لماذا لم يعمل الفقهاء على تطوير أسلوب للمعارضة المنظمة يتلافى أضرار الثورات المسلحة لتغيير السلطة بالوسائل السلمية؟ مشايخ السلطة أفتوا بأن الانقلابيين حازوا على مفاتيح القوة والقهر فى مصر ليؤكدوا أن مساندتهم واجبة شرعا الثورات المسلحة مهما كان نبل مقصدها ونقاء قادتها وإخلاصهم لم تثمر ثمرة صالحة بل تسببت بأضرار جسيمة على الشعوب فى معرض محاولتهم لتبرير انخراطهم فى العملية الانقلابية استخرج لنا بعض «المشايخ» من بطون كتب العصر الإسلامى الوسيط، عصر التراجع والانحطاط، فتاوى تتحدث عن شرعية حكم الأمير المتغلب، فيزعم هؤلاء المشايخ أنه طالما أن الانقلابيين قد حازوا بالفعل كل مفاتيح القوة والقهر فى مصر فهم قد تغلبوا، وتكون مساندتهم واجبة بذلك شرعا.. لكنهم تجاهلوا الأوضاع التى ظهرت فيها هذه الفتاوى، والفتوى تتغير زمانا ومكانا ومحلا، فهى لا تفهم إلا فى ضوء الظروف التى قيلت فيها والملابسات التى أحاطت بها والناس الذين قيلت لهم.. والأدهى من ذلك أنهم لا يوضحون أبدا صفات هذا المتغلب الذى تجوز معها طاعته، ولا على من يتغلب، وكيف يتغلب، وماذا يفعل بعد أن يتغلب، وهم فوق هذا لا يخبروننا عن آراء الفقهاء فى الفرق بين شرعية حكم المتغلب وشرعية فعل التغلب نفسه، وهى نقطة مهمة سنعرض لها فى هذه الدراسة، لنعرف كيف يدلسون علينا الفتاوى. إن الطريقة التى يعرضون بها هذه الفتاوى تصور المجتمع المسلم كأنه قطيع من الأغنام يسوقه كل من يحمل عصا.. هذا البحث المختصر هو دفاع عن مجتمع المسلمين عبر تاريخه الطويل وعن ثقافته السياسية التى ورثها عن أئمته الأعلام أكثر مما هو دفاع عن الشرعية فى مصر.. وأرجو أن يصل معنا القارئ فى نهاية الدراسة إلى نتائجها الثلاث: 1- أن فتاوى القدماء التى تتحدث عن طاعة المتغلب قد صدرت لمعالجة مشكلة لم نعد نواجهها، لذا ينبغى، أن يعاد النظر فيها، ولا يصح العمل بها بدون مراجعة. 2- أن معارضى الانقلاب لا يمكن اعتبارهم، من وجهة نظر شرعية صرف، خارجين عن الطاعة حتى نطالبهم بها. 3- لا توجد فتوى واحدة صدرت لتطالب بطاعة شخص تغلب بالقوة على ولى أمر شرعى، بل كلها كانت فتاوى عن حالة أمير فرض نفسه على المنصب الشاغر بعد وفاة من سبقه، أو أمير تغلب على حاكم لم يكن يتصف بالشرعية. لقد تأسست القواعد والمبادئ العامة للحكم فى الإسلام منذ زمن التنزيل فى آيات الكتاب وأحاديث الرسول (ص) وممارساته، وما يعنينا منها هنا هو طريقة اختيار الحكام، ولقد ترسخت هذه القواعد والمبادئ وتجلت من خلال الخبرة التاريخية لزمن الخلفاء الراشدين: الخلافة عقد بين الأمة والحاكم، والخليفة لا يتم اختياره إلا من خلال شورى المسلمين ولا يتم تنصيبه إلا برضاهم، وينقل عبد الرزاق فى مصنفه وابن حجر فى فتح البارى شرح صحيح البخارى عدة روايات فى تأكيد هذه القاعدة عن عمر بن الخطاب، الخليفة العبقرى، منها: «الإمارة شورى» و«من دعا إلى إمارة نفسه من غير مشورة من المسلمين فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه» و«من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا يتابع هو ولا الذى بايعه تغرة أن يقتلا»، وعلى الخليفة أن يحكم بالعدل وأن يلتزم بالشريعة، فإذا استوفى هذه الشروط فله على الأمة حق الطاعة والنصرة.. الطاعة ما أطاع الله ورسوله، فإن عصى أو بدل أو أمر بما يخالف الشريعة فلا طاعة له، والنصرة هى إعانته على القيام بواجباته، وإذا استنفرهم لجهاد العدو أن ينفروا. الانحراف لقد بدأ الانحراف عن تعاليم الإسلام فى اختيار الحكام منذ غدت الخلافة ملكا يورث، بدأ ذلك على يد معاوية بن أبى سفيان عندما أخذ البيعة بنفسه لابنه يزيد، صحيح أن هذه الوراثة كانت بعهد من الخليفة القائم إلى الوريث الذى لا يصبح خليفة – من الناحية النظرية – إلا بتلقى البيعة من أهل الحل والعقد بعد وفاة الخليفة القائم.. هذه الطريقة أرادوا لها أن تبدو كأنها ذات الطريقة التى تولى بها عمر بن الخطاب، غير أنها من الناحية الموضوعية لم تكن تمت لها بأى صلة.. فأبو بكر عندما شعر باقتراب أجله خطر بباله أنه من الضرورى تسمية من يخلفه قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى، لا لأنه لا يثق فى اختيار الأمة من بعده، وحاشا لله أن يخطر ببالنا أن أبا بكر قد فكر بهذه الطريقة وهو يعلم أن الرسول (ص) نفسه لم يرشح من يخلفه، ولكن أبو بكر وضع نصب عينيه أن الدولة كانت قد خرجت لتوها من حرب أهلية طاحنة – حروب الردة – وهى مازالت مشتبكة مع قوتين كان الاشتباك مع واحدة منهما فقط يعد مجازفة كبيرة، فقد كانتا هما القطبين الأعظم للعالم فى زمانهم – الفرس والروم – وفى هذه الحالة فمن الحكمة أن يحرص الخليفة على ألا تخلو القيادة من بعده ولو ليوم واحد، فخطبهم قائلا: «أيها الناس، قد حضرنى من قضاء الله ما ترون، وإنه لابد لكم من رجل يلى أمركم، فإن شئتم اجتمعتم فائتمرتم ثم وليتم عليكم من أردتم، وإن شئتم اجتهدت لكم رأيى.. قالوا: يا خليفة رسول الله أنت خيرنا وأعلمنا، فاختر لنا».. وواضح من الرواية أنهم لو أرادوا أن يختاروا هم لأنفسهم لكان لهم ما أرادوا، ولكنهم فوضوه، لا باعتبارها سنة ماضية يجب اتباعها، وإلا ما خرج عنها عمر، ولكن باعتبارها حلا لمشكلة معينة عرضت للدولة فى ظرف خاص.. وأبو بكر لم يستقل بالرأى عند اختيار من يعهد إليه، بل شاور كبار الصحابة الذين كانوا فى المدينة وقتها حتى استقر الرأى على ترشيح عمر، الذى لم يكن يمت لأبى بكر بأية صلة، إلا الصحبة فى الإسلام، ومن جهة أخرى كان هؤلاء الذين وافقوا على ترشيح عمر هم حقا ممثلى الأمة وقادتها، لم يكتسبوا صفتهم هذه من تعيين أبى بكر لهم فى وظائفهم، ولكن من سبقهم للإسلام وطول صحبتهم لرسوله وجهادهم فى سبيله ومن ثقة الأمة كلها فى أنهم خير أهل زمانهم، وقد وافقوا على هذا الترشيح بإرادتهم الحرة دون أى ضغط أو إكراه، وعمر لم يصبح خليفة فعلا إلا بعد موافقة عامة المسلمين عليه وبيعتهم له.. فأين هذا من خليفة – ملك، يعهد إلى ابنه أو أخيه دون مشورة من أحد، ثم يعين بنفسه أهل الحل والعقد، ويأخذ منهم فى حياته عهدا ملزما لهم على أن يبايعوا ولى عهده بالخلافة من بعده؟ (بعض خلفاء بنى العباس وصل بهم الأمر إلى حد إرغام من عينوهم للحل والعقد أن يقسم الواحد منهم على أنه سيبايع ولى العهد وإلا كانت نساؤه طالق وعبيده طلقاء وأمواله مستباحة.. إلخ). لم تتقبل الأمة هذا الانحراف بسهولة، فقد توالى اندلاع الثورات فى وجه حكام بنى أمية ثم بنى العباس، ومن وقتها ظل قادة هذه الثورات يعدون فى تراثنا قيادات إسلامية مخلصة رفيعة القدر والمقام، مثل الحسين بن على بن أبى طالب، وعبد الله بن الزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن الأشعث، وزيد بن على زين العابدين وابنه يحيى، ومحمد النفس الزكية وأخوه إبراهيم، رضى الله عنهم أجمعين، وكلها ثورات نظر إليها الفكر الإسلامى بكل التوقير والاحترام، غير أن كلها باءت بالفشل الذريع، وبعضها كانت نتائجه أشد ضررا على الأمة من الانحراف الذى قامت لمواجهته.. وبانتصاف القرن الثانى الهجرى بات تيار الفكر الإسلامى الغالب (أهل السنة والجماعة) ينظر إلى الثورة المسلحة، من حيث قدرتها على تحقيق نتائج إيجابية، بقدر كبير من التوجس والحذر.. قبل أن نتعرض لآراء الفقهاء علينا أن نتذكر بعض الملاحظات المتعلقة بموقع الدولة والسلطة من الإسلام، وبدور الفقهاء فى المسائل العامة، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع، ثم علينا أن نلقى نظرة على الظرف التاريخى الذى كانت تمر به الأمة، والذى بدأ فيه التفكير فى طريقة التعامل مع الحاكم المتغلب مغتصب السلطة، حتى يمكننا أن نفهم فتاوى الأئمة ونضعها فى سياقها وندرك مراميهم منها. الدولة فى حياة المسلمين لكل دين مؤسسته، تتكون هذه المؤسسة من رجال الكهنوت الذين يتمتعون بصلاحيات دينية خاصة لا يملكها المؤمن العادى، كقيادة الصلوات وتقديم القرابين والأضحيات وقبول النذور، وعقد الزواج وفسخه، وأحيانا لا يمكنك دخول الدين إلا على يد أحد الكهنة الذى يمكنه أيضا إخراجك منه، وغيرها من الصلاحيات التى تختلف باختلاف الأديان.. وهذه المؤسسة تقوم على رعاية العلاقة بين المؤمن ودينه باستقلال عن سلطة الدولة التى ترعى مصالح الناس الدنيوية بعيدا عن مسائل الدين.. الإسلام وحده يخلو من الكهنوت وليست له مؤسسة دينية، مع أنه أكثر الأديان قاطبة تداخلا، بأوامره ونواهيه، فى حياة الناس ومعايشهم، لا تكاد تجد مجالا من مجالات الحياة ليس للإسلام توجيه فيه، ولقد أوكل الله سبحانه وتعالى أمور الدين إلى كل المؤمنين، يختارون من بينهم بإرادتهم الحرة من يقوم بتنظيم شئونهم كمسلمين، وكثير من أحكام الإسلام لا يمكن أن تقوم به إلا السلطة – الدولة – فإقامة الحدود فرض على المسلمين، ولكن ليس لأى فرد أن يقيمها، إن الدولة هى التى تعين من يقتل القاتل ويقطع يد السارق ويجلد شارب الخمر.. وقد أمرنا الله بتغيير المنكر، لكن كل المنكرات الشرعية التى لا يمكن تغييرها إلا بالقوة لا يملك المسلم إزاء مرتكبيها إلا أن ينصح المخالفين ثم يرفع الأمر إلى السلطات.. والقاضى التى تعينه السلطة هو وحده الذى يمكنه إيقاع الطلاق للضرر كى يجوز للمرأة أن تتزوج بآخر، وهو وحده الذى يمكنه إثبات نسب طفل إلى رجل ينكره بما يترتب على هذا النسب من حقوق وواجبات ليس أخطرها التوارث بين الطرفين، وغير هذا كثير.. لهذا يعالج الفقه الإسلامى قضايا السلطة، فلا يمكن أن تستقيم منظومة الأحكام الفقهية دون تحديد من الذى يمثل سلطة الدولة، إذ ليس للمسلمين أى تنظيم آخر يعتصمون به كى تتسق حياتم مع تعاليم دينهم. ولم تعرف البشرية كلها قبل العصر الحديث مفهوم الدولة كشخصية اعتبارية مستقلة تماما عن الأفراد الذين يتولون مناصبهم فيها، فنحن الآن نتعامل مع الدول كأجهزة ونظم وقوانين وإجراءات لا تتأثر بتغير الأشخاص الذين يديرونها، لكن حتى قرنين من الزمان كانت السلطة تستقر عند رأس الدولة، ويعد كل أصحاب المناصب التنفيذية مجرد معاونين للرأس، لا يستمدون سلطتهم إلا من تفويضه لهم بها، ولا يساءلون إلا أمامه، لذلك سنلاحظ أن الفكر السياسى للمسلمين، شأنهم شأن غيرهم من الأمم، لم يفرق بين سلطة الدولة وسلطة رأسها، الخليفة أو الإمام أو أمير المؤمنين، حتى وجدنا الفقهاء يناقشون المركز القانونى للولاه والقضاة بعد وفاة الخليفة الذى عينهم، هل ينعزلون بموته كما تنتهى صلاحيات الوكيل بموت موكله، أم أن الخليفة قد عينهم بصفته وكيلا عن الأمة، فيكون الموظفون معينين من الأمة، ولما كانت تصرفات الوكيل تصل سارية فى حق الموكل بعد موت الوكيل فإن المعينين يستمرون فى وظائفهم ما دام الموكل الأصلى، الأمة، ما زال على قيد الحياة. من هنا ندرك لماذا اهتم الفقهاء بقضية تصرفات من يستولى على السلطة بطريق غير شرعى، فلا يوجد غيره من يستطيع إدارة الدولة وحفظ الأمن فيها، فإذا لم نعترف بصحة تصرفاته فإن هذا سيعنى فى الواقع العملى أننا نلغى الدولة وأجهزتها. الفقه فى الحياة العامة يعترف كل المسلمين أن للشريعة دورا مهما فى تنظيم الحياة العامة (لذلك لا يستطيعون حذف المادة الثانية من الدستور، لكن لا بأس من إفراغها من مضمونها، ولهذا حديث آخر)، لكن كثير من المسلمين لا يفهمون حقيقة دور الفقهاء فى تطبيق الشريعة، فسيادة الشريعة لا تعنى سيطرة الفقهاء. إن الفقه هو استنباط الأحكام التفصيلية لأفعال المكلفين من المصادر الشرعية، الكتاب والسنة، وهذا هو موضوع العلوم الشرعية التى ينبغى على المرء أن يتعلمها ليغدو فقيها إذا أتقنها وتدرب على استخدامها، لكن المصادر الشرعية لم تأت فى العديد من المسائل العامة فى السياسة والاقتصاد والاجتماع بنصوص تفصيلية، بل جاءت بقواعد ومبادئ عامة، وعلى المسلمين أن يقوموا بابتكار وتصميم الوسائل والأدوات التى يطبقون بها هذه القواعد والمبادئ، فهذه الوسائل والأدوات تتغير بتغير الزمان والمكان، عندما تتغير معها المشاكل والتحديات وتتطور الموارد والإمكانيات والمعارف التى نستخدمها، فهل الفقهاء هم الذين يقومون بهذا الابتكار للوسائل والأدوات؟؟.. بالقطع لا.. فعلومهم وتدريبهم لا تقدم لهم العلم ولا الخبرة الضروريين للقيام بهذه المهمة.. إن صياغة النظم وابتكار الأساليب والتفكير فى الإجراءات هى مسئولية أهل العلم وذوى الخبرة فى المجال العام، السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، ويأتى دور الفقهاء فى تقييم مقترحات أهل الاختصاص، وبيان مدى موافقتها للشريعة من عدمه، وربما يحتاج الأمر لضرب بعض الأمثلة. يخبرنا الفقهاء أن اختيار الحكام لا يكون إلا من خلال شورى المسلمين ورضاهم إعمالا لنصوص مثل: «وأمرهم شورى بينهم». (الشورى: 39)، لكنهم لا يعرفون كيف يصممون نظاما سياسيا تتمثل فيه هذه القاعدة ويكون صالحا للتطبيق ومحققا لمصالح الناس، فأهل الذكر فى هذه العملية هم أهل الخبرة والعلم فى مجال الإدارة السياسة، وهم يعرضون النظم السياسية المختلفة على الفقهاء فيستبعدون منها ما لا توافق عليه الشريعة، وما تبقى فإنه يعد بدائل نختار منها، وهذا الاختيار هو فى جوهره عملية سياسية يقوم بها أصحابها. ويأخذ الفقهاء من قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول.... » - (النساء: 59) .إن المواطنين يمكنهم أن يختلفوا مع الحكام، ويكون الفصل فى هذا الخلاف لكتاب الله وسنة رسوله (ص)، لكنهم لا يزيدون على تقرير المبدأ دون الدخول فى إجراءات النظام الذى يمكنه أن يحقق ذلك، وإذا حاول أحد الفقهاء اقتراح مثل هذا النظام فإن كان يجمع مع تخصصه الشرعى علما وخبرة بالنظم السياسية فإن اقتراحه يكون قيما بالدراسة الجدية، أما إذا كان كل محصوله ينحصر فى العلوم الشرعية فإنه يكون كالمهندس الذى يقترح علاجا لمرض ما، أو الطبيب الذى يريد ابتكار نظام لاستصلاح الأراضى. لا ينبغى أن يؤخذ كلامهم بجدية، والفقيه فى هذه الحالة إنما يمارس حقه كمواطن عادى يتكلم فى الأمور العامة، ولا يعد كلامه اجتهادا فقهيا. من هنا، نفهم لماذا لم يعمل الفقهاء على تطوير أسلوب للمعارضة المنظمة يتلافى أضرار الثورات المسلحة ويمكنه العمل على تغيير السلطة بالوسائل السلمية.. لماذا كان المطروح عليهم هو الاختيار بين بديلين اثنين فقط: إما تغيير السلطة بالسلاح، أو دعوتها إلى تعديل مسارها دون تغييرها، لماذا لم يكن مطروحا محاولة تنظيم الجماهير لفرض نظام يحترم قاعدة الشورى بدون حمل السلاح؟.. هل هذا سؤال مشروع؟.. هل يمكن أن نحاكم مفكرى القرن الثانى الهجرى طبقا لمفاهيم لم تصل إليها مدارك البشر إلا بعدهم بعشرة قرون؟.. من أين لهم أن يتصوروا وجود طريقة لتغيير نظام يحكم إمبراطورية شاسعة مترامية الأطراف متعددة الأعراق بوسائل سلمية؟.. لكن حسبهم أن وصلوا إلى وجوب العمل على تعبئة الرأى العام للضغط على السلطة لتعديل مسارها، والعمل على إعداد العدة لتغييرها بالقوة التى لم يتصوروا وجود طريقة غيرها لتغيير الحكام.. هل نلوم الفقهاء لأنهم لم يبحثوا إمكانية تغيير السلطة بطريقة أخرى غير إسقاطها بالقوة المسلحة؟.. ربما رغبنا فى أن نلومهم.. لكن الفكرة لم تخطر ببالهم ولم يطرحها أحد من قادة العمل السياسى الذين هم أهل الذكر فى مجال الحكم والسلطة، لم تكن الفكرة مطروحة عند المسلمين ولا عند غيرهم.. لقد كانوا أبناء عصرهم، لا يمكنهم مناقشة إلا ما يمكن تصوره فى هذا العصر. الظرف التاريخى لا يمكننا أن نفهم أى فكر لنصدر عليه حكما موضوعيا إلا فى ضوء ظروف العصر التى أحاطت به، وظروف العصر الذى عاش فيه أئمة الفقه الإسلامى فى القرنين الثانى والثالث للهجرة فرضت عليهم التخوف الشديد من الانقسام والفرقة، وحملتهم على إعلاء شأن وحدة الأمة ولو على حساب تحمل بعض التعنت من الحكام، وقد أعطوا لاستمرار الأمة الوليدة التى لم تترسخ جذورها بعد الأولوية على سائر الاعتبارات المتعلقة بسلامة الحكم.. هذا كان اجتهادهم على أية حال. فلم يكن العرب عند البعثة أمة بالمعنى السياسى ولا الاجتماعى، بل كانوا عرقا واحدا متفرقا فى قبائل متصارعة، تعد كل قبيلة منها كيانا مستقلا، ولم يخضع العرب فى تاريخهم كله قبل الإسلام فى أى وقت من الأوقات لسلطة مركزية واحدة، سواء كانت سلطة عربية أو سلطة أجنبية، والقبيلة نفسها لم تحكمها سلطة سياسية بأى معنى من المعانى، فسلطة شيوخ القبائل وزعمائها قامت على محض التراضى، ولم يكن أفراد القبيلة مضطرين للخضوع لسلطة الشيوخ الأدبية إلا مقابل حماية القبيلة لهم، ويمكن لأى فرد من أفراد القبيلة أن يرفض النزول على حكم شيوخها، فيفقد بذلك حقه فى حماية القبيلة ويغدو عاريا من العصبية التى كان يلتحف بها فى مواجهة الآخرين، ولكن لا شىء أكثر من ذلك، فلم يكن لشيخ القبيلة أى من الأدوات التى تملكها الحكومات لإرغام الرعايا على الانصياع لأوامرها.. وبنشأة الدولة الإسلامية غدا العرب كلهم لأول مرة فى التاريخ أمة واحدة تحت سلطة مركزية يدينون لها بالطاعة، غير أن العصبيات القبلية ظلت تحكم جوانب كثيرة من حياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية لعدة قرون تالية (وفى مناطق شاسعة من العالم الإسلامى مازالت العصبية القبلية والعشائرية هى سيدة الموقف حتى الآن).. وهكذا كانت حساسية قادة الأمة الثقافيين من الفرقة لها مبررها القوى. أما الدولة الإسلامية التى بدأ تأسيسها فى زمن الراشدين فقد تكونت من خليط من شعوب عديدة، وهذه الشعوب قبلت السلطة الإسلامية كبديل عن الدول التى أسقطها المسلمون لأنها كانت سلطة أفضل بكل المقاييس، لكن هذه الشعوب، خاصة فى القرون الثلاثة الأولى، ظلت تحمل فى وجدانها بقايا انتماءاتها العرقية والثقافية والحضارية السابقة، فلم يكن قد انقضى على انضوائها فى الدولة الجديدة إلا عقود قليلة لا تكفى لانصهارها فى أمة واحدة، ولم تكن رابطة الإسلام قد توثقت بعد، فأغلب هذه الشعوب قد تطلب دخول أبنائها الإسلام على نطاق واسع مرور قرن أو اثنين، ففى مصر – على سبيل المثال – لم يصبح غالبية أهلها مسلمين إلا فى القرن الثالث الهجرى.. ما زالت للعصبيات القبلية قوتها إذن، وما زالت النعرات العنصرية والاختلافات الثقافية للشعوب غير العربية يعلو صوتها هنا وهناك، لذا كان قادة الأمة الثقافيون، فقهاءها، يخشون أن تتحول الثورات المجهضة من سعى لإصلاح الأمة الواحدة إلى انشقاقات تدعو للانفصال.. لقد كان الحرص على سلامة الدولة له ما يبرره، خاصة ونحن نعلم أن المسلمين لا يملكون أية مؤسسة أخرى يعتصمون بها. التوجس من الثورات المسلحة كان له إذن ما يبرره، مهما كان نبل مقصدها ونقاء قادتها وإخلاصهم، فهى لم تثمر أية ثمرة صالحة فى أحسن الظروف، وتسببت بأضرار جسيمة فى أغلب الأحيان، وسيزداد فهمنا للوضع إذا أخذنا فى اعتبارنا حجم الضرر الآخر الذى قامت الثورات لمقاومته، وسنكتشف لماذا اختار العلماء تحمله باعتباره أهون الضررين، ونقصد به الضرر الواقع على الأمة من استبداد الحكام، فلم يكن للدولة فى زمنهم تلك السلطات الواسعة المهيمنة التى نجدها فى أيامنا، لم تكن الدولة تتداخل مع كل الفاعليات الاجتماعية بالصورة التى تحدث الآن، فظلم الحكام وجورهم كاد أن يقتصر على المسائل المتصلة بالوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها وبعض التجاوزات فى توزيع إيرادات بيت المال، ووظيفة الدولة لم تتجاوز إلا قليلا؛ موضوعات الأمن الخارجى وبعض حوانب الأمن الداخلى، أما باقى الوظائف الاجتماعية، التعليم والصحة والنقل والمواصلات والضمان الاجتماعى ورعاية العجزة.. إلخ، فكانت من المهام الملقاة على عاتق منظمات المجتمع المدنى، وقد أفرزت منها حضارتنا أشكالا راقية قامت بالدور المطلوب بصورة فى غاية التميز بالنسبة للعصر الذى نتكلم عنه، بل قدمت لمجتمعاتها خدمات عامة لم تعرفها أوروبا من الأصل إلا فى عصورها الحديثة، وابتدع أجدادنا نظام «الوقف» العبقرى كى يضمنوا به استمرار مصادر مستقلة ومستقرة لتمويل هذه الأنشطة.. أما التشريع والقضاء فلم يكونا من مهام الدولة، فالتشريع كان واجب الفقهاء وحقهم لا يشاركهم فيه الحكام بأى وسيلة، أما القضاء فلا يتولاه إلا فقيه، غالبا ما يكون على المذهب الفقهى لغالبية سكان الإقليم الذى يتولى قضاءه.. كانت الجماهير تمارس حياتها تحكمها شريعة الإسلام، سواء من حيث التكافل فى تقديم الخدمات العامة وشيوع الجهات الأهلية التى تقوم على الرعاية الاجتماعية، أو من حيث التحاكم إلى القضاة الشرعيين أو المجالس العرفية بمعزل عن أهواء السلطان ورغباته، ولم يكن للحكام – الصالحين منهم والطالحين – علاقة ذات خطر بمعيشة المواطنين.. كان ضرر استبداد الحكام إذن، من وجهة نظر علماء ذلك العصر على الأقل، مما يمكن احتماله، مقارنة بالأضرار المحققة التى تنجم عن حركة خروج مسلح فاشلة، وعن الأضرار الأخطر التى يحتمل أن تتطور إليها الفتنة: الفرقة بين أبناء الأمة.