تتبادل عواصم المنطقة ذات الصلة، معلومات مختلفة تلتقي جميعها عند نقطة واحدة: إسرائيل ستقوم بعدوان واسع على قطاع غزة، وستقوم به قريبا، وسيكون الأكثر عنفا ودموية منذ سنوات طويلة، بل وقد يكون الأعنف في تاريخ المواجهات بين القطاع المحاصر وجيش الاحتلال، والأهم أن العدوان الوشيك، الذي لن يكون آخر العدوانات، أو "المعركة الأخيرة"، سيكون مزيجا من الاغتيالات والاعتقالات وعمليات التدمير المنهجية للبنى التحتية لحركة حماس على وجه الخصوص ولفصائل المقاومة عموما.
العدوان عند وقوعه (ولا نقول في حال وقوعه)، سيتخطى الانتقام المباشر لقتلى إسرائيل الثلاثة في الأيام الأخيرة، إلى تحقيق جملة من الأهداف ذات الطبيعة الإستراتيجية ومنها: (1) كسر ظهر حماس، وشل قدرتها على إطلاق الصواريخ...(2) تصفية أكبر عدد من قادة جناحها العسكري أساسا والمدني في المقام الثاني واختطاف من يمكن اختطافه منهم أحياء...(3) إنهاء ظاهرة تهريب السلاح وتخزينه وتدمير أكبر عدد ممكن من الأنفاق...(4) خلق بيئة مناسبة لإسقاط حكومة حماس وتسليم القطاع من جديد للسلطة.
في ذروة العدوان الأخير (شتاء حار)، لخّص إيهود باراك أسباب رفض إسرائيل لمبادرات الهدنة والتهدئة مع حماس في غزة، في ثلاثة: لا هدنة يشتم من رائحة انتصار من أي نوع أو حجم لحماس، فالهدنة الوحيدة المقبولة إسرائيليا هي الهدنة الأقرب للاستسلام...لا هدنة تعطي حماس فرصة لإعادة بناء قدراتها وتنظيم صفوفها وتسليح وتدريب عناصرها...ولا هدنة تسمح باستمرار تهريب وتصنيع الأسلحة في قطاع غزة. أولمرت بعد عملية ناحال عوز، تعهد بإقعاد حماس وشل قدرتها على إطلاق الصواريخ، وهو بذلك يلتقي مع ما سبق لوزير حربه أن تعهد به، والأرجح أن إسرائيل تدرس الآن بعناية، اللحظة السياسية الأنسب، لتنفيذ خططها الحربية المعدة سلفا لغزة، هل تفعّلها قبل مجيء جورج بوش إلى المنطقة، لتكون احتفالاتها بالعيد الستين للاستقلال (النكبة) احتفالات بالنصر على غزة وحماس كذلك، أم ترجئ المسألة برمتها إلى ما بعد ذلك خشية أن تفضي تداعيات الحرب – وربما مفاجآتها – إلى ما لا تحمد عقباه وتصعب السيطرة عليه.
إسرائيل تواجه في غزة مشكلة مركبة: فهي من جهة، حرب مكلفة بشريا ومثيرة للرأي العام العربي والدولي، وغالبا ما تنتهي بنتائج في الاتجاه المعاكس، وهي من جهة ثانية، تطرح أسئلة اليوم التالي التي لا تتوفر إجابة شافية وافية عليها، فإسرائيل ستواجه بعد صمت المدافع ثلاث خيارات تراوح بين السيئ والأسوأ: (1) العودة لاحتلال القطاع بعد أن خرجت من أوحاله من جانب واحد...(2) تسليمه لسلطة فلسطينية تأتي على ظهر الدبابات الإسرائيلية فينظر إليها من قبل شعبها على أنها سلطة عميلة لن تقوى على الصمود والبقاء...(3) ترك الأمور للفوضى والفراغ وبما سيمسح لحماس أو غيرها من التيارات الأشد تطرفا بالعودة إلى حكم غزة والتحكم بها.
لذلك كله، فإن من المرجح إن تعتمد إسرائيل تكتيك توسيع "الشتاء الحار" والقيام بعمليات تدمير وقصف واغتيال واجتياح، وربما احتلال شريط حدودي لإبعاد الصورايخ وآخر لتدمير الأنفاق، على أن تبقي حماس محشورة في جيوب محاصرة داخل القطاع. المؤسف حقا في هذا المشهد المأساوي، أن طبول الحرب تقرع على غزة، فيما علاقات حماس مع مصر تشهد تدهورا خطيرا، بلغ درجة تبادل الاتهامات والتهديدات، وإعلان الاستنفار المصري على امتداد حدود القطاع، وفيما علاقات حماس مع السلطة في تدهور مستمر، شجّع رئيس حكومة تصريف الأعمال على اقتراح قطع الرواتب عن موظفي السلطة في القطاع ل"تثويرهم" ضد حماس، في ترجمة فلسطينية مقيتة لفلسفة الحصار والعقوبات التي تعتمدها تل أبيب ضد الفلسطينيين، وبتوقيت متزامن قرار إسرائيل وقف تزويد القطاع بالمحروقات.
والخلاصة أن غزة تقترب من محرقة جديدة، وهي لم تدفن بعد أشلاء ورماد ضحايا المحرقة السابقة، ومن دون أن تلوح في الأفق بوادر تشير إلى نية أي طرف عربي أو دولي بذل أي جهد حقيقي لقطع الطريق على الكارثة قبل وقوعها.