كان قيام الوحدة بين سورية ومصر في أوائل عام 1958 خطوة حضارية مهمة لم ترحب بها ضمناً الولاياتالمتحدة الأميركية وأوروبا، وكان الخوف واضحاً من امتداد الوحدة الى أقطار عربية أخرى ما يترك اسرائيل في وسط دولة عربية كبرى. وكان من نتائج هذه الوحدة تراجع الاعتداءات الاسرائيلية التقليدية على الدول العربية ومنها سورية ومصر الى 193 اعتداء بعد أن كان قبل الوحدة في حدود 3104 اعتداءات، لترتفع ثانية عام 1965 بعد الانفصال الى 6038 اعتداء.
وتراجعت الهجرة اليهودية الى اسرائيل خلال سنوات وحدة مصر وسورية بنسبة 66 في المئة وفق ما أوضحه الأستاذ أحمد نوفل («الحياة» 6 آذار/ مارس 2008). ونما الشعور القومي الوحدوي في عهد الجمهورية العربية المتحدة في أنحاء الوطن العربي، فقامت الثورة في العراق على الملكية عام 1958 وفي اليمن عام 1962 ضد الإمام، وانطلقت الثورة المسلحة في عدن ضد الاستعمار البريطاني، وساهمت الوحدة في نجاح الثورة في الجزائر واستقلالها. وكانت اسرائيل ومن ورائها أوروبا والولاياتالمتحدة، تقف ضد أي اندماج عربي لأنها ترى أن أي شكل من أشكال الوحدة العربية يهدد كيانها وأمنها على نحو ما قاله رئيس استخباراتها العسكرية بهو شفاط هاركابي ورافق هذا الموقف الاسرائيلي السلبي، تأييد صامت من الولاياتالمتحدة، يتضح من خلال تقرير وكالة الاستخبارات الأميركية CIA بعد الانفصال، وفيه تقرأ خطورة الوحدة العربية على أمن اسرائيل ووجودها، وان بقاءها مرهون بوجود دويلات صغيرة ضعيفة جداً حولها، وهذا ما يعمل له الآن مشروع الشرق الأوسط الكبير من خلال إثارة النعرات الطائفية وبذر الشقاق بين أطراف الأمة العربية تمهيداً لإقامة جزر طائفية تحيط بالدول العبرية ما يضمن بقاءها واستقرارها.
ومن المؤكد أن وحدة سورية ومصر تحت علم الجمهورية العربية المتحدة كانت خطوة حضارية وسياسية مهمة تساعد على التطور الإيجابي والتقدم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي، ولئن عمل الغرب ومن ورائه اسرائيل على تفتيت الوحدة إلا أن طراز الحكم فيها، وهذا أمر داخلي، ساعد كثيراً على تقويض هذا الاتحاد العربي المهم. والنظام الاستخباراتي الذي طغى على الحياة العامة هو المسؤول الأول عن انهيار الوحدة خلال بضعة أعوام، وقد أساء التصرف وزرع عوامل انشقاق الوحدة، وما زال يذكر الشعب السوري طغيان استخبارات عبدالحميد السراج على الحياة العامة، ومن المؤكد أنه لو كان للوحدة نظامها الديموقراطي لما انهارت.
والديموقراطية تعني إلغاء الاستبداد ورد كل قرار فردي والسماح للمعارضة بالعمل على درء الفساد الذي ينتشر دائماً في كل الأنظمة الديكتاتورية، إلا ان الاشتراكية التي تحمل معاني سامية من العدالة الاجتماعية وفق ما يتم في السويد، طبقت من خلال الأنظمة الديكتاتورية على شكل لصوصية يسرق الحاكم الفرد أو أفراد الحزب الواحد الشعب ويوزع الفقر على المواطنين وإلغاء أو تحطيم المعارضة يسمح بإخفاء معالم السرقة والابتزاز واستغلال ثروات الدولة.
ونعرف جيداً أن وظيفة المعارضة في الأنظمة الديموقراطية مراقبة حكم الغالبية وكشف أخطائها للعمل على إصلاحها، إلا أن الحكم الديكتاتوري الذي يفرض السيطرة على وسائل الإعلام ويلغي صحف المعارضة يخاف كشف أخطائه وتصرفاته وابتزازه لأموال الشعب وهذا ما يسمح بالتسلط وانتشار الفساد بأشكاله. ويلازم هذه القسوة في الحكم الفردي هجرة الأدمغة المنتجة مما يعطل التطور الحضاري.
وفي العقود الأخيرة... أخذت الوراثة طريقها في بعض الجمهوريات العربية، وهي شكل جديد من أشكال الحكم الفردي الأبدي، وأهم ما يقدمه هذا التوارث انعدام الخبرة في الحكم العادل الصالح، ومن المؤكد أن الحكم العسكري يفتقر الى الخبرة والمرونة في السياسة، ولذا فإنه يتسم بالجهل والضعف وما يعقب ذلك من أذى وأخطاء قاتلة. وأهم ما قد ينتج من الحكم الديكتاتوري أنه سهل الاختراق من الصهيونية، لذا نراه يسير في خط أعوج مذبذب، حتى أنه قد يقيم علاقات خاصة من تحت الطاولة، في حين أنه يصرخ ضد اسرائيل من فوق الطاولة، وهذا واقع واضح في بعض البلدان.هذا هو الواقع الحزين في بعض أطراف الشرق العربي وهو يفسر التراجع الحضاري الملموس في العقود الخمسة الأخيرة. ووحدة سورية ومصر التي أرادها العرب الباب الكبير الأول للوحدة العربية الكبرى زالت بعد أربع سنين لأنها أصيبت من داخلها بنظام استخباراتي غير ديموقراطي دفعت الكثير من أفراد الشعب الى النقمة والنفور، ما جعل الانفصال سهلاً من خلال تمرد عسكري هزيل.
وكان عبدالناصر زعيماً كبيراً على مستوى عالمي، وأعتقد بأنه لو اتبع نهجاً ديموقراطياً في حكمه، لما تعثرت الوحدة ولبقيت وامتدت، وأذكر أنني قدمت في نادي الضباط في دمشق (21 تموز/ يوليو عام 1960) محاضرة موثقة بعشرات الصور المأخوذة من الصحف العالمية عن المركز العالمي الذي احتلته شخصية عبدالناصر في أطراف العالم، وعن اهتمام كافة الأوساط السياسية في المعسكرين الغربي والشرقي بشخصيته النادرة التي استقطبت الشعوب العربية قاطبة، إلا أن الذي أربكه هو الجهاز الاستخباراتي الذي اقامه خصوصاً في الإقليم السوري والذي قتل الوحدة وسهل الانفصال لتغيب أول صخرة أعدت لتقف أمام الاخطبوط الاسرائيلي الذي أقامه الغرب في فلسطين قلب الوطن العربي. وفي الظروف الحالية، لن يقدر لوحدة عربية متكاملة النجاح والمتابعة، ولا بد من العودة الى محاولة لم يكتب لها النجاح عمل لها رئيس الجمهورية العربية السورية ناظم القدسي في منتصف القرن الماضي، إذ قام بجولة على البلاد العربية ترمي الى إقامة اتحاد عربي يجمع دولاً عربية يتمتع كل منها باستقلال ذاتي وتبقى أمور السياسة الخارجية والعسكرية منوطة بتوجيه اتحاد مركزي، وذلك على غرار ما نراه الآن في الاتحاد الأوروبي الذي يجمع قوميات تتكلم لغات متعددة... في حين أن الشعب العربي يتكلم لغة واحدة ويجمع أغلبه دين واحد.
ويجب أن لا ننسى أن الديموقراطية الشكلية المفروضة التي نرى معالمها بشكل ساخر في بعض الأنظمة العربية، هي شكل من أشكال الديكتاتورية السياسية وهيمنة سلطة تعسفية واعتباطية تسخر من الحريات الفردية والمساواة القانونية والمشاركة السياسية الحقيقية لجميع المواطنين. والواقع السياسي والاجتماعي الذي نشهده في معظم البلاد العربية الذي حمل التأخر والتراجع والانحلال الحضاري في العقود الخمسة الأخيرة، يهدف الى هدر معنى القانون والحق وإقامة العلاقات الاجتماعية على منطق العنف والقوة وهذا ما يؤدي الى منع ظهور قوى واعية ومنظمة بديلة، والى تحطيم أي قوى ناشئة أو ممثلة، والنتيجة تعقيم المجتمع ومنعه من تكوين نخب سياسية يمكن أن تشكل تحدياً في يوم للحكام.
ومن خلال إطار ديموقراطي صحيح، يمكن أن ينتج أي اتحاد عربي يجمع البلاد العربية، وإذا كان الغرب يسعى من خلال مشروعه (الشرق الأوسط الكبير) الى تفتيت الدول العربية الحالية الى دويلات عرقية وطائفية ودينية، فإن مقاومة الشعوب العربية لهذا المخطط ضرورة قومية ملحة، ويتم إفشال هذا المخطط من خلال وعي عربي لا يخترقه نفوذ أجنبي، ويتجلى هذا الوعي العربي من طريق إقامة حكومات ديموقراطية منبثقة من أطياف الشعب، لا تسمح لتغلغل الأخطبوط الصهيوني ان يعطل اتجاهها الصحيح في إقامة اتحاد للدول العربية يسير على مر السنين في خط الوحدة العربية الشاملة، كي لا يتكرر الفشل السريع لتجربة الجمهورية العربية المتحدة التي جمعت سورية ومصر حقبة قصيرة لا تتعدى الأربع سنين.