القضية باختصار: طرد الصحفي الإسرائيلي الشهير دان مارغليت من برنامجه "مساء جديد" الذي يبثه التلفزيون الإسرائيلي لعضو الكنيست العربي جمال زحالقة، لمجرد قوله: إن باراك يسمع موسيقى كلاسيكية ويقتل أطفال غزة، وذلك أثناء استضافة الأخير في البرنامج. لم يكتف الصحفي الصهيوني بطرد زحالقة فقط، بل قام بشتمه واتهامه ب(الوقاحة وقلة الأدب). بالطبع لم يُقصّر زحالقة في الرد على الصحفي العنصري. هذه الحادثة لها دلالاتها الكثيرة. وأولى دلالاتها: إن الديمقراطية التي تتشدق بها إسرائيل هي نوع من التطبيق الديمقراطي لليهود، أما في التعامل مع المواطنين العرب في منطقة 48 فإنها تتعامل معهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة العاشرة. وبالفعل لو أن المستضاف كان عضو كنيست من اليهود, لما تجرأ مقدم البرنامج على طرده والتهجم عليه. من جانب آخر، تعد اللجنة القانونية في الكنيست الاسرائيلي مشاريع قوانين تمنع العربي من القيام بنشاطات في ذكرى النكبة، ويعاقب المخالف لذلك, بالسجن مدة ثلاث سنوات، وتجيز لوزير الداخلية الإسرائيلي إسقاط الجنسية عن مواطني منطقة 48 بكل ما يعنيه ذلك من حرمان لجوانب قانونية أخرى للفلسطينيين. والغريب أن إسرائيل تعتبر كيانها، التطبيق الأمثل للديمقراطية على الصعيد الدولي، ومن الأغرب, أن الولاياتالمتحدة وحلفاءها والدول الأوروبية ودولا كثيرة أخرى على الصعيد الدولي، تعتبر إسرائيل الدولة الديمقراطية في المنطقة، وتباهي بديمقراطيتها. هذا عدا عن قسم الولاء لإسرائيل الذي تفرضه على العضو العربي الناجح في الانتخابات، وعدا عن القوانين العنصرية الأخرى ضد العرب، وعدا عن المجازر والجرائم التي تقترفها بحق الفلسطينيين في كل يوم. ثانيًا: تحديد سقف الحريات الإعلامية، فكثير من القضايا يمنع التطرق إليها بحجة الأمن الإسرائيلي وانعكاساتها السلبية على هذا الأمن، ولذلك فإن للرقابة العسكرية اليد الطولى في تناول قضايا سياسية (وليست أمنية أو عسكرية) في الإعلام بمختلف مجالاته في الصحافة والتلفزيون، لا يقتصر الأمر على الداخل الإسرائيلي في هذا المجال، بل يتعدى ذلك إلى المراسلين الإعلاميين لكل الصحف ووكالات الأنباء والفضائيات التابعة للدول الأخرى، المتواجدين في إسرائيل، فكم من مرّة منعت السلطات الإسرائيلية المراسلين الأجانب من بث تقارير لهم تعتبرها ماسةً بأمنها. ثالثًا: المدى الكبير الذي تفتحه إسرائيل أمام اليهود للتحريض العنصري على الفلسطينيين والعرب، الذين يعتبرهم حاخامات إسرائيل أغيارًا (غير يهود)، وذلك وفقًا للفتاوى التي يصدرونها في كل يوم، وآخرها: الفتاوى التي صدرت في الشهر الماضي/ديسمبر، والتي تجيز لليهود (قتل العرب, شيوخهم، ونسائهم، وأطفالهم، لأن الأخيرين عندما يكبرون سيكونون من المجرمين). وقد تطرقنا إلى عنصرية هذه الفتاوى في مقالات سابقة. اللافت للانتباه أن إسرائيل لا تقوم بمحاكمة هؤلاء وأمثالهم بتهمة التحريض العنصري على الآخرين، وبدلًا من ذلك تقوم بإدراج هذه الفتاوى في مناهجها الدراسية بدءًا من رياض الأطفال ووصولًا إلى الجامعة. في الوقت الذي إذا تناول فيه صحفي أو كاتب, الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في أي دولةٍ كان على الصعيد العالمي، فسيجري اتهامه بالعداء للسامية واليهود، وبالتطاول على إسرائيل. رابعًا: هذه الحادثة تُلقي بالضوء على الفائدة التي يجنيها عرب منطقة 48 في الترشيح لعضوية الكنيست، فالثمن الذي تقبضه إسرائيل من وراء ذلك هو أضعاف (مكررة عشرات المرات) مما يجنيه هؤلاء من بعض المزايا، بل العكس من ذلك يعود بالضرر عليهم، فلا حصانة لهم، ولا يستجاب لطلباتهم في كل ما يتعلق بما يقدمون منها لتحسين ظروف المدن والبلدات والقرى العربية، فالدكتاتورية والتمييز العنصري يتزايدان بوتائر عالية ضد العرب في إسرائيل، وسنة بعد أخرى، بدليل النجاحات المتزايدة لليمين الفاشي الصهيوني، في كل انتخابات تشريعية مقارنة مع ما سبقها من انتخابات. هذا الموضوع مطروح للنقاش. خامسًا: ما حصل مع عضو الكنيست زحالقة هو درس للفضائيات العربية التي تستضيف إسرائيليين في برامجها بدعوى: سماع الرأي والرأي الآخر، أو تناول القضية من مختلف جوانبها، وحرص مقدمي ومقدمات هذه البرامج على شكر الضيوف الإسرائيليين في نهاية هذه البرامج. وحتى لا يجري تفسير مختلف, سطحي لما قلناه نود التوضيح بأن القضية لا تكمن في التصرف الإنساني الأخلاقي بتوجيه الشكر لأي مشارك كان، وإنما في السؤال الأبرز: لماذا يتم دعوة هؤلاء الحاقدين من الأساس، الذين يرددون الكلام مغموسًا بالدم، والذين توحي تعابير وجوههم بالكره والعنصرية والصلافة والاستعلاء والاحتقار لكل المستمعين إليهم من فلسطينيين وعرب؟ السؤال يقود إلى تساؤلات أخرى: هل هذا بدواعي الحرص على سماع الرأي الآخر الإسرائيلي؟ أم أنه الثمن لتواجد مراسلين لهذه الفضائيات في إسرائيل؟ وفي هذا المجال فإن شيئًا من التوضيح لن يضر. سادسًا وأخيرًا: هذه الحادثة تثبت بما لا يقبل مجالًا للشك استحالة وجود الإعلام المحايد، مهما ادَّعى القائمون عليه بغير ذلك، فالإعلام شئنا أم أبينا هو أولًا وأخيرًا إعلام موجَّه في مضامينه. هناك فارق كبير بين السياسة الإعلامية الممارسة والتي تحرص على توضيح الرأي والرأي الآخر، وهذا ما تمارسه الفضائيات غير الرسمية، المؤمنة بالديمقراطية وحرية التعبير، وبين مضمون الإعلام, الذي يتوجب عليه في منطقتنا العربية, أن يخدم في النهاية قضايا إنسانية عادلة، وأن يقف مع الحق, ضد الظلم والطغيان وجبروت الآخر، ويحيي الذاكرة الشعبية باستعراض وقائع التاريخ في محاولة استنهاض عامة في الواقع المحيط بهذا الإعلام. الإعلام في النهاية يتوجب أن يقوم بخدمة القضايا الوطنية للأمة، وهذه هي رسالة الإعلام. لعل واقعة جمال زحالقة تدعونا للتفكير في اتجاهين: الأول معرفة حقيقة العدو الذي نواجهه والسقف الذي لا يستطيع تجاوزه في مختلف المجالات. والثاني انتهاج السياسات وردود الفعل الموائمة للرد على مختلف توجههات هذه العدو. * كاتب فلسطيني