لم يهدأ صوته أبدًا ولم ينخفض ولم يغب عن القلوب والعقول، وصفحات الكتب التي نقرأها بكل ثقة مجرد ذكر لاسمه بها فلم يكن الطفل الكفيف يبلغ الثانية عشر من عمره حتى عرف طريقه إلى المنبر، مستغلا غياب خطيب المسجد، ليلقي خطبة عن التراحم والمساواة بين الناس، ميز الميكروفون صوته، فلم يعد يجهله أحد، أزعج به الحكام والمشاهير، وأثار جدلا واسعا مع كل كلمة قالها. يقيم صلاة الفجر، يرتدي زيه الأزهري، مستعدا للذهاب لصلاة الجمعة، وإلقاء خطبته الأسبوعية، لكنه ينتظر حتى يأتي من يقوده لمسجد "عين الحياة" بمنطقة حدائق القبة، والذي يشترط عليه أنه في حال تأخره عن الثامنة والنصف صباحا، فمن الأفضل ألا يأتي إليه مرة أخرى. مصلون من أماكن عدة جاءوا إلى المسجد، ويفترش ما زاد عنهم الأرصفة المحيطة، موجهين أذنهم نحو الميكروفونات المعلقة، في انتظار سماع عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم.. والحمد لله رب العالمين" بصوته، ليعلن بها عن بدء خطبته. وما بين اللغة العامية والفصحى، ينتقل حديثه حول الدين والسياسة والفن والحياة، لينل بذلك استحسان مريديه، الذين يستقبلونه بالتهليل والتكبير، وفي المقابل ينهال عليه غضب بعض الشخصيات التي ينتقدها، وعلى رأسها السلطة الحاكمة، التي ظل يعارضها "على طول الخط"، بداية من رئيس وزراء مصر، النحاس باشا، مرورا بعبدالناصر، وصولا إلى السادات، ولم يقف انتقاده عندهم وحسب، بل طال الفنانين والكُتاب ورجال الدين أيضا.. إنه الشيخ عبدالحميد كشك. النحاس باشا اتهم الشيخ كشك، النحاس باشا ومكرم عبيد، بالوصولية، وأن صداقتهما بلا جذور، لذا انقلبت إلى عداء سافر، وذكر ذلك في كتاباته عن هذه الفترة، حسبما أوضح الكاتب أحمد المسلماني في إحدى مقالاته بجريدة المصري اليوم. عبدالناصر ورغم أن الرئيس الراحل عبدالناصر، كرمه في عيد العلم، إلا أن ذلك لم يشفع له ليسلم من ميكروفون الشيخ، الذي انتقد سياسته واعتقاله لأعضاء جماعة الإخوان، وإعدام أحد أهم قيادات الجماعة، سيد قطب، قائلا: "يشنقون الرقاب التي قالت لا إله إلا الله، وعبدالوهاب يغني له تسلم يا غالي". وفي مذكراته، ذكر أن المشير عبدالحكيم عامر أرسل مندوبا له ليبلغه أنه يدرك مقدار شعبيته، ويطلب منه أن يحل دم سيد قطب، لكنه رفض، و هو ما أدى إلى اعتقاله بعدها بأيام قليلة. كان عام 1965، أول لقاء بينه وبين جدران السجن، الذي قال عنه: "زنزانة 19 في سجن القلعة، يوم دخلتها لأول ليلة في حياتي، وأُغلق الباب عليَّ وحدي، وأخذت أتحسس حوائطها، لأعرف كيف أنام، وأين الفراش الذي أنام عليه، وأين القبلة لأصلي لله، وخلعت عمامتي ووضعتها تحت رأسي ونمت ليلتها أشكو لربي ظلم العباد". السادات "الحكومة خائنة للإسلام والسادات في ضلال مبين".. هكذا كان موقفه من السلطة عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ومن ثم لم يكن لقائه مع السجن عام 1965، والذي استمر لمدة عامين ونصف، تنقّل خلالها بين معتقلات القلعة وطرة وأبوزعبل والسجن الحربي، هو الأخير، فاعتُقل في سبتمبر 1981، ضمن قرارات الاعتقال التي أعلنها السادات لمعارضي الاتفاقية، إلى أن تم الإفراج عنه بعد اغتيال السادات، والذي قال كشك عن تلك اللحظة في مذكراته، التي تفرغ لكتابتها عقب خروجه: "حين قُتل السادات هللنا وكبرنا حتى اهتزت جَنبات السجن". الشيخ الشعراوي نال الشيخ الشعراوي أيضا نصيبا من نقد وهجوم الشيخ كشك، عندما دافع عن السادات، فقال له كشك في إحدى خطبه: "عالم يقف بأعلى صوته ليعلن في مجلس الشعب أن هناك من لا يُسأل عمَّا يفعل، إن الذي لا يُسأل عما يفعل واحد، وحِّدوا الواحد". البابا شنودة وفي رسالة وجهها للبابا شنودة الثالث، قال له: "انزع فكرة الزعامة من رأسك، ولا تظن إنك في يوم ستكون رئيس دولة، لن تقوم لك دولة على أرض مصر الإسلامية". أم كلثوم بسخرية رافقت أغلب خطبه، يسرد بقوله: "مرة الكلب بتاع أم كلثوم عض واحد في الزمالك عضة وعرة، اشتكى الراجل أم كلثوم، النيابة حفظت الشكوى وقالتله إن السيدة أم كلثوم تعتبر ثروة قومية لا تعوض، فلا يجوز أن نوجه لها اللوم أو العتاب، قالوا طب والراجل المعضوض، قالت النيابة مادام كلب الست يبقى حصلت البركة.. الله يبارك". الشيخ عبدالحميد عبدالعزيز كشك، المولود في مثل هذا اليوم قبل 82 عاما، في قرية شبراخيت بالبحيرة، التحق بالمعهد الأزهري بالإسكندرية، وكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، و التي عرضت عليه العمل بالتدريس، لكنه اختار الخطابة. وفي 6 ديسمبر 1996، وبينما كان يصلي الجمعة، فارقت روحه جسده في السجدة الثانية، ليرحل "كشك"، ويترك سلسلة كتب "في رحاب التفسير"، والعديد من الخطب المسجلة على أشرطة الكاسيت، ومذكرات تحكي حياة رجلا مميزا، ساخرا، متجاوزا من أجل الحق.