...إنها هي النكبة.. في الذكري الستينية للنكبة ثمة فرصة للتفكير، فرصة للنظر إلي ماضي الأمة المرير والتطلع إلي مستقبلها الذي بإمكاننا أن نمسك بناصيته ونصنعه زاهرا. حقيقة مريرة ومؤلمة هي هذه النكبة، احتلال ارض شعب مسلم بالقوة وتشريده وارتكاب أبشع المجازر بحقه، وزرع كيان صهيوني استيطاني علي أرضه، وتدنيس مقدساته..انه تعد سافر علي شرفنا وكرامتنا كأمة، ومع توالي السنين واستمرار نكبة شعبنا يتفاقم إحساسنا بحجم الكارثة ونستشعر الخجل من كون امتنا لم تجمد علي الأقل بعض خلافاتها لتتفرغ من اجل استئصال هذه الغدة السرطانية وحتي لا يرتفع صوت فوق صوت المعركة، معركة تحرير فلسطين. لكن هناك ظاهرة أكثر بشاعة... تؤلم عمق ضمائر الأحرار وتحرقها... هي أم النكبات وجذر الأزمات... لكنها بقدر بشاعتها وخطورتها هي خفية وملتبسة... أخفي من دبيب النمل في الليلة الظلماء علي الصخرة السوداء...لا تظهر عيانا، بل تتخفي خلف مفاهيم مقدسة، وتتقمَص بالدين والمذهب... تتخندق وراء شخصيات تاريخية... تتنزل عن أفق المصالح الإسلامية العليا لتتصاغر في ساحة مصالح فئوية ضيقة... تخلق حالات من الولاء والبراء ثانوية مزيفة في عرض الولاء والبراء الإسلامي... لا تبقي مكانا في الفكر والوجدان لهمّ إحياء الحضارة الإسلامية، بل تذبح المتبقيات التراثية الحضارية في حضرة الأنا ونرجسيات الذات... أنانية أخلاقية، لكنها سرت من الفردية إلي الجمعية والفئوية... وليدة الساسة السابقين وإرث للحكام الموجودين ليفضوا بها ما استعصي من مظاهر وحدة الأمة... تجعلنا دائما علي شفا جرف هار يهوي بنا إلي حروب داخلية، بدل تجميع طاقاتنا في جبهة واحدة أمام عدونا المشترك... عملها اغتيال العقول وطمس الموضوعية والإنصاف... تجعلنا نفتخر بتسميات لم ينزل الله بها من سلطان وننسي أنّ الله سمانا المسلمين من قبل... جمرة تؤجج بها العصبيات العمياء نيران التكفير فنخرج بها الناس من دين الله أفواجا... تسخر من الحوار والتفاهم وتتغذي من مائدة الصراع بين الاخوة... تفسّر التسامح والمرونة بالتنازل وفقدان الهوية... لا تصدّق الخيرية والإنسانية في الآخر... شيزوفرينيا فكرية... تتخيل نفسها شعب الله المختار... في حسابها الآخر خبيث وعدو مبين.. لا تؤمن بالتعايش بل ديدنها إلغاء الآخر... تجعل صاحبها يري نفسه فوق حدود الله فهو ابن الله وخيرته... تضفي علي نفسها دوغمائيات: الفرقة الناجية والمهتدية والمنصورة و... وتضفي علي الآخر المختلف تمامية الشر والضلال... الآخر في قانونها منسحق... لا شرعية لوجوده فضلا عن الإقرار ببعض حقوقه. *** نعم إنها هي، هي الطائفية... النكبة الحقيقية للأمة التي خلقت استسلامنا وذلنا وهواننا... مزقت وحدتنا... وأذهبت ريحنا... *** عندما يلوم الله تبارك وتعالي اليهود والنصاري لا يلومهم لأجل عقيدتهم فقط، فإضافة إلي نقد جوانب عقائدية في فكرهم يتناول منهج تفكيرهم أيضا... إنّ الله يذمهم لتحقيرهم الآخر: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَي عَلَي شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَي لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَي شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، القرآن ليس كتاب ألف ليلة وليلة بل في قصصه عبرة لأولي الألباب... يبين الله سننه الحاكمة في مسيرة حياة الإنسان عبر محطات تاريخية... كذلك قصة الطائفية... فاتبعنا بدعة الذين من قبلنا شبرا بشبر وذراعا بذراع حتي دخلنا جحر الضب الذي دخلوه... كان الصراع سابقا بين الأديان فقط واليوم جعلناه بين الأديان والمذاهب وبين القوميات وبين الأحزاب ... فاستمرارا علي نهج السلف الطائفي تقول الشيعة ليست السنة علي شيء وتقول السنة ليست الشيعة علي شيء... حقيقة دامغة تتشابه قلوبنا ... *** عندما تكون الجريمة كبيرة وخساراتها فادحة بقدر هدم حضارة دينية إنسانية، فلا بدّ أن تكون التوبة نصوحا وعظيمة بقدر الجريمة... الطائفية تمزقنا وتجلب علينا لعنة السماء، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم . التوبة المعرفية من الطائفية بحاجة إلي الإصلاح و التبيين ... إصلاح دمار الفكر الطائفي وتبيين المسار الصحيح في الفكر الإسلامي... *** اعتقد أنَ الخطوة الأولي في مواجهة هذه الحالة المستشرية في جسد الأمة هي أن نحيط بهذه الظاهرة في مناشئها المختلفة، ونقاربها ثقافيا ومن زوايا متعددة... والخطوة الثانية، ممارسة النقد الذاتي وذلك في أن نخضع أنفسنا لعملية فحص دقيق معرفي لنشخص مواطن الطائفية في فكرنا وثقافتنا، قبل أن نتهجَم علي الطرف الآخر لنتهمه بالطائفية... والثالثة تمحيص التراث من رواسب الطائفية ليكون الدين خالصا لله... والخطوة الأخيرة بناء ثقافة إسلامية لاطائفية شاملة تستوعب حقول المعرفة الإسلامية، وصولا إلي فقه لاطائفي وتاريخ لاطائفي و... ولنمتلك في النتيجة علماء إسلاميين فوق الطائفة أو المذهب، وثقافة عامة متسامحة لاطائفية... وإلي الأمام نحو حركة أسلمة شاملة بانقاذ التراث الإسلامي من لوثة الطائفية.