لا تزال قضية مكافحة الإرهاب تحتل مركزاً متميزاً في سلم اهتمامات الإدارة الأمريكية الحالية، وتسعي المؤسسات الأمريكية المختلفة جاهدة للبحث عن أساليب واستراتيجيات جديدة لمكافحة الإرهاب. وفي هذا الصدد تأتي الدراسة المتميزة التي صدرت عن "خدمة أبحاث الكونجرس" Congressio nal Research Service أو "CRS" حول الاستراتيجية الوطنية الأمريكية لمكافحة الإرهاب National Strategy for Combating; Backgroun d and Issues for Congress Terrorism التي أعدها رافائيل بيرل Raphael F. Perl المتخصص في قضايا الإرهاب ومكافحة الجريمة. وتسعي الدراسة لوضع تقييم شامل للاستراتيجيات الأمريكية المتعلقة بحماية الأمن القومي، وكيفية تفعيلها وزيادة كفاءتها في مواجهة التهديدات المتزايدة التي قد تتعرض لها الولاياتالمتحدة. وقد تم التركيز في الدراسة علي تناول "الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الإرهاب" التي صدرت في سبتمبر 2006. ملامح "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب" تشير الدراسة إلي أن الاستراتيجية الوطنية الجديدة لمكافحة الإرهاب التي صدرت في سبتمبر 2006 تختلف عن "استراتيجية مكافحة الإرهارب" التي أعلنتها إدارة الرئيس "جورج بوش" في 2003، في عدة جوانب منها أن الاستراتيجية القومية الجديدة تسعي إلي تحقيق ما يلي: حماية الولاياتالمتحدة وحلفائها من الهجمات الإرهابيه، وذلك من خلال تفتيت وإضعاف الشبكات الارهابية المنتشرة في أنحاء العالم، مع تعزيز التعاون الدولي في هذا الشأن عبر خلق بيئه عالميه مناهضه للإرهاب. التأكيد علي ضرورة شن ما يسمي ب"حرب الأفكار"، للحد من انتشار أيديولوجية الإرهاب. التشديد علي أهمية اتخاذ مواقف صارمة من الجماعات الإرهابية والدول التي ترعاها، ويكون ذلك بحرمان تلك الجماعات من مواردها الماليه والعسكرية.. وغيرها. تكريس كافة عناصر الدولة (الولاياتالمتحدة) ومواردها الاقتصادية والعسكرية والماليه والدبلوماسية.. وغيرها في سبيل محاربة الإرهاب. ورغم التقارب بين استراتيجيتي 2006 و2003، إلا أن ثمة اختلافا بينهما، فمن جهة فإن وثيقة 2006 تركز بشكل كبير علي التحول الديمقراطي كوسيله لمناهضه الإرهاب. ومن جهة أخري فإن الوثيقة الحالية أيضًا تؤكد علي ضرورة حرمان الإرهابين من ملاذتهم الآمنة في الدول المارقة. استراتيجية مكافحة الإرهاب .. محاولة للتقييم تشير الدراسة إلي أن ثمة قضايا مهمة تثيرها "الاستراتيجية الوطنية لمحاربة الإرهاب" لعل أهمها ما يلي: 1 التحول الديمقراطي كوسيلة لمكافحة الإرهاب تعتمد الاستراتيجية، علي الحلول طويلة المدي في تحقيق النصر علي الإرهاب، وذلك بتأسيس نظم ديمقراطيه تتصدي لمواجهة الظروف والعوامل التي يسعي الإرهابيون إلي استغلالها في مجتمعاتها. غير أن ثمة اختلافا حول مدي جدوي وصحة هذا الافتراض، حيث يمكن التمييز بين فريقين: الأول مؤيد للاستراتيجية، حيث يري هذا الفريق أن التحول الديمقراطي يعد ركيزة أساسية لمكافحة الاهارب، ويري أن وجود نظم ديمقراطيه فعالة تحترم حقوق الانسان سيدعم شرعية الحكومات والاستقرار السياسي فضلاً عن تحقيق التمنية الاقتصاديه داخل هذه النظم، وهو ما سيؤدي بالتبعية إلي الحد من ظاهرة الإرهاب. ويؤكد أنصار هذا الفريق أيضًا علي أهميه نشر الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط وجنوب أسيا لأن ذلك من شأنه تحقيق الاستقرار في دول هذه المنطقة علي المدي الطويل. وبنفس المنطق فإن النجاح في تأسيس نظم ديمقراطيه بالعراق وأفعانستان يعد خطوة هامه في سبيل خلق بيئه ديمقراطيه بالمنطقه، مما يقلص من خطر الإرهاب مستقبلاً. أما الفريق الثاني فهو رافض لهذه الاستراتيجية، حيث يحذر من أن التحول الديمقراطي تحت ظروف معينة قد يهدد المصالح الأمريكيه، مدعمًا رأيه بالعديد من التجارب الانتخابية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة، والتي أفرزت قوي أقل اهتمامًا بالمبادئ والممارسات الديمقراطية، ولا تبذل جهودًا كافيه لمنع الانشطة الإرهابيه داخل حدودها أو الأقاليم المجاورة إليها، بل انها قد تكون داعمة ومؤيدة لتلك الأنشطة. وحسب الدراسة فإن من أبرز الأمثلة في هذا الشأن، (حركة حماس في قطاع غزة، حزب الله في لبنان، الحزب الإسلامي في ماليزيا، والمحاكم الإسلاميه في الصومال). وينتقد هذا الفريق عملية التحول الديمقراطي التي قادتها الولاياتالمتحدة في العراق وأفغانستان، مؤكدًا أنها أدت إلي تأسيس حكومات محدودة التأثير والفعالية. وهو ما نجم عنه استمرار العنف الطائفي بالعراق، أما في أفغانستان فإن سلطة الحكومة لا تتعدي العاصمه. ومن ثم فإنه في كلا الدولتين مازال تأثير الحكومات يقتصر علي جزء من البلاد بينما يخضع الباقي إلي سيطرة المتمردين والجماعات المتطرفة. 2 مدي صحة الافتراضات التي صاغتها الاستراتيجيه عن الإرهاب تقوم استراتيجية عام 2006 علي العديد من الافتراضات فيما يتعلق بالعوامل المؤثرة في ظاهرة الإرهاب، وهي الافتراضات التي تعرضت لانتقادات حادة، منها علي سيبل المثال وفقًا لما ذكرته الدراسة السياسة الأمريكية في العراق حيث تري الإستراتيجية أن الإرهاب ليس مجرد نتيجة لسياسة الولاياتالمتحدة في العراق، علي اعتبار أن أمريكا تعرضت لهجمات 11 سبتمبر منذ سنوات عديدة، أي قبل فترة طويلة من اسقاط نظام "صدام حسين". بيد أن الكثير من المراقبين ينظرون إلي السياسة الأمريكية بالعراق بإعتبارها سببًا رئيسيا لانتشار الإرهاب ويدعمون رأيهم بتقرير "لجنة دراسة العراق" التي أصدرت تقرير (بيكر _ هاميلتون) وذلك لتقييم الوضع في بلاد الرافدين، والذي أشار إلي صعوبة التحديات التي تواجة القوات الأمربكية في العراق في ضوء تصاعد مستوي العنف الطائفي بين المتمردين السنه والمليشيات الشيعيه، كما انتقد التقرير الحكومة العراقيه لفشلها في إنجاز المصالحة الوطنية وتوفير الخدمات الأساسيه لمواطنيها، وحذر التقرير كذلك من أن استمرار الموقف المتأزم كما هو عليه الآن سوف ينذر بتداعيات سيئة، بدءًا من انهيار حكومة "المالكي" ومرورًا بتدهور الوضع الإنساني، وانتشار الصراع السني الشيعي وزيادة نفوذ "القاعدة"، ووصولاً إلي تضاؤل هيبة الولاياتالمتحدة والمنزلة التي تتمتع بها عالميا. ولعل من أبرز الانتقادات التي توجهها الدراسة لاستراتيجية محاربة الإرهاب، أنها لم تعط الأهمية الكافية للصراع القائم في العراق، والذي أشارت إليه العديد من التقارير الأمريكية، لعل أبرزها ما كشفت عن إحصائية أعدها "المركز القومي لمكافحة الإرهاب" (NCTC) بأن 45% من الهجمات الإرهابية في العالم تحدث في العراق، وأن 65% من ضحايا تلك الهجمات هم من العراقيين. كما حذر تقرير صادر عن "هيئة الاستخبارات الوطنية" (NIE) في أبريل 2006 تحت عنوان: "اتجاهات في الإرهاب العالمي: انعكاسات علي الولاياتالمتحدة" من أن حرب العراق أنتجت جيلاً جديدًا من الراديكاليين في مختلف أنحاء العالم وساعدت علي انتشار أيديولوجية الجهاد. ورغم أن ما سبق يؤكد أن العراق أصبح مصدرا رئيسيا للإرهاب وعقبة في طريق كسب معركة "العقول والقلوب"، فإن الإستراتيجية تغاضت عن إبداء أي توصيات بخصوص السياسة الأمريكية في هذا البلد سواء ما يتعلق بإنتشار القوات هناك أو حتي سبل دعم الديمقراطية العراقية. الاستراتيجية ومكافحة الدول والجماعات المارقة تؤكد الدراسة أنه من الصعب تحديد ما إذا كانت الاستراتيجية قد تناولت بشكل مناسب إشكالية التعامل مع الدول المارقة أم لا. فقد شددت الاستراتيجية علي أنها لن تميز بين هؤلاء الذين يرتكبون الأعمال الإرهابية وأولئك الذين يدعمون ويأوون الإرهابيين، داعية إلي عزل ومعاقبة الدول المارقة حتي تتوقف عن دعمها للجماعات الإرهابية. وبالتعارض مع هذه التوصيات فقد شهد العام الحالي فتح الولاياتالمتحده قنوات دبلوماسية مع كل من سوريا وإيران (اللتين تأتيان علي رأس الدول المارقة وفقًا للتصنيف الأمريكي) بهدف الاستفادة من نفوذهما في دعم الاستقرار بالعراق. وقد أيد البعض هذا التوجه علي اعتبار أن سياسة "العزلة والعقوبات" لم تؤثر بشكل فعال علي الحكومات الراعية للإرهاب، بيد أن البعض الأخر من معارضي التحاور مع الدول المارقة حذر من أن هذه السياسة ستكون بمثابة إشارة علي ضعف الولاياتالمتحدة وتقنينها للإرهاب والأطراف الداعمة له. "الاحتواء الإنتقائي" للجماعات الإرهابية تشير الدراسة إلي أنه إذا كانت سياسة التفاوض مع الدول المارقة في بعض الحالات وتحت ظروف معينة، تحقق مزايا للولايات المتحدة، فإن ثمة تساؤلا مهما هو: إذا كان من الممكن أيضًا الحصول علي فوائد بالتحاور مع الجماعات الإرهابية، فلماذا ترفض واشنطن الحديث مع كل من حركة "حماس" أو "حزب الله" باعتبارهما كيانات ذات نفوذ سياسي كبير في المنطقة، وهو ما دفع البعض للمطالبة بإعادة مراجعة لهذه السياسة. ومثلما كان الحال عند الحديث عن الدول المارقة، لا يوجد اتفاق حول الاستراتيجية المثلي للتعامل مع الجماعات والمنظمات الارهابية، فمن ناحية فإن رافضي سياسة التحاور مع هذه المنظمات يحذرون من أن أي تهاون أو تراخي مع الإرهابيين سيضفي صفة الشرعية علي الإرهاب. وعلي الجانب الأخر فإن مؤيدي سياسة "الاحتواء الإنتقائي" للجماعات الارهابية يرون أن هذه السياسة التي تعتمد علي التحاور مع منظمات إرهابية بعينها، يتيح الفرصة لإعادة توجيه الأجندات السياسة لهذه المنظمات نحو الأهداف السلمية بعيدًا عن العنف، وذلك علي عكس سياسة "العزلة" التي، علي حد ذكرهم، تحصر الولاياتالمتحدة في آليتين فقط لمحاربة الارهاب هما العقوبات والخيار العسكري. وفي إطار تأكيدها علي أهمية التنسيق الدولي في محاربة الارهاب، تشير الدراسة إلي أن اتباع استراتيجية الحوار مع الجماعات الارهابية يتوقف علي عامل رئيسي وهو ما إذا كانت القوي الرئيسية الأخري تتجه نحو التفاوض مع تلك الجماعات. مدي فعالية الدبلوماسية العامة تشير الدراسة إلي أنه علي الرغم من سعي "الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب" لكسب "معركة الأفكار" عن طريق الترويج للديموقراطية، إلا أن عناصر الدبلوماسية العامة الأخري لم تستحوذ علي أولوية كبيرة في الاستراتيجية. وتجدر الإشارة إلي أنه منذ دمج "وكالة معلومات الولاياتالمتحدة"، التي تعد الركيزة الأساسية في الدبلوماسية العامة، في وزارة الخارجية مع مطلع أكتوبر 1999، كان علي الدبلوماسية أن تخوض تنافسا شديدا مع البرامج الأخري داخل الوزارة من أجل الحصول علي الدعم والتمويل. وقد نظر البعض إلي هذه الخطوة (الاندماج) علي أنها قللت من فعالية الدبلوماسية، بينما امتدح البعض الأخر النتائج المترتبه علي تلك الخطوة، وأبرزها التوفير في النفقات فضلاً عن زيادة درجة التنسيق في السياسات المعلنة.