إن جذور الإرث التاريخي الأندلسي عميق في المغرب ومازال ينعكس في سلوك المغاربة وأفكارهم، إلى درجة أنه لا يمكن فهم الهوية المغربية دون الرجوع إلى العنصر الأندلسي، فقد اختلط ما هو مغربي بما هو أندلسي، وشكل مزيجًا حضاريًا فريدًا من نوعه، في فنّ العمارة والفلاحة والصناعة، وفي الملبس والطعام والموسيقى والحدائق وغيرها، بمدن مغربية مختلفة كالرباط وسلا ومكناس وفاسوشفشاون والعرائش والقصر الكبير وخاصة مدينة تطوان”. محمد الشريف، كتاب “تطوان حاضنة الحضارة المغربية الأندلسية. كنا قد تحدثنا في الجزء الأول، عن سياق طرد المورسكيين من شبه الجزيرة الإيبيرية وعرضنا قصة التنكيل الذي لحق بهم من قبل محاكم التفتيش عقب سقوط الأندلس، حيث كان المغرب بحكم القرب الجغرافي، البلد الذي استقبل أكبر عدد من الأندلسيين المهجرين بعد قرار الطرد سنة 1609م، فاستقر غالبيتهم في المدن الشمالية للبلاد. لقد كان المورسكيون الذين هاجروا قسرًا إلى المغرب يحملون معهم حضارة الأندلس المزهرة بالعلوم والفنون والازدهار، فانتقل شيء من ذلك إلى المناطق المغربية التي عمروها، وبقي البعض من تراثهم الحضاري ذاك يقاوم الزمن حتى الآن. 1- المعمار لعل أبرز ما بقي من التراث الأندلسي في المغرب هو المعمار الأندلسي الذي يطبع بناء بعض المناطق المغربية التي عمروها، مثل مدينة شفشاونوتطوان والأحياء القديمة بالرباط. واجهة أحد منازل مدينة شفشاون التي بناها المورسكيون تتميز معمارية العمران الأندلسي بالذوق الرفيع، والفن في التشكيل، مع الترف في المواد المستعملة في البناء، ما جعل البنيان الأندلسي ذا صبغة خاصة يمكن تمييزها بسهولة وسط العمران. كانت مساهمة الأندلسيين في ميدان العمارة فعالة وعميقة، تجسدت في التنظيم الهندسي للطرقات وتعبيدها وحفر الخنادق وبنائهم للمدارس والأسواق والمنازل والقصور والأبراج والزوايا والجوامع، كما أدخلوا تجديدات في بناء المساكن من تعدد الطوابق، واستعمال القرميد في القباب والأسقف المدورة وتزيين الواجهات، والأبواب ذات المسامير البارزة، واستعمال تيجان وأقواس على الطراز الأندلسي، ولهم تأثيرات كبيرة في تجميل أسقف وجدران وواجهات المباني بزخارف منفذة بالفسيفساء الخزفية (الزليج) والزخارف الجصية والخشبية، وأظهروا بصمتهم بشكل جلي في المباني الدينية البادية في أشكال المآذن والمحاريب المقوسة. لقد كان الأندلسيون يهتمون كثيرًا بالجانب الجمالي في البناء العمراني منذ تلك الفترة، فقد صنعوا القباب الخشبية المتراكبة، والمزدانة بالزخارف الذهبية والتيجان الأندلسية من النوع الكورنتي والمركب، والزخارف النباتية والهندسية المنفذة بالجص، واستخدموا القرميد والفسيفساء بأشكالها المختلفة، وتفننوا في صبغ بناياتهم بالألوان المختلفة، مركزين على اللون الأزرق والأبيض. منزل بهندسة معمارية أندلسية و قد اشتهر المهندسون المورسكيون المهرة حتى أن بعضهم دخل بلاط الحكم في عهد الموحدين، مثل أحمد بن باسة وهو من أصل إشبيلية والمهندس يعيش الملقي وهو من أصل مالقة. ولازالت بعض البنايات ذات الطراز الأندلسي صامدة رغم تآكلها عبر الزمن في بعض المدن المغربية التي سكنها المورسكيون المهاجرون، كما أن البناء التقليدي المغربي لا يزال محتفظًا ببعض عناصر المعمار الأندلسي. 2- الحرف عرفت حضارة الأندلس ازدهارًا مبهرًا في العديد من الحرف، مثل الزراعة والبستنة والصباغة، حتى أن بعض المناطق عرفت أزمة اقتصادية بعد طردهم من قبل المماليك القشتالية، نظرًا للمهارة والخبرة التي كانوا يملكونها، وقد نقلوا بعضها خلال هجرتهم إلى المدن المغربية التي عمروها في تلك الفترة. برع المزارعون الأندلسيون كثيرًا في إدارة شؤونهم الفلاحية، حيث أبدعوا “السواقي” والقنوات التي تنقل المياه إلى الضيعات الزراعية، واخترعوا آلة “الناعورة” التي تستعمل في الري، كما أنشأوا نظامًا محكمًا لسقي الحقول الفلاحية، حيث يراعى في ذلك حصة كل فلاح والمدة الزمنية التي يستحقها، علاوة على أنهم كانوا يزرعون أنواعًا عديدة من النباتات الطبية والخضر ويغرسون أشكالًا عديدة من الأشجار المثمرة. يعد الذوق والجمال إحدى السمات التي نجدها على مختلف مستويات الحضارة الأندلسية، وكان أجمل ما أبدعت هذه الحضارة هو تشكيل الحدائق المزهرة والجنان الخضراء والبساتين المشجرة، بحس جمالي، وبلمسة إنسانية متعمدة، وهو الأمر الذي كان بعيدًا عن وعي معظم الشعوب في تلك الفترة. إحدى الحدائق المغربية ذات الطراز الأندلسي أدخل الأندلسيون إلى المغرب أيضًا حرفة الصباغة، حيث كانوا يجيدون صناعة سوائل الألوان المختلفة، بخلط مجموعة من العناصر الطبيعية كالنباتات وأوراق الأشجار المناسبة، مثلما كانوا يتقنون صباغة الجدران والأسقف وكذا الملابس والقطن والحرير. 3- الفكر واللغة لقد عرفت الأندلس بحق حضارة فكر سبقت زمنها بكثير، لدرجة أن الشعوب المغاربية التي استقبلتهم في تلك الفترة بعد هجرتهم القسرية من ديارهم، لم تكن مهيأة لتقبل علومهم وأفكارهم، حيث تعرض الكثير من المفكرين والمتصوفين والعلماء الأندلسيين إلى الاضطهاد والتنكيل نتيجة اتهامهم بالزندقة والإلحاد، مثل الطبيب عبد الملك بن زهر، والكاتب جُزَيّ بن عبد الله الغرناطي، وابن زمرك، والشاعر لسان الدين بن الخطيب الذي خنقوه ثم حرقوا جثته، والفيلسوف ابن رشد الذي كفروه وحرقوا كتبه ومكتبته، فضاع الكثير من علومهم وفكرهم. استقر أغلبية نخبة الأندلسيين من العلماء في مدينة فاس، فنالت الأخيرة شيئًا من علومهم. كان أبرز رجال الفكر والتصوف من الأندلس الذين استقروا بالمغرب، هم ابن عباد الرندي، المزداد في مدينة رندة الأندلسية (1333م) وهو من أعلام التصوف في القرن الثامن الهجري، الذي يعتبره الكثيرون الناشر الفعلي والمنظر الأساسي للمدرسة الصوفية الشاذلية بالمغرب الأقصى، والمفكر ابن طفيل صاحب الرواية الفلسفية الشهيرة “حي بن يقظان”، وشيخ المتصوفين العارف محيي الدين بن عربي. وكما أن علوم الأندلس قد وجدت لها طريقًا نحو المغرب فإن اللغة أيضًا بالضرورة ستدخل الثقافة المغربية، فانتشار اللغة الإسبانية في المناطق الشمالية في المغرب اليوم، يعود في أصله إلى اختلاط السكان هناك في فترة من الفترات بالمورسكيين الإسبانيين الذين هجروا قسرًا من الجزيرة الإيبيرية، وقد انتقلت أيضًا بعض أسمائهم العائلية، إذ لاتزال حتى اليوم العديد من الأسر المغربية تحمل أسماء عائلية ذات أصول أندلسية، نذكر منها عائلة “طوريس” و”موراليس” و”غارسيا” و”المالقي” و”الكاثري” و”اللورقي” و”الركاينا”. 4- الطرب لم يكن إسلام الأندلس متشددًا بالشكل الذي نعرفه اليوم، فقد كانوا مولعين بالرقص والغناء وأبدعوا المعزوفات والمستملحات، كما اخترعوا آلات موسيقية، وقد حظي هذا الجانب بعناية كبيرة داخل الثقافة المغربية، مكنته من البقاء والاستمرار، إذ لا يزال التراث الفني الأندلسي حتى اليوم ينشط بشكل شائع في المغرب. استعار المغاربة من التراث الأندلسي الإنشادات الصوفية والمنظومات المنثورة، وفن الملحون، والموسيقى الأندلسية، بالإضافة إلى الطرب الغرناطي. ويعود للمورسكيين الفضل في ابتكار مجموعة من الآلات الموسيقية كالعود والبزق الذي تطور بعد ذلك إلى الكنبري ثم الغيتار، وأيضًا المزمار والتعاريج والبندير. يتسم التراث الفني الغنائي الأندلسي بنفس من الحزن ومسحة من الكآبة، يتجلى ذلك في كثرة الآهات الطويلة والإيقاع البطيء، كانعكاس نفسي لفاجعة التهجير والتنكيل التي لحقتهم من قبل المماليك الإسبانية المسيحية. 5- العادات والتقاليد تتخلل الثقافة المغربية في شكلها الحالي بعض العادات والتقاليد المستمدة أساسًا من التراث الأندلسي، فعلى مستوى الملبس مثلا نجد “السلهام” و”البلغة” و”البدعية” و”الكرزية” و”الشاشية”، و”القفطان” للنساء. أما على مستوى الطبخ فقد نقل المورسكيون معهم إلى المغرب العديد من أنواع المأكولات والحلويات، ولعل أشهر أكلة هي الكسكس التي يعرفها المغاربة ويعدونها كل يوم جمعة، هي طبخة ذات أصول أندلسية. كما أثر المورسكيون في عادات المغاربة مثل احتفالهم بفاتح يناير، واستعمال المغربيات قديمًا صندوق العروس، الذي يجمعن فيه ألبستهن وحليهن، وغير ذلك من تقاليد في طريقة العيش. تطرق العديد من الباحثين الإسبان أساسًا، في سياق التعرف على الذات الإسبانية تاريخيًا، إلى حياة المورسكيين بعد طردهم من الأندلس، وإلى طريقة تفاعلهم مع البلدان التي استقبلتهم، نذكر منهم خوليو كارو باروخا في كتابه “مسلمو مملكة غرناطة بعد عام 1492 م”، والباحثة مرثيديس غارثيا أرينال في مؤلفها “شتات أهل الأندلس: المهاجرون الأندلسيون”، غير أن أبرزهم كان الكاتب والمؤرخ الإسباني غيير موغو ثالبيث بوستو صاحب كتاب “المورسكيون في المغرب”، الذي قال فيه “يمكن أن تكون تطوان في الشمال والرباط في الجنوب أمثلة لمنفى المورسكيين في المغرب، لم يحظ هذا المنفى بكثير من الدراسة حتى يومنا هذا”. ساسة بوست