تخلوا عن طفولتهم وتجاهلوها لتصبح من الماضي, هجروا الملاعب والملاهي وعقدوا الصفقات مع الزبالة والروائح العفنة واعتبروها الدجاجة التي تبيض ذهبا لتصبح مقالب القمامة كل عالمهم ومصدر رزقهم. الأوساخ تغتال ملامح البراءة في وجوههم في مقالب القمامة وجدنا عددا لا بأس به من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الثماني والأربع عشرة سنة، منهمكين في مداهمة الشاحنة الداخلة إلى المكان، ليظفر كل منهم بغنيمته، لم نتمكن من التمييز بين الكبار والأطفال إلا بالحجم، فالعمل كان بنفس الطريقة، وتشابهت الحركات والأكياس التي كانت تحوي ما جمعوه من نفايات صالحة للبيع، إلا أن حجمهم الصغير دلنا عليهم، وبمجرد سؤالنا عن الأطفال الذين يعملون، تفاجأنا بملاح غطاها الغبار والأوساخ، ولم يعد يظهر منهم سوى أسمائهم، أيوب، حمزة، بلال، حسن، محمد.. كل هؤلاء طلّقوا المدارس وقرروا دخول عالم الشغل من باب الرزق ليخلعوا ثوب البراءة ويتنازلوا عن الطفولة، وهم يجرون وراء الشاحنات ويتمسكون بها للظفر بنصيبهم من غنيمة ما تجلبه، ويدخلوا عالما يجعلهم أطفالا فوق العادة. الحيتان والغلابة في مقالب القمامة تتساوى الحياة، أطفال يعملون بالسخرة، وآخرون ضاعت براءتهم، و«معلمين» كبار يستثمرون في عَرَق الغلابة من الأطفال، ويجبرونهم في أحيان كثيرة على التسول، أو احتراف السرقة، وقبل أيام نجحت أجهزة الأمن في القبض على صاحبي مخزني خردة وقمامة في بنها بالقليوبية بتهمة استغلال الأطفال والهاربين من ذويهم فى جمع القمامة وتعريضهم للخطر والانحراف، وضبطت 8 أطفال داخل المخزنين، وتحرر عن ذلك المحضر رقم 9384 جنح مركز بنها لسنة 2015، وأخطرت النيابة التى تولت التحقيق بإشراف المستشار مؤمن سالمان المحامى العام لنيابات شمال بنها. يوميتي بخمسين جنيه «الوطن» استمعت لأوجاع هؤلاء الأطفال، بعضهم قال إنه «كسيب وبياكل من عرق جبينه»، وآخرون تساءلوا «منين ناكل لو سيبنا الشغلانة دى»، وقال «سعيد. م» 15 سنة «إحنا مظلومين وليس كل ما يقال في التليفزيون والجرايد صحيح، إحنا ولاد ناس وبناكل من عَرَق جبينا، وبنصرف على أهالينا ومفيش عيل بيعمل حاجة غصب عنه، يعني أنا باشتغل في الزبالة في مقلب أبوزعبل من 4 سنين ويوميتي 50 جنيه، زي أي موظف في البلد، وخرجت من المدرسة وأنا في سنة خامسة ابتدائي ولكن عندي إخواتي 4 في التعليم وبأساعد أمي في تربيتهم وفي أكلهم ولبسهم لأن كلهم في التعليم ومفيش حد هنا بيشغل حد كل واحد بيعمل اللي في دماغه». أطفال الشوارع.. والقنابل الموقوتة وقال زميله «كريم»: «فيه أطفال بتنام في الشوارع وبيتقبض عليهم، وبيكون العيال نايمة في الشارع جنب بعضهم والشرطة بتفتكر أنهم بيعملوا حاجات عيب، لكن في الحقيقة هما بيناموا في الشارع لأنهم تركوا أسرهم واشتغلوا في جمع القمامة لحسابهم وبيبيعوها لتجار متعهدين، وأضاف: «للأسف بعض المتعهدين بيستغلوهم ويشغّلوهم لحسابهم الخاص وبيجبروهم على التسول على الطرق السريعة وفي الأسواق والناس بتشفق عليهم لأن هدومهم بتكون مش نظيفة». وقال «محمود» للوطن: «أعمل في جمع القمامة منذ 4 سنين ولم ألتحق بالتعليم لأن والدي أحضرني إلى هنا للعمل في المقلب»، وأضاف: «أقوم بجمع القمامة من صناديق القمامة، وتجميعها وتصنيفها كل نوع على حدة، ثم أقوم ببيع القمامة الخارجة من التصنيف حسب سعر كل منها»، ولا تختلف قصة خالد عن زملائه، وقال: «تركت المدرسة وأنا في الصف السادس الابتدائي بسبب رسوبي، وحاول والدي معي بكل الطرق حتى أكمل تعليمي إلا أنني كنت أهرب من المدرسة وآتي إلى هنا لكي أعمل وكنت أحصل في اليوم على 20 جنيها مقابل فرز القمامة، وبعد فترة من غيابي عن المنزل جاء والدي وأخذني إلى المنزل وشجعني بعد ذلك على العمل في فرز الزبالة بعد علمه أنني أحصل على 20 جنيهًا وممكن تزيد يوميتي إلى 30 جنيهًا لو أحضرت زبالة من الشارع». تجار القمامة.. والثراء الفاحش فى المقابل، تم القبض على المتهم الأول ويدعى «سعيد ج.خ» صاحب مخزن خردة وقمامة بناحية الحرس الوطني، أما المتهمة الثانية فتدعى «إلهام م.ح» وشهرتها «رضا» صاحبة مخزن خردة وقمامة بناحية كفر الجزار، والأطفال هم «محمد أ.ص» من بنها و«خالد أ.ع» من الغربية و«محمد أ.ع» من الشرقية و«أحمد ح.أ» من بنها، و«مصطفى ج.م» من المنيا و«محمود ع.م» من بنها و«عبدالغني أ.س» و«رحمة أ.س» من بنها، وكان المتهمان يستغلان الأطفال الضحايا في جمع القمامة والخردة، وكشفت التحقيقات عن قيام بعض الأسر بدفع أبنائهم للعمل في جمع القمامة وترك الأطفال مع بعض تجار القمامة، والبعض الآخر يلجأ إلى هذا العمل كطريق لجلب المال للأسرة. الفقر والتفكك الأسري من جانبه، قال الدكتور إسماعيل بدر، أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية ببنها إن الأطفال الذين يعملون في هذه البيئة والظروف دائمًا ما يكونون عرضة للتشرد والعنف والانحراف الجسدي والأخلاقي، مشيرًا إلى أنهم يصبحون بمثابة نواة لمجتمع إجرامي فيما بعد. وأضاف: الدولة والمجلس القومي لرعاية الطفولة مطالبان بالنظر إلى مناطق زرايب الخنازير في الخصوص، ومقالب القمامة في الخانكة، وأبوزعبل، والقناطر، وبنها، ليتم تفريغ هذه المناطق من الأطفال الذين يعملون في هذه المهنة؛ لأنهم يتعرضون لأبشع أنواع الاضطهاد الاجتماعي وهم فى سن خطرة، مشيرًا إلى أن الدافع وراء عمالة هؤلاء الأطفال في هذه المهنة هو الفقر والتفكك الأسري وعدم وجود رقابة من المجتمع. .