الحقائق على الأرض تؤكد فشل الإدارة الأمريكية في تحقيق الأهداف التي رسمتها في منطقة الشرق الأوسط، والعالم الإسلامي؛ فهناك فشل استراتيجي في العراق باعتراف تقرير "لجنة بيكر هاميلتون" ومطالبته بإجراء تغيير في الاستراتيجية الدبلوماسية والعسكرية لمنع تدهور الأوضاع والانزلاق نحو الفوضى وانهيار حكومة العراق الموالية للاحتلال، بل إن التقرير تخوف من إمكانية تحقيق انتصار لتنظيم القاعدة وطالب ببدء سحب القوات الأمريكية.
وكذلك الوضع في أفغانستان حيث التراجع والفشل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وحلف الأطلسي فقد فشلوا جميعا في أفغانستان، وعليهم التحلي بالشجاعة الكافية للاعتراف بهزيمتهم؛ لأن حركة طالبات أصبحت تسيطر على معظم الجنوب الأفغاني ولم تعد حركة طالبان تقاتل وحدها بل أصبح معظم أطياف الشعب الأفغاني وكذلك الأغلبية العرقية من البشتون يقاتلون الاحتلال الغربي، هذا بالإضافة لإعلان كل من أسبانيا و إيطاليا أنهما لا تنويان أبدا زيادة عدد قواتهما في أفغانستان.. وكذلك فرنسا وألمانيا اللتان تحاولان الفكاك من المستنقع ليتركوا أمريكا وحدها في المستقع الأفغاني.
وكانت هزيمة الحلف الصهيوني الأمريكي في لبنان على يد المقاومة الإسلامية "حزب الله" في الحرب الأخيرة وفشل الصهاينة في تحقيق القليل من أهدافهم من الحرب ضمن سلسلة الخسائر المتوالية، وهذا ما دفع المسئولون الصهاينة إلى التأكيد مع مطلع كل صباح بأنهم يستعدّون لحرب جديدة ضد "حزب الله" وسوريا وإيران في جنوب لبنان.
وليس أمام الإدارة الأمريكية بعد هذا الفشل الذريع في كل مكان من العالم العربي والإسلامي إلا أن تضع استراتيجية جديدة تقوم على نشر الفوضى والتخريب والاقتتال في عدة ساحات عن طريق الطابور الخامس في البلاد العربية والإسلامية بمدهم بالأموال والأدوات وأقنعة وتبريرات للتغطية.. ويحاولون البدء بلبنان حيث التباين المذهبي والديني، وبالفعل قاموا عن طريق عملائهم خاصة مجموعة "14 آذار" بعدة عمليات لإغتيال رموز وطنية وحاولوا إلصاق التهمة بسوريا.
الآن يقوم الحلف الصهيوني الأمريكي بمحاولة الفتنة الداخلية حتى يصل إلى الحرب بين الطوائف اللبنانية لتحقيق ما فشل في انجازه بالحروب والاحتلالات عن طريق القى التي تحركها إسرائيل وأمريكا للتقليل من تأثيرات الانتصار العظيم في لبنان.
ولكن الموقف العظيم للمعارضة اللبنانية التي ترفض أن يرأس بلادها من يقومون بتنفيذ المصالح الأمريكية الصهيونية على حساب مصلحة الوطن يجب أن يستمر حتى يكون نموذجا يُحتذى.. إن اعتصام المعارضة لليوم التاسع على التوالي وإصرارها على إسقاط هذه الحكومة خطوة فريدة لم تحدث من قبل ونتمنى أن تتعلم منها الشعوب العربية لتنجح في الانتصار على الحلف الصهيوني الأمريكي.
والمعارضة لها هدف رئيسي لن تتنازل عنه ويتمثل في استقالة الحكومة وتشكيل حكومة يكون لها فيها ثلث الوزراء زائد واحد ما يخولها عدم تمرير القرارات التي تحتاج إلى موافقة ثلثي الوزراء؛ وذلك للوقوف أمام الحكومة الموالية للحلف الصهيوني الأمريكي، بعدما انسحب ستة وزراء للمعارضة من الحكومة الشهر الماضي بعد رفضها لمطلب المعارضة وانهيار المحادثات بين الفريقين إثر انفراد الحكومة بالحكم وتصويتها على معاهدة إنشاء المحكمة ذات الطابع الدولي التي ستحاكم المتهمين باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري طبقا للرغبة الأمريكية.
وحاول البعض أن يجهض هذه المعارضة بزعم الخوف على لبنان ومستقبله والدخول في حرب طائفية مثل تلك التي وقعت في الفترة من 1975 إلى 1989.. وكذب هؤلاء لأن المعارضة تشمل تشكيلة كبيرة من الطوائف والمذاهب اللبنانية تبدأ من "حزب الله" المسلم الشيعي، وحركة أمل، والتيار الوطني الحر المسيحي، والسنة.. ويرفض أقطاب المعارضة هذه النعرات ويعتبرون أصحابها أبواق للأمريكان لأن مشكلتهم سياسية ويرغبون فقط في حكومة نظيفة تعمل لصالح الشعب اللبناني.
للأسف فقد خرجت علينا بعض الأنظمة العربية التي تدعم الحكومة الموالية لأمريكا خشية أن تنتقل حمى الاعتصامات إلى بلادهم.. إنهم يتكلمون ويعملون خوفا على كراسي حكمهم ودعما لمن يعتبرون العلاقة معه -الحلف الصهيوني الأمريكي- علاقة استراتيجية بينما هذا الحلف يمثل العدو الرئيسي لأمتنا، وتقوم عدة عواصم عربية في الأيام الأخيرة باتصالات ومشاورات واسعة لإفشال الاعتصام الجماهيري الواسع خشية سقوط حكومة السنيورة والفريق الحاكم الذي يضم جعجع وجنبلاط وسعد الحريري، وفي هذه الحالة ستشكل هذه الطريقة سابقة قد تنتقل إلى ساحات أخرى في المنطقة، وتقدم هذه الدول الدعم الرسمي لحكومة السنيورة سواء كان ماليا وسياسيا وحتى تعزيزا أمنيا؛ للوقوف في وجه الاعتصام وعدم الخضوع لمطالب الشارع اللبناني ورفض الاستقالة.
يجب على حكومة السنيورة عدم المراهنة على الدعم الأمريكي لأنها "أحوج ما يكون إلى المساعدة والإنقاذ في هذا الوقت".. وكذلك المراهنة على تعب المتظاهرين المؤيدين للمعارضة لأن المعارضة لديها من العزيمة والصبر والتخطيط لمواصلة تحركها واعتصامها بنجاح حتى تحقيق أهدافها.. وسيكون يوم الأحد خطوة جديدة في طريق التصعيد وتعطيل المرافق العامة وقطع الطرق الرئيسية وبداية مرحلة العصيان المدني.
وكان المنطقي من الأنظمة العربية ألا تتصرف كطرف يساند فريقا لبنانيا على حساب فريق آخر وكان يجب أن تمد أيديها إلى كل اللبنانيين.. والأجدر بها ألا تتدخل في الشئون الداخلية إن كانت فعلا تعمل على استقرار لبنان.. كنا ننتظر مبادرة لحل الخلاف والصلح بين الطرفين، ولكن في الحقيقة فإن تدخل هذه الدول بإيعاز أمريكي قد يقوي الحكومة ويدعمها ويدفعها للإصرار على موقفها غير الوطني وفي هذه الحالة قد تتطور القضية وينجح الأمريكان في إشعال فتنة تصل لحد الحرب بالرغم من حرص المعارضة على ألا تصل الأمور إلى هذا الحد بعد تأكيدها رفض الحرب الأهلية والفتنة بين الطوائف والمذاهب والقوى السياسية وكان تحركها سلميا حضاريا بالرغم من استشهاد أحد أفرادها.
يدعم هذا التوجه قيام الدولة الصهيونية منذ أيام بالانسحاب المفاجئ من قرية الغجر في الجنوب اللبناني وبالطبع لم تكن هذه الخطوة بادرة "حسن نية" تجاه لبنان، إذ أن مثل هذا التوجّه لا وجود له في الإستراتيجية الصهيونية التي تستند أساساً إلى مفهوم القوة.. فالأرجح أن يكون هذا الانسحاب لإشعال الفتنة، ولا يستعبد أن تقوم الدولة الصهيونية بعد حين بتسليم مزارع شبعا إلى "اليونيفيل"، كما ستسلمها "عن طيبة خاطر" الغجر، وهذه ستكون أكبر مساهمة منها في صبّ المزيد من الوقود على النار اللبنانية المشتعلة لأنها ستفقد حزب الله أحد أهم مبرراته للتمسك بالسلاح والمقاومة.
كما أن موقف أمريكا وخادمتها بريطانيا، وفرنسا وألمانيا ودعمهم للحكومة بزعم مساندة "الشرعية" يأجج الموقف يؤكد طرح تخطيط الولاياتالمتحدة للوصول لحرب أهلية.. فأين أمريكا من شرعية حماس التي جاءت بانتخابات حرة نزيهة شهد بها العالم أجمع.. أين أمريكا من شرعية الحكومة الفلسطينية التي تحاصر شعبها وحكومتها وتصادر أموالها.. أين أمريكا من حماية الكيان الصهيوني واستخدام حق "الفيتو" 81 مرة منهم 41 لصالح الكيان!!
إن الشعوب تعرف أن حكوماتها لا تعبر عن طموحاتها وسيأتي اليوم الذي نتذكر فيه صمود المعارضة اللبنانية ونجاحها في انتزاع حقها من الموالين لأعدائنا.. لبنان هذا البلد الجميل الصغير سيُعلم العرب الإرادة والانتصار على الأعداء.. إن قلوبنا مع لبنان وشعبه ولكن حكامنا مع أعدائه وأعدائنا.. إن المعارضة يكفيها فخرا أن تتجمع على هدف واحد وتعمل من أجله وتصمد في وجه هذه المخططات الداخلية والخارجية طوال الفترة الماضية؛ فهذا نجاح في حد ذاته ولكن النجاح الأكبر أن يتعلم العالم العربي كله من لبنان ويكون نموذجا يُحتذى.