خذ القوة وتعامل ... مقولة كثيرا ما رددها محمود فوزي وزير الخارجية المصري أثناء عهد عبدالناصر. لكنها مازالت الأكثر تعبيرا عند مقارنة مكانة مصر في العالم العربي في الوقت الحالي مقارنة بالماضي. في الماضي، كانت مصر تمتلك عوامل القوة التي تكفيها للتعامل علي أنها قائد أو رائد العالم العربي. أما في الوقت الحالي فلابد لنا أن نتساءل: هل فقدت مصر تلك القوة في الوقت الحالي؟ وهل يستحق أن يتوجه تاج الريادة إلي دول أخري تمتك القوة وإن اختلفت مصاردها في الوقت الحالي كدولة قطر مثلا؟ ولنبدأ بالماضي، وتحديدا في فترة خمسينيات وستينيات القرن الماضي. داخليا، قامت الدولة المصرية باتباع عدد من السياسات التي زودتها بمصادر القوة التي سهلت من قدرتها علي قيادة العالم العربي. من ضمن تلك السياسات قرارات تشجع علي عدالة توزيع الموارد التي تمتلكها الدولة وتحسين الهيكل الاقتصادي وتطوير القطاع الصناعي. وقد نجحت كل تلك السياسات إلي حد كبير، مؤدية إلي ظهور طبقة متوسطة واسعة وحدوث حراك اجتماعي قاده جيل من المتعلمين. اتجه عدد كبير من أولئك المتعلمين للعمل في دول عربية ناشئة لدرجة أن بعض تلك البلاد وشؤونها التنظيمية الإدارية هم من المصريين كالكويت مثلا. فمصر كانت مصدر أيدي عاملة رخيصة تحتاجها دول المنطقة التي كانت تتسارع فيها معدلات النمو بعد الطفرة الاقتصادية المرتبطة باكتشاف البترول وارتفاع سعره. البعد الديمغرافي أفاد أيضا في استخدام السكان كوقود وقت الحروب التي خاضتها المنطقة العربية. أضف إلي ذلك شكل القيادة المصرية وعلي رأسها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر صاحب الكاريزما والشعبية الجارفة في العالم العربي بدفاعه عن القومية العربي. ولأن الثقافة سلاح قوة، يجب أن نذكر دور الفن المصري مثلا ورموزه كأم كلثوم. بل كانت مصر حاضنة للكثير من المثقفين والفنانين العرب ممن لجأوا إليها. ولا يجب أن ننسي عوامل التاريخ والجغرافيا التي منحت مصر عبقرية الزمان والمكان حسب وصف المؤرخ جمال حمدان. تلك القوة منحت المصريين قدرة علي الريادة بين العرب. وتحولت تلك الريادة إلي نفوذ سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي. علي الجانب السياسي مثلا، كانت مصر تمسك بأطراف العديد من القضايا المصيرية كالوضع في اليمن وفلسطين ولبنان التي ما زال أحد شوارع عاصمتها بيروت يحمل اسم جمال عبدالناصر. في الوقت الحالي، فقدت مصر تقريبا كل عناصر القوة التي منحتها قيادة العالم العربي. داخليا، فرغم الحديث عن نمو اقتصادي بلغ سبعة في المئة العام الماضي، اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء وفق تقرير للأمم المتحدة صدر حديثا والذي أشار إلي أن معدل الفقر في مصر وصل إلي 30 في المئة. أضف إلي ذلك معدل أمية بلغ 50 في المئة لتصير مصر واحدة في قائمة تضم تسع دول حول العالم تسجل هذا الرقم. الصناعة المصرية تعيش أسوأ أوضاعها مقابل تقدم قطاع الخدمات مثلا. فلو قررت زيارة محلات الملابس في دول أوروبية أم أمريكية تدرك مدي تفوق المنتجات القادمة من دول آسيا علي المنسوجات المصرية التي كانت تتمتع بشهرة واسعة في السابق. عسكريا، حققت مصر انتصار عسكريا في حرب أكتوبر 1973. لكن هذا الانتصار ضاع تأثيره بعد توقيع معاهدات السلام والتي وإن أعادت لمصر أراضيها شهدت تعهد مصر بان تكون حرب أكتوبر آخر الحروب التي تخوضها، تعهد لا يخرج عن كونه ضربا من الجنون في منطقة حبلي بالصراعات وما يصاحبها من تهديد دائم علي حدودها. لم يكن غريبا أن يتدني الانفاق العسكري إلي 4 في المئة من إجمالي الناتج القومي (مقارنة ب10 في المئة في دولة صغيرة كقطر). ديمغرافيا، صارت نفس الزيادة السكانية التي كانت عنصر قوة في السابق عبئا علي الدولة وسط موارد محدودة ومعدل مرتفع من الفساد وتوقف الدولة عن توظيف الخريجين في قطاع عام مترهل أصلا. التعليم ليس أفضل حالا، فمستوي المصريين المتدني دفع بعض الدول العربية إلي البحث عن دول أخري من أجل عمالة مدربة ورخيصة كالهند التي كان واضحا لي خلال زيارتها قبل أشهر مدي الاهتمام بالتعليم واعتباره مشروعا قوميا. ويكفيك زيارة إلي دولة عربية كالأردن لتري العمال المصريين بزيهم التقليدي الذي يوحي بأنهم غير اميين حاملين جواز سفرهم المميز بضخامة حجمه والتي فشلت كل المشاريع لتغييره حتي الآن بسبب البيروقراطية والفساد. ويكفيك زيارة واحدة لمدينة القاهرة تدرك مدي انتشار العشوائيات والفوضي المرورية بعكس مدن أخري في العالم العربي كالعاصمة الأردنية عمان التي بدت لي مدينة أوروبية أو بيروت. بل أن مصر صارت الدولة الوحيدة في العالم العربي التي يموت مواطنون فيها من أجل الحصول علي الطعام (ما دفع دول عربية إلي تقديم معونات لمصر). وصارت مصر الدولة الوحيدة التي يعيش بعض سكانها في المقابر. كل هذه ليست سوي عوامل ضعف جعلت الحديث عن ريادة مصر عربيا نوعا من السخف. فلم يعد المصريون قادرين علي الإمساك بملفات كثير من القضايا المصيرية في المنطقة العربية حتي التي تخصهم بشكل مباشر بدءا من الجوار في السودان وكذلك: في لبنان ناهيك عن العراق. جهود مصر لحلحلة القضية الفلسطينية لم تثمر عن أي تسوية للقضية حتي الآن، وسط عدم شعبية تلك الجهود من الأصل. وكلنا يتذكر حادث الاعتداء بالأحذية علي وزير الخارجية المصري الراحل أحمد ماهر في القدس منذ عدة سنوات وما له من دلالة رمزية. وهو ما تبدي واضحا خلال زيارتي إلي مخيم صبرا للاجئين الفلسطينيين في بيروت حيث كدت أتعرض لهجوم من بعض الشباب داخل المخيم بعد التعرف علي لهجتي المصرية بسبب خنوع وجبن الرئيس المصري تجاه القضية الفلسطينية حسب وصف أحد الشباب الثائرين حولي. البعض قد يشير إلي أن مصر مازالت قوية بدليل أنها مقر الجامعة العربية وأن من يتولي رئاستها مصريون فقط، لكن ذلك اعتبره عنصر ضعف بدليل فشل ذات الجامعة حتي في توفير نفقاتها. ولأن الفن هو مرآة الواقع ، تجلي هذا الضعف علي قطاع الدراما المصري. فلم يعد الجمهور العربي يلتف حول المسلسلات المصرية وسط تفوق الدراما السورية والخليجية وحتي التركية المدبلجة. وليس مستغربا أن يستعين الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في المسلسل الضخم صراع علي الرمال الذي يحمل أشعاره بمخرج سوري وممثلين سوريين. اقتصاديا، باتت مصر تحصل علي قروض ومعونات من دول كانت تساعدها مصر ماديا في السابق. ربما اتضحت صورة ذلك في حادث معبر منذ عدة سنوات عندما نظم الصندق الكويتي التنمية الاقتصادية التابعة لحكومة الكويت مسابقة في مصر. سؤال المسابقة كان: كم أعطت الكويت مساعدات لمصر؟ السؤال أثار ضجة واسعة في مصر، لكنه يعبر في الواقع عن حالة فقدت فيها القاهرة ريادتها. الأزمة اللبنانية تأتي كأحدث مثال علي ذلك. فحل الأزمة لم يأت إلا بعد تدخل دولة لا بحجم مصر إنما بحجم قطر التي كان المصريون ينظرون إليها دوما بقدر من الاستخفاف علي أنها أصغر من شبرا وهي حي واحد من أحياء القاهرة. إذا كانت عمر مصر سبعة آلاف عام، فعمر قطر لا يتجاوز الأربعين عاما. فتلك الدولة الصغيرة استقلت في عام 1971. وحينها كان وضعها الاقتصادي يعاني من تدهور استمر حتي فترة التسعينات لعدة أسباب تعود بشكل كبير إلي سوء استخدام مواردها. لكن هذا الدولة الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة ومساحتها عن 11 كليومترا مربعا (أصغر من حي شبرا في مصر) بدأ تظهر ملامح قوتها مؤخرا مع ارتفاع أسعار البترول والغاز الطبيعي أيضا الذي كشف عن احتياطات وافرة منه جعلت من قطر أكثر دول العالم في معدل الدخل (لا يوجد سكان تحت خط الفقر في قطر). بل أن الانفاق العسكري وصل إلي 10 في المئة (أي أكثر ثلاث مرات من مصر). كما أن الدولة قامت بتسوية خلافاتها مع جيرانها السعودية والبحرين لتتفرغ لتطوير البنية التحتية وتحسين الخدمات المقدمة كالتعليم الذي استعانت الحكومة لتطويره بخبرات أجنبية. وصارت قطر التي يتمتع فيها المواطن بالدخل الأعلي في العالم. صحيح أن قطر هي مقر قاعدة السليلية الأمريكية، لكن ذلك بعيدا عن اختلافنا معه يعكس تحالفا خاصا مع أقوي دولة في العالم . وبالتالي يضفي قوة علي دور الدوحة ذاتها. كل تلك العوامل انعكست علي دور محوري لتلك الدولة الصغيرة في الأقليم. خير مثال علي ذلك هو قدرتها علي تجميع الفرقاء اللبنانيين الذين توصلوا إلي اتفاق كان حدوثه مستحيلا. كما بدأت قطر تروج لنفسها كواحة للديمقراطية ينبغي علي دول المنطقة أن تتبع خطاها، بغض النظر عن مدي صحة ذلك من عدمه. وهو ما بدا واضحا في أحد الأعداد الأخيرة لمجلة التايم الأمريكية حيث وقف الأمير القطري وخلفه زوجته ينظران إلي الأمام في مشهد تعبيري عن الدور الذي يطمح أن يلعبه ذلك البلد الصغير. وبدأت قطر تتفاوض لحل مشاكل أخري في المنطقة من بينها القضية الفلسطينية. إعلاميا، صارت قطر صاحبة أقوي وأشهر وسيلة إعلامية في العالم العربي وهي الجزيرة . المفارقة أن جمهور الجزيرة يبلغ 35 مليون مواطن عربي (أي أكبر 35 مرة من عدد سكان تلك الدولة الصغيرة). المثير أن كل هذه التطورات تحدث بينما يستمر التليفزيون الرسمي المصري في الترويج لنفس الأفكار التي تتحدث عن الريادة المصرية و حكمة الرئيس بين القادة العرب. لكن تلك الرسالة التي تبث عبر عشرات القنوات الأرضية والفضائية ربما لم تعد تصل إلي كثير من المصريين الذين باتوا مشغولين بمتابعة الأحداث عبر قناة الجزيرة القطرية ..... ورحم الله محمود فوزي وكل إمرئ عرف قدر نفسه.