هناك مثل مصري قديم يقول "الخواجة لما يفلس ، يقلب في دفاتره القديمة"، والخواجة هو البقال اليوناني الذي كان يبيع لزبائنه بالاجل وعندما تتدهور اوضاعه وتقل تجارته يعود لدفاتر الآجل لاستعادة ما له عند الزبائن. تذكرت هذا المثل وانا اتابع الاقتراح في الكونجرس الاميركي بقانون لمحاسبة دول النفط الاعضاء في اوبك لانهم يمارسون احتكارا للسوق. ولم يخف الاميركيون ان الهدف من ذلك القانون هو امكانية ان تحجز وزارة العدل الاميركية على اموال دول نفطية تتهمها بالاحتكار، كي تستخدم تلك الاموال في تعويض المستهلكين الاميركيين عن ارتفاع اسعار النفط!! وبغض النظر عن البلطجة القانونية، في اطار دولي، لمسألة بسط قوانين دولة ما خارج نطاق سيادتها فان فكرة لجوء الحكومة الاميركية لمصادرة اموال دول النفط لتمييز مواطنيها بحصولهم على اسعار رخيصة انما تشير الى ان "الخواجة" الاميركي افلس فعلا وبلغت تأثيرات الاختلالات الهيكلية في اقتصاده مدى لا يمكن اصلاحه. ولا اريد هنا ان افصل في مسألة ان اوبك ليست كارتلا احتكاريا، فالمنظمة كفيلة بالدفاع عن نفسها ودولها من الغنى بحيث تستأجر كبار المحامين الدوليين للدفاع عنها ضمن القانون الاميركي اذا صدر. لكن ينتهز المرء هذه الفرصة لتوضيح بعض المغالطات المقصودة فيما يتعلق بسوق النفط، بعدما اصبحت الاسواق تتحسب لاحتمال ارتفاع اسعاره الى ما بين 150 و170 دولارا للبرميل. اول تلك المغالطات ان السوق لا يعاني من نقص النفط الخام، على العكس هناك خام في السوق اكثر من الطلب. كما ان المصافي في العالم تعمل بكامل طاقتها تقريبا، واي زيادة في انتاج الخام لن تجد قدرات تكريرية تستوعبها. والاهم من كل ذلك ان ارتفاع الاسعار يعود الى زيادة هائلة في تدفق الاستثمارات على اسواق السلع، ما يعني تنافس اموال كثيرة على امدادات محددة وليست محدودة حسب الطلب عليها ومن ثم مضاربات واسعة النطاق ترفع الاسعار. والسبب في هجوم المستثمرين على اسواق العقود الاجلة للسلع الثمينة كالنفط والذهب والبلاتين، والبسيطة كالسلع الزراعية والغذائية هو استمرار تراجع العملة الاميركية، الدولار، واضطراب اسواق المال في العالم نتيجة ازمة الرهن العقاري الاميركي والاحتمالات المتزايدة لركود الاقتصاد الاميركي وتضاعف مشاكله. لكن من السهل على السياسيين في الدول الصناعية الكبرى لوم الاخرين على ارتفاع الاسعار، في محاولة لتضليل مواطنيهم الذين يدفعون القدر الاكبر من اسعار الطاقة لحكوماتهم في شكل رسوم وضرائب، تزيد في بريطانيا مثلا عن النصف. وكانما يريد هؤلاء السياسيون ان يحصلوا على اموال دول النفط، ليس في صورة استثمارات تنقذ اقتصاداتهم، بل مباشرة في شكل جباية بالقوة عبر المصادرة والابتزاز! من بين اسباب ارتفاع اسعار النفط الاسبوع الماضي، ما قاله رئيس مؤسسة النفط الوطنية ورئيس وزراء ليبيا السابق د. شكري غانم امام ملتقى جدة للمصدرين والمستهلكين للنفط قبل ايام من ان بلاده قد تخفض انتاجها اذا مرر الكونجرس الاميركي ذلك القانون. وعندما سألته عن ذلك قال: "اذا تبين، سواء لليبيا او غيرها من دول النفط، ان حريتها في التصرف في اموالها سيحد منها وانها مهددة بتوسيع دائرة الاحكام الاميركية خارج نطاق حدود السيادة الاميركية او التهديد بتجميد الاموال فان تخفيض الانتاج قد يكون احد الردود". وعدت الى نص كلمة د. غانم على موقع مؤسسة النفط الليبية، لاجد انه توسع في كلمته القصيرة في عرض مشكلة الطاقة الحقيقية في العالم، قائلا: "القضية الحقيقية التى يعانى منها العالم اليوم ليست هي قضية ارتفاع أسعار النفط فقط وإن كان ارتفاع أسعار النفط أحد مظاهرها فالعالم يعانى من ارتفاع أسعار كافة السلع والخدمات والعالم يعانى من المجاعات والتشريد والعالم يعانى فوق كل هذا من الحروب وويلاتها والتهديد بإستعمال القوة وازدواج المعايير فى معالجة القضايا وفى محاسبة الدول .ومع هذا ولو قصرنا حديثنا على موضوع اليوم فلعله يتعين بداية إيضاح ان هذا الاجتماع سمى بإجتماع جدة للطاقة ومع هذا قصر نقاشه على النفط والنفط لايشكل سوى ثلث حجم الطاقة المطلوبة فى العالم". واضاف رجل النفط الاول في ليبيا اما مؤتمر جدة: "فإذا كان فعلاُ عصر النفط السهل والنفط الرخيص قد ولى وان الطاقة الفائضة قد تناقصت ... السبب فى انخفاض أو اختفاء الطاقة الفائضة لوجدنا ان السياسات والتى يمكن وصفها باللامسئولة والتى اتخدت من أكبر الدول الصناعية بفرض الحظر على الاستثمار فى أكثر الدول ذات القدرة على الانتاج هى السبب الحقيقى وراء ما تعانيه اليوم من نقص فى الطاقات الفائضة. فلولا قوانين داماتو ولولا قوانين إلسا لكان من الممكن ان يكون انتاج العراق اليوم حوالى ستة ملايين برميل ولفاق انتاج إيران تلك الكمية ولزاد انتاج ليبيا على الأربعة ملايين برميل يومياً. كذلك فان من أهم الأسباب القضايا السياسية وإثارة الحروب والفتن والمشاكل فى أكثر المناطق امكانية لإنتاج المزيد وتشجيع اسرائيل على عربدتها فى منطقة الشرق الأوسط التى تعتبرأهم مناطق انتاج النفط والتى كان من الأولى معاملتها كمنطقة مقدسة لحساسيتها وكان الأجدر تناول كل قضاياها بمنتهى الحذر والحيطة وابعادها عن الحروب والفتن والقلاقل والتهديد باستعمال القوة". الا ترون معي انه صادق في كلامه! ولربما زيادة طغيان الخواجة الاميركي ما هي الا دليل انه على وشك الافلاس ولذا يبحث في دفاتر قديمة.