر والتخطيط لزيارة المريخ: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ) (الرحمن: 33), والعجيب أن الإنسان لا يزال يكتشف فى قدرات جسده (على تناهى صغره بالنسبة للكون) ونفسه، كما لا يزال - وسيظل - يكتشف فى أعماق الكون: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: 53).