مر عقد ونصف من القرن ال21، ونحن لا نزال نعيش على الآثار التي تلت اثنتين من الصدمات اللتين صنعتا عهدًا جديدًا. كان أولاها ظهور حدود القوة الأمريكية في ميادين القتل في أفغانستان والعراق – إنها الحرب على الإرهاب التي أطلقت يد أول إمبراطورية عالمية لا تقهر حقًا في العالم. والثانية كانت الانهيار المالي العالمي في العام 2008، وأزمة النظام الاقتصادي العالمي الذي يسيطر عليه الغرب، والتي لا تزال تعيث فسادًا في اقتصادات وحياة الناس في جميع أنحاء العالم بعد أكثر من ست سنوات. سوف تعمل هذه الأزمة على تشكيل السياسة في أوروبا في عام 2015، من لندن إلى مدريد. لكن تأثيرها سيظهر أولاً في أثينا. لقد أدى الركود والجمود الذي أعقب الانهيار إلى صعود اليمين الشعبوي. والآن، وبعد سنوات من التقشف وانخفاض مستويات المعيشة، فقد تقدم اليسار الراديكالي للمنافسة على السلطة في اقتصادات منطقة اليورو الأكثر تضررًا في اليونان وإسبانيا. لقد كان ذلك ردَّ فعل عنيفًا من المنتظر حدوثه. في اليونان، يعتبر حزب سيريزا اليساري، الذي رفض فكرة فرض التقشف في جميع أنحاء منطقة اليورو، هو الأوفر حظًا للفوز في الانتخابات المبكرة المزمع إقامتها في نهاية يناير. كان حزب سيريزا قد تراجع عن طلب إلغاء الديون من جانب واحد، وربما يكون برنامجه الرامي إلى تعزيز مستويات المعيشة على ضوء أزمة الكساد التي وقعت في ثلاثينات القرن الماضي متواضعًا، وربما تدعو الأصوات المعتدلة في جميع أنحاء أوروبا إلى تغيير الاتجاه. لكن النخب الحاكمة في أوروبا لن تتبنى شيئًا من ذلك. نحن نتوقع حملة شرسة لترويع الناخبين اليونانيين، الذين سبق أن جرى تحذيرهم من قبل المفوضية الأوروبية بعدم التصويت في الاتجاه “الخاطئ”. إذا كان اليونانيون لا يزالون يصرون على إنجاز الخيار الديمقراطي الخاص بهم، سيتم بذل كل ما يمكن لإجبار سيريزا على التراجع. وإذا فشل كل شيء آخر، سيتم معاقبة اليونان خوفًا من أن آخرين، مثل حزب بوديموس الجديد في إسبانيا، قد يسلكون نفس الطريق في وقت لاحق من هذا العام. إن القوى الحاكمة في أوروبا عازمة على دعم نموذج اقتصادي فاشل بغض النظر عن التكلفة – كما سيحدث في بريطانيا إذا فاز حزب العمال في الانتخابات العامة في مايو المقبل. كما أن توابع انهيار النظام النيوليبرالي لا تزال ظاهرة في الاقتصاد العالمي – في صورة انخفاض في أسعار السلع الأساسية وهروب رأس المال والركود والكساد. إلا أن المصالح التي تعتمد عليها لن تدعها تفلت دون مقاومة جدية. لقد عانت الولايات المتحدة وحلفاؤها، بما في ذلك بريطانيا، من هزيمة إستراتيجية في العراق وأفغانستان – والتي تتجلى في الحفل الذي أقيم في نهاية الأسبوع الماضي بمناسبة نهاية المهمة القتالية لحلف الناتو، الذي عقد سرًا خوفًا من هجمات طالبان. لكنهم لم يغادروا بشكل كامل. فسيبقى حوالي 13000 جندي بصفتهم “مدربين”، كما قد يعود آلاف من عناصر القوات الغربية إلى العراق لقتال داعش، مع الحديث عن هجوم كبير في الربيع. وبنفس الروح، جرى بذل كل جهد ممكن إبان الانتفاضات العربية عام 2011 لاختطافها أو السيطرة عليها أو سحقها. ويمكن رؤية بعض نتائج تلك الجهود اليوم في منطقة الكارثة في الشرق الأوسط، حيث القوة المتزايدة للأنظمة الاستبدادية المدعومة من الغرب في الخليج، والدكتاتورية الوحشية الجديدة في مصر والغضب العارم في مرحلة ما بعد التدخل في ليبيا، والتي من المرجح أن تنزلق في أتون حرب أهلية في الأشهر المقبلة. وفي الوقت نفسه، تتحدى روسيا القوة الإستراتيجية للولايات المتحدة، والتي بدأت في جورجيا في عام 2008 وازدادت وتيرتها خلال الحرب بالوكالة الجارية في سوريا، ثم بلغت ذروتها في الصراع الدائر في أوكرانيا. كان هناك الكثير من الأصوات الغربية في الأسابيع الأخيرة تقول إن انهيار أسعار النفط والعقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على روسيا قد أسقطت روسيا في وحل الركود، في حين يجري هدم قطاعات من اقتصادات دول أخرى مستقلة تعتمد على النفط مثل إيرانوفنزويلا. ويبدو واضحًا بما فيه الكفاية أن قرار النظام السعودي بزيادة إنتاج النفط في الوقت الذي تنهار فيه الأسعار بالفعل قد تم اتخاذه ليس فقط لحماية حصتها في السوق، ولكن لمعاقبة إيرانوروسيا أيضًا لدورهما في منطقة الشرق الأوسط وأوروبا لصالح أمريكا. إن هذا شكل من أشكال الحرب الاقتصادية – والذي أشاد به الرئيس أوباما هذا الأسبوع بوصفه ثمرة “الصبر الإستراتيجي” – وستظهر عواقب هذا الأمر في جميع أنحاء العالم في الأشهر القادمة. ولكن إلى جانب القوة العالمية والصدمات الاقتصادية خلال العقد الماضي، فقد حدد تحولان حاسمان آخران أوائل القرن ال21 وهما: النهضة الاقتصادية في الصين، في تحدٍ لعقيدة السوق، وتيار التغيير التدريجي الذي اجتاح أمريكا اللاتينية، والذي طرح بدائل للرأسمالية النيوليبرالية. لقد واصل كلا الجانبين تنفيذ مخططهما على الرغم من آثار الانهيار الاقتصادي، وهو ما ظهر أثره على بلدان مجموعة “بريكس” والجنوب العالمي الأوسع. كما جرى انتخاب الحكومات التقدمية من بوليفيا وحتى البرازيل، في حين أن معدل النمو المتباطئ في الصين لا يزال يشكل ما يقرب من ضعف معدل الانتعاش في الولايات المتحدة. إلا أن الضغط السياسي والمالي على فنزويلا، الذي كان عاملاً حاسمًا في تحول أمريكا اللاتينية الذي يواجه بالفعل مشاكل اقتصادية خطيرة، من المتوقع أن يزداد في السنة المقبلة. والمفتاح لركوب العاصفة سيكون من الذي سيتحمل عبء انخفاض الدخل والإصلاحات الاقتصادية. على الرغم من ذلك، فإن ما يبدو مؤكدا هو أنه مهما حاول الغرب استعادة الأرض المفقودة، فإن النظام العالمي لن يعود إلى الوضع السابق. قد يكون هناك صراع متزايد، ولكن لن تكون هناك عودة إلى إملاءات الولايات المتحدة أو إصلاحات اقتصادية بالتزكية. ثمة مراكز بديلة للطاقة في طور التشكل. وعلى الصعيدين الدولي والمحلي، فإن النظام القديم يتحلل. والسؤال سيكون ماذا سيحل محله؟