يستيقظ فجرًا، تبدأ استعدادت صلاة الجمعة، يرتدي زيه الأزهري، منتظرًا مَن يقوده نحو "عين الحياة"، رافضًا اصطحابه مرة أخرى إذا تأخر عن الثامنة والنصف صباحًا، يشعر بامتلاء المسجد عن آخره بالمصلين حتى افترشوا الحارات والشوارع المحيطة بالمسجد القابع بشارع مصر والسودان في حدائق القبة، يعتلي المنبر الحافظ درجاته ككتاب الله، مستهلًا ب"الحمد لله رب العالمين .. ياااا رب". "عبدالحميد عبدالعزيز كشك".. "فارس المنابر" الذي وُلِد كامل الحواس، حتى أصابه الرمد الصديدي في السادسة من عمره، وكعادة الأسر الريفية قديمًا عرضته أسرته على "حلاق" قريته "شبرا خيت" التي وُلد فيها عام 1933، وهو ما تسبب في فقدان نور العين اليسرى وضعف اليمنى، وظلَّ "كشك" في إصراره حتى حفظ القرآن الكريم كاملًا، والتحق بالمعهد الأزهري في الإسكندرية. كان موعده مع القدر المحتم في امتحان الشهادة الابتدائية، حينما ضاع نور اليمنى أثناء تأديته، وهو ما عطله عن الدراسة لمدة سنتين، حتى انتقل للقاهرة وحصل على الثانوية الأزهرية ودرس في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وظلَّ الأول على دفعته، فاختار "الخطابة" بدلًا من التدريس في الأزهر. بمزج "الشيخ كشك" بين اللغة العامية والفصحى، كانت لغته نافذة إلى قلوب الملايين من العامة الذين لم يصعب عليهم فهمها رغم أنها لم تكن "ركيكة"، يعج مسجد "عين الحياة" بالمصلين حتى تشيد فيها 4 أدوار لاستقبالهم جميعًا، ينتظرونه من الجمعة للأخرى راويًا لهم في ساعة كل ما دار في أسبوع في الدين والسياسة والمتعة، وتعليق على ما يراه الجميع في الحياة، كان الأقرب لبرامج "التوك شو" الحالية، لم يستتر في الماضي فظل حاضرًا في قلب مريديه. "ساسة، فنانون، كُتاب، أزهريون".. نجوم المجتمع دائمًا حاضرون في خطبه الممتازة باسلوبه الساخر، لم يصمت يومًا عما رآه ظلمًا، أول بلاغ ضده كان بعد إلقائه أول خطبة وهو في سن السادسة عشرة، حينما تحدث عن سوء إدارة المستشفيات في مركز شبرا خيت وانتشار الرشوة، في الوقت الذي كان يقضيه بين العام والآخر في قريته، رأى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر "يشنق الناس من حديد" والرئيس الأسبق حسني مبارك "يشنق الناس من حرير". عرف السجون لأول مرة عام 1965 كما ظلَّ يذكر الزنزانة 19 في سجن القلعة "يوم دخلتها لأول ليلة في حياتي، وأُغلق الباب عليَّ وحدي وأخذت أتحسس حوائطها لأعرف كيف أنام وأين الفراش الذي أنام عليه وأين القبلة لأصلي لله، وخلعت عمامتي ووضعتها تحت رأسي ونمت ليلتها أشكو لربي ظلم العباد"، وظلَّ لمدة عامين ونصف، تنقَّل خلالها بين معتقلات طرة وأبوزعبل والقلعة والسجن الحربي، لم يكن موعده الأخير مع السجون، حيث كان رهن الاعتقال في اعتقالات سبتمبر 1981 التي شنَّها الرئيس الراحل أنور السادات على معارضي اتفاقية كامب ديفيد، ولم يخرج كشك من سجنه إلا بعد اغتيال السادات. لم يكن "فارس المنابر" يترك شيخًا قال فتوى ضالة إلا وتعرَّض له وواجهه، كان موقفه النقدي للشعراوي عندما كان يتحدث عن السادات، فقال في إحدى خطبه منتقدًا الشعراوي: "عالم يقف بأعلى صوته ليعلن في مجلس الشعب أن هناك من لا يُسأل عمَّا يفعل، إن الذي لا يُسأل عما يفعل واحد، وحِّدوا الواحد"، فظلَّ "كشك" مقاتلًا شرسًا أمام من ينتقدهم حتى وإن كانوا مسؤولين في دار الإفتاء أو مشيخة الأزهر. "لا يمكن أن تصلح الأمة إلا إذا صلح جهاز إعلامها".. من هنا كان على دراية بما يدور حوله في الفن والسياسة وكل ما يُعرض وتشاهده الأمة، ودائم التعليق والسخرية ب"النكتة"، دون أن يُكفِّر شخصًا أو يتعدى عليه، كانت السيدة أم كلثوم من أبرز مَن تعرض لهم، في إحدى المواقف سرد واقعة: "مرة الكلب بتاع أم كلثوم عض واحد في الزمالك عضة وعرة، اشتكى الراجل أم كلثوم، النيابة حفظت الشكوى وقالتله إن السيدة أم كلثوم تعتبر ثروة قومية لا تعوض فلا يجوز أن نوجه لها اللوم أو العتاب، قالوا طب والراجل المعضوض، قالت النيابة مادام كلب الست يبقى حصلت البركة"، فعلَّق الشيخ كشك قائلًا: "الله يبارك". انتقد الشيخ كشك كل الحكام العرب المستبدين، وعلى رأسهم القذافي ووجَّه له القول: "ظلمك ملأ الدنيا مشرقًا ومغربًا"، وحذَّر من صدام حسين وأنه سيأكل الكويت قبل اندلاع حرب الكويت، فهو الذي رأي أن "والله أعلم أنني قد أكرمني الله بفقد البصر حتى لا أرى وجوه الظالمين". شرائط الكاسيت كانت أهم أسلحته التي وصل من خلالها إلى العالم العربي، واتسمت بالانتشار حتى قال ذات مرة: "يكفي أن تعلم أن بعض الحاقدين لم يجد ما يكتبه عن هذه الأشرطة إلا أن يقول (الشيخ عدوية) وأن الأشرطة انتشرت انتشار أشرطة هذا المطرب الذي يُسمى عدوية"، وترك "كشك" أكثر من 2000 خطبة مسجلة. ورفض "فارس المنابر" جميع العروض التي تلقاها لشغل مناصب في مصر أو خارجها، داعيًا: "اللهم أحيني إمامًا وأمتني إمامًا واحشرني وأنا ساجد بين يديك يا رب العالمين"، وكانت له، ففي صباح يوم الجمعة 6 ديسمبر عام 1996، بدأ طقوسه المعتادة في الاستعداد لصلاة الجمعة، وبينما يصلي نوافل الجمعة في المنزل قبل مغادرته للمسجد، حانت ركعته الثانية ثم سجد ولم يقم وصعدت روحه إلى بارئها، كما تمنى أن يقبضه الله بعد إنهاء قضيته الخاصة كما كان يرجو من الله ألا يقبضه حتى يُكمل تفسير كتاب الله، تاركًا 108 كتب تناول فيها كل مناهج العمل والتربية الإسلامية، رحل "كشك" وهو كما يقول: "لست مثير فتنة أو ضجة".