بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدَ الله ورسوله، المبعوث بالرحمة والهدى، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الحديث عن الجهاد حديث مهم، لأنه دخله ما دخله من اللَّبس وسوء الفهم، نتيجة لقلة العلم والبعد عن التحقيق، وللبعد عن التواصل مع أهل العلم الأثبات المحققين، ومن هنا حصل ما حصل من انحراف في فهم المراد من الجهاد، وأعقب هذا الفهم المنحرف سلوكا منحرفًا، لذا سوف يكون الحديث والنظر في كلام أهل العلم، وفي حديثهم عن الجهاد من حيث: تعريفه، وشروطه، وضوابطه، ومواكبة أهل العلم -رحمهم الله- لتاريخ الأمة كلها، ومعرفتهم بأحوالها وظروفها، ومواطن قوتها وضعفها، كل ذلك بَيَّنًهُ ديننا، فديننا أكمله ربنا -عز وجل- وما أكمله فلا ينقص أبدًا. ولهذا سوف يكون الحديث عن تعريف الجهاد، وأقسامه، وأحكامه، ومراتبه، وفضله، والحكمة من مشروعيته، وشروطه، وموانعه، والمخالفات والشُّبَهِ التي وردت، ومراحل التشريع. تعريف الجهاد الجهاد لغة مأخوذ من الْجَهْد أو الْجُهْد ( 1)، وهو بذل الوسع، والعمل ببذل الطاقة. أما تعريفه الاصطلاحي: إذا أطلق في الغالب ينصرف إلى جهاد الكفار وقتالهم، من المعاندين ، والمحاربين، والمرتدين، والبغاة، ونحوهم، ومقصوده إعلاء كلمة الله -عز وجل-، وهذا هو المعنى الخاص للجهاد. أما المعنى العام فكما عرفه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ فِي حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَقِّ”( 2). يقول ابن القيم -رحمه الله-: “وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ جِنْسَ الْجِهَادِ فَرْضُ عَيْنٍ إِمَّا بِالْقَلْبِ، وَإِمَّا بِاللِّسَانِ، وَإِمَّا بِالْمَالِ، وَإِمَّا بِالْيَدِ، فَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ”( 3). فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع، بالقلب، باللسان، بالمال، باليد، ونقول في عصرنا الحاضر: وبالقلم أيضا. المرتبة الأولى: جهاد النفس: إن جهاد النفس له أربعة أنواع: النوع الأول: جهاد في بذل العلم وتعلم أمور الدين والْهَدْى والذي لا فلاح للنفس ولا سعادة لا في المعاش ولا في المعاد إلا بتحصيله، لا نريد أن تكون الأمة كلها عالمة، إنما المفروض على كل مسلم نوع من العلم فرض عين ، فعليه أن يبذل جهده لتحصيل العلم الذي هو فرض عين في حقه، وهو: أصول الدين وقواعده كالصلاة وأحكامها، والوضوء وأحكامه، حقوق الوالدين، يعرف المعاملات التي يمارسها في حياته. النوع الثاني: جهاد العمل، بمعنى بذل الجهد في الأعمال الصالحة، ولهذا سميت أحكام الشرع تكاليف شرعية لأنها لا تكون إلا ببذل جهد وكلفة، والله -سبحانه وتعالى- قال لنا: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [سورة البقرة : الآية 286]، فالله يكلفنا لكنه لم يكلفنا إلا قدر طاقتنا، وقال تعالى :﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [سورة التغابن : الآية 16] ﴿لَا تُكَلَّفُ نُفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [سورة البقرة : الآية 233]، فبذل الجهد للعمل جهاد، ولهذا قال أهل العلم : جهادها -أي النفس- على العمل به بعد العلم. فلا يكون العمل صحيحًا إلا بعلم، لذا بوب البخاري باب “العلم قبل القول والعمل”. النوع الثالث: جهاد الدعوة إلى الله على بصيرة، والدعوة بابها واسع ليست تختص ببعض المؤهلين من طلبة العلم، ولكن أنت عليك دعوة، ولا سيما في عموم قوله -صلى الله عليه وسلم- «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»( 4)، فالمسلم مكلف بدعوة أهل بيته، والقيام على أولاده، والقيام على من تحت يده، ولا سيما إذا كنت مسئولا على من تحت يدك من العمال أو الموظفين، كمدير مدرسة، ومدير عمل، مدير مصنع، فلابد أن تجاهد في دعوتهم وإصلاحهم بقدر ما عندك من علم وصلاحيات، وما عليك من مسئوليات. النوع الرابع: الصبر على مشاق الدعوة، والكلام على الصبر باب واسع جدًا. المرتبة الثانية: جهاد الشيطان: قال العلماء: إن له مرتبتين: جهاده على دفع ما يلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، فالمسلم إذا كان في ديار الإسلام وعند أهل العلم يكون سليم القلب بإذن الله، إلا إذا أقحم نفسه في أمور علمية لم يبلغها فإنه قد يقع في شُبَهٍ، لكن عامة المسلمين والذين هم قريبون من العلم إن شاء الله يسلمون من مداخل الشيطان. وجهاد الشيطان على دفع ما يلقي من الشبهات والشكوك تكون للذين يقتحمون أنواع بعض العلوم والمعارف وهم لم يحصلوا الآلة الكافية. المرتبة الثانية: جهاد الشهوات، والشهوات مدخل للشيطان عريض، ولهذا قال سبحانه: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير﴾ [سورة فاطر : الآية 6]، ولا شك أن الشهوات كثيرة وجاذبة، قال تعالى : ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآب﴾ [سورة آل عمران : الآية 14]، فالشهوات سواء في المأكولات، في المشروبات، في النساء، زينة الأموال، زينة المراكب، متاع الدنيا بكل أنواعه، لا شك أن للشيطان فيه على النفس مدخلا عظيما، ومن أعظم ما يجاهد به الإنسان نفسه هو جهاد الشهوات. المرتبة الثالثة: جهاد الكفار والمنافقين: قال الله تعالى:﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم﴾ [سورة التوبة : الآية 73] وقد لا يكون جهاد المنافقين بالقتال بقدر ما يكون باللسان، والقلب، والمال، واليد. هذا في الجملة فيما يتعلق بمراتب الجهاد وأقسامه. جهاد الطلب: جهاد الطلب هو: تطلب الكفار في عقر دارهم، بمعنى أن المسلمين يقاتلون الكفار ليس لإجبارهم على الدخول في الدين فالله - عز وجل- يقول: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين﴾ [سورة البقرة : الآية 256]، وإنما من أجل أن تفتح الأبواب أمام الدعوة، وليسمع الناس دين الله -عز وجل-، ولهذا قال سبحانه في جهاد الطلب كما يسميه العلماء: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ وَخُذُوَهُمْ وَاحْصُرُوَهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم﴾ [سورة التوبة : الآية 5]، وقال: ﴿وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّة﴾ [سورة التوبة : الآية 36]، وقال: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه﴾ [سورة التوبة : الآية 41 ]، وقال: ﴿إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُم﴾ [سورة التوبة : الآية 39] وقال: ﴿وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه ﴾ [سورة الأنفال : الآية 39] ومرة قال: ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ [سورة البقرة : الآية 193] وقال سبحانه: ﴿لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى﴾ [سورة النساء : الآية 95]. جهاد الدفع: جهاد الدفع يكون فرض عين، بينما جهاد الطلب فرض كفاية، على ما سوف يأتي إن شاء الله من تفصيل بما يتعلق بالإمام ومسئوليته في ذلك، فجهاد الدفع هو حين يقتحم الكفار ديار المسلمين، أو شيء من ديار المسلمين، فيكون حينئذ المدافعة والمقاومة، وتكون فرض عين متدرجة على من كانوا متلصقين بالكفار، ثم من يليهم، وهكذا ، ومن ذلك قول الله -عز وجل-: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [سورة البقرة : الآية 190] وقال: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا﴾ [سورة النساء : الآية 75]. الجهاد يكون فرض عين إذا حضر المسلم المكلف القتال، والتقى الزحفان، وتقابل الصفان، وإذا حضر العدو بلدًا من بلدان المسلمين تَعَيَّنَ على أهل البلد قتاله وطرده، وهو جهاد الدفع ، واستَنْفَرَ إمام المسلمين الناس وطلب منهم ذلك، لأنه سبحانه قال: ﴿انفِرُوا خِفَافًا﴾ [سورة التوبة : الآية 41 ]، يعني إذا استنفركم الإمام، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:«وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ، فَانْفِرُوا»( 5) ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [سورة التوبة : الآية 41 ] وقال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُم﴾ [سورة التوبة : الآية 38] ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْض﴾ [سورة التوبة : الآية 38]. هذان هما نوعا جهاد الكفار: جهاد الدفع، وجهاد الطلب . المرتبة الرابعة: جهاد البدع والمنكرات: هذا النوع من الجهاد يكون باليد، واللسان، والقلب، حسب المراتب التي بينها النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»( 6) ، وحديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عند مسلم «مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ»( 7) هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمراتبه. مسئولية المسلم في هذا متدرجة ، فأهل الحسبة لهم دورهم في منكرات الأسواق، والمنكرات العامة، والمنكرات الظاهرة، والمسلم له مسئوليته في المنكرات في بيته ومع أهل بيته، وكذلك المسئول في دائرته، قد يزيل المنكر بيده في بيته، أو كان من أهل الحسبة، أو يزيل بلسانه إذا كان يستطيع، وإذا خاف على نفسه فينكر بقلبه، وإنكار القلب لا يُعذر فيه مسلم، بمعنى: بغض المنكرات وكره وقوعها من المسلم، فلابد للمسلم أن يتمعر وجهه حينما يرى حرمات الله تُنْتَهك، ولهذا قال -النبي صلى الله عليه وسلم- في الإنكار بالقلب: «وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ». وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه، نبينا محمد، وآله، وصحبه أجمعين. ---------------------- ( 1) اللسان : جهد. ( 2) مجموع الفتاوى (10/192). ( 3) زاد المعاد (3/64). ( 4) أخرجه البخاري (3/1275، رقم 3274). ( 5) أخرجه البخاري (2/651، رقم 1737)، ومسلم (2/986، رقم 1353). ( 6) أخرجه مسلم (1/69، رقم 49). ( 7) أخرجه مسلم (1/69، رقم 50).