ضباب يزحف على سماء المحافظات، تحذير عاجل من الأرصاد بشأن الشبورة المائية    ضباب وشبورة كثيفة.. «الأرصاد» تحذر من الساعات المقبلة    قرار قضائي جديد بشأن المتهم بسرقة سيدة بالعجوزة    جدول مباريات اليوم حول العالم: مواجهات قوية في أوروبا وإفريقيا    البث المباشر لمباراة ليفربول ونوتنجهام فورست في الدوري الإنجليزي    بعد تصديق الرئيس.. تعديلات قانون الإجراءات الجنائية نقلة حقيقية في ملف حقوق الإنسان    أسعار الدواجن والكتاكيت والبيض في السوق المصرية    إدارة الطيران الأمريكية تحذر الطيارين من مخاطر التحليق فوق فنزويلا    «يوميات ونيس».. العمل الذي صنع ذاكرة جيل ورسّخ قيم الأسرة في الدراما المصرية    برنامج «دولة التلاوة» يعيد لمة العيلة المصرية على شاشة واحدة    فلسطين.. جيش الاحتلال يقتحم حي الضاحية في نابلس شمال الضفة الغربية    مباراة العار، اشتباكات بين متظاهرين لدعم غزة والشرطة الإيطالية خلال لقاء فيرتوس ومكابي تل أبيب (فيديو)    بيسكوف: مستوى اتصالات التسوية بين موسكو وواشنطن لم يحدد بعد    رئيس المدينة اكتشفه بالصدفة، هبوط أرضي مفاجئ أمام مستشفى ميت سلسيل بالدقهلية (صور)    ماذا حدث في ليلة ختام مهرجان القاهرة السينمائي؟.. التفاصيل الكاملة    المرأة العاملة| اختيارها يحمي الأسرة أم يرهقها؟.. استشاري أسري يوضح    صافي الأرباح يقفز 33%| بنك البركة – مصر يثبت قوته المالية    من 18 إلى 54 ألفًا.. زيادة تعجيزية تهدد مصدر رزق مزارعي بهادة بالقليوبية    محمد موسى يهاجم الجولاني: سيطرتك بلا دور.. والسيادة السورية تنهار    أبرزها وظائف بالمترو براتب 8000 جنيه.. «العمل» توفر 100 فرصة للشباب    محمد التاجي: لولا تدخل السيسي ل"طبل" الجميع للانتخابات وينتهي الأمر دون كشف التجاوزات    حدد الموعد، رئيس الاتحاد الفرنسي يتحدث عن اقتراب زيدان لتدريب منتخب الديوك    «دولة التلاوة» تعيد الحياة لصوت أول قارئة للقرآن بالإذاعة المصرية    تطورات مثيرة في قضية سرقة عصام صاصا للحن أغنية شيرين    التوقعات السامة| خبيرة أسرية توضح كيف تحول الزواج لعبء على المرأة    استشارية: خروج المرأة للعمل لا يعفي الرجل من مسؤولية الإنفاق أبدًا    عضو "الشؤون الإسلامية" يوضح حكم التعامل مع الدجالين والمشعوذين    مداهمة مفاجئة تكشف الإهمال.. جمعية زراعية مغلقة وقرارات حاسمة من وكيل الوزارة    محلل سياسي عن لقاء السيسي ورئيس كوريا: مصر مركز جذب جديد للاستثمارات    شيكو بانزا يوضح سبب تأخر عودته للزمالك    الصورة الأولى لعروس المنوفية التي لقيت مصرعها داخل سيارة سيارة الزفاف    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الأحد في الدوري الممتاز    مصطفى حجاج يكشف حقيقة الخلاف بينه وبين هاني محروس    مارسيليا يتصدر الدوري الفرنسي مؤقتا بفوز ساحق على نيس    ترامب: نعمل مع لبنان لتحقيق السلام في الشرق الأوسط ونمارس ضغوطًا لنزع سلاح حماس    الجيزة: تعريفة ثابتة للسيارة بديلة التوك توك ولون موحد لكل حى ومدينة    محلل أداء الأهلى السابق: الفريق استقبل أهدافا كثيرة بسبب طريقة لعب ريبيرو    مسئول إسرائيلى: سنحصل على الشرعية لنزع سلاح حماس إذا لم ينجح الأمريكيون    أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. ترامب: ممدانى رجل عقلانى جدا ونتفق فى الغاية وهو ليس جهاديا.. طوارئ فى فرنسا استعدادا لحرب محتملة مع روسيا.. وزيلينسكى عن الخطة الأمريكية للسلام: نواجه لحظة حاسمة    أخبار × 24 ساعة.. السياحة: 1.5 مليون سائح ألمانى زاروا مصر منذ بداية 2025    إعدام كميات كبيرة من الأغذية والمشروبات غير الصالحة بالمنوفية    أحمد حسن يكشف أسباب عدم ضم حجازى والسعيد للمنتخب الثانى بكأس العرب    محمد أبو سعدة ل العاشرة: تجميل الطريق الدائري يرتقى بجودة حياة السكان    صلاح بيصار ل العاشرة: أحمد مرسي علامة كبرى في الفن والأدب السريالي    اكتشاف عجز 44 طن سكر داخل مضرب بكفر الشيخ.. وضبط أمين المخازن    رمضان صبحي أمام المحكمة في قضية التزوير| اليوم    بسبب ركن سيارة.. قرار هام في مشاجرة أكتوبر    11727 مستفيدًا في أسبوع سلامة الدواء بالمنوفية    نصر عبده: إعادة الانتخابات تصحح الصورة الدولية.. ومصر تأتي ببرلمان يريده الشعب    رئيس جامعة المنيا يناقش إعداد الخطة الاستراتيجية للجامعة 2026–2030    جعجع: لبنان يعيش لحظة خطيرة والبلاد تقف على مفترق طرق    عالم بالأوقاف: الإمام الحسين هو النور المكتمل بين الإمامة والنبوة    البابا تواضروس الثاني يلتقي مقرري اللجان المجمعية    شوقي علام حول التعاملات البنكية: الفتوى الصحيحة تبدأ بفهم الواقع قبل الحكم    كيف يؤثر تناول السكر على مرضى السكري وما الكمية المسموح بها؟    «الزراعة» تواصل حملاتها لحماية الثروة الداجنة    جامعة بنها ومؤسسة حياة كريمة ينظمان قافلة بيطرية بمنشاة القناطر    الجالية المصرية بالأردن تدلي بأصواتها في المرحلة الثانية لانتخابات النواب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حواديت "هيكل" قبل الموت
نشر في الشعب يوم 12 - 04 - 2008


بقلم: هشام الناصر
صفة الحواديت ليست ذما وقدحا أو سخرية واستهزاء لأحاديث أستاذنا الكبير "محمد حسنين هيكل" فى تجربة حياته التى يقدم جزءها الثانى على فضائية الجزيرة. فحواديت الأمهات والجدات فى المساء وقبل النوم كانت وما زالت (إن وجدت) هى النطفة الأولى لثقافة صغارها قبل أن تضيق الحياة ويخرجن للعمل تاركات تلك المهمة النبيلة للخادمات والفضائيات ومواقع الإنترنت للطبقات القادرة أو للفراغ وشياطين الشوارع والحوارى للطبقات الفقيرة وما دون الفقيرة. أما كلمة "الموت" فلا تعود للأستاذ (متعه الله بالصحة) وإنما تعود للمخاطر التى ينذرنا بها.
ما نعيبه على أستاذنا الكبير هو تناقضاته مع ذاته فيما يبدو من جوهر عام لأحاديثه ومع ما يحتويه من بعض المفردات خاصة ما يتعلق بإشكالية "أسلمة الصراع" فى معركة القرن المصيرية المسماة "بصراع الأديان" وليس "صدام الحضارات" كما جاء بأطروحة "هينتجتون" وليس أيضا "صدام أو صراع الثقافات" كما جاء لبعض منتقدى الأطروحة.
الأستاذ "هيكل" متشائم، وهو محق فى ذلك، ويرى أن المنطقة العربية متجهة إلى "سايكس بيكو" ثانية يتم فيها (وحسب تعبير احد المثقفين العرب منذ العام 2003) "تجزئة المجزء وتقسيم المقسم وتفكيك المفكك" . ورغم خطورة الأوضاع الحالية فإن "هيكل" يغفلها ويستمر فى عرض حواديته عن تجربته الذاتية مستعرضا فيها إمكانياته المتميزة فيما أسميناه سابقا "بالمنهجية الهندسية" لما تتمتع به من شكل بنائى (بنيوى) متميز والتقيد بالقياس المرجعى سواء أكان على هيئة نظريات وقوانين علمية وإنسانية أو وثائق مادية. ولا يعفى "هيكل" من ذلك بعض إسقاطاته على الأوضاع العربية عامة والمصرية خاصة فى بعض أحاديثه.
سبق وان نعتنا "هيكل" بالمثقف العربى المثالى لما يتمتع به من معايير المثقف الأربعة القياسية وهى القاعدة المعرفية (وليس مجرد المعلوماتية) وآلية استنتاج وإدراكية وهموم بقضية ورؤيا للحل. ولكن "هيكل" خذلنا (!!) وأصبحنا نراه مثل أهل بيزنطة الذين يتجادلون ويتحادثون فى مواضيع شتى ودفاعات المدينة تحترق والعدو على الأبواب. قد تكون غاية "هيكل" نبيلة ولكن الأسلوب أو الطريقة غير مناسبة وهو الأمر الذى يضعه (ونأسف لذلك) ضمن من تحدث عنهم "أبن الجوزى" (!!!!!). فهيكل "مطرقة" كبيرة بعلمه وثقافته وحسن حديثه ومصداقيته ورغم هذا يقوم بمعالجة مسمار صغير تاركا " الخابور الأكبر" الذى يهدد أعيننا وقلوبنا ومصيرنا وحياتنا على غرار ما حدث للشهيد "سليمان الحلبى" قاتل "كليبر" قائد الفرنسيس فى مصر المحروسة.
"هيكل" فى عقده التاسع يقدم إلينا "رسالة الوداع" ونرى فى ابتساماته الهادئة أثناء أحاديثه رضاه عن نفسه وكأنه يقول "اللهم بلغت ..". ونقول للأستاذ "لا" .. لم تقم بعد بالبلاغ ولم تقم بتسخير ما حباك الله من علم لخدمه وطنك وأهلك. وما ننتظره من "هيكل" الكثير والكثير وأهمه حسن تحليل الوضع الحالى وتقديم روشتة للحل وتعبئة الملايين من الجماهير الذين يترقبون حديثه أسبوعيا وتثقيفهم بحقائق الوضع الحالى وماذا يمكن أن يفعلوا لدرء مخاطر "سايكس بيكو" الثانية القادمة والتى نعيش إرهاصاتها الآن فعليا وعمليا. أما أهم الأهم فهو تغيير نظرته لفكرة "أسلمة الصراع" فى مباراة المصير أو بعبارة أكثر دقة وتعبيرا "مباراة صراع الأديان المصيرية" .
للأستاذ "هيكل" أخطاء عديدة عن فكرة "أسلمة السياسة" أو "أسلمة الصراع" – فلا فرق فالسياسة هى علم وفن إدارة الصراع – منها على سبيل المثال لا الحصر"الفصل بين الدين والسياسة" بدعوى أن السياسة "نسبية" والدين "مطلق" وهو ما يتفق ويتسق مع مقولة الرئيس المؤمن (!!) "أنور السادات" – "لا سياسة فى الدين .. ولا دين فى السياسة".
ومنها أيضا "الفصل بين الجهاد والصراع" فى المعركة الحالية التى تخوضها الأمة ضد خطر التقسيم والتفكيك والتجزئة ومخاطر فقدان الأوطان والذات والهوية.
ولعل من أسباب قصور "هيكل" هو عدم استثمار قدراته فى القيام بالدراسة الفاحصة المتمحصة لعلوم الدين الإسلامى رغم اشتهاره بالنهم الشديد للقراءة والبحث والاستقصاء. ولعله أيضا (وهذا من حسن الظن به) أنه قد بنى أحكامه على "التطبيق" وليس "النظرية" – حسب تعبير أصحاب العقائد الفكرية – منذ تحول الخلافة الراشدة إلى الملكية الوراثية.
بالنسبة لإشكالية "المطلق والنسبى" بين الدين والسياسة (وقد سبق الإسهاب فى مقال سابق) فإن الدين ككينونة هو "مطلق" فى ذاته " أى هو المتحرر من أي مرجعية، فهو بذاته مرجعية، يتسم بالجودة التامة والكمال ولا يتأثر بعوارض أو مؤثرات خارجية. أي هو "الصحيح" الذي يؤخذ بكليته أو لا يؤخذ، لا يقبل التجزئة أو التدرج أو التقسيم. وبعبارة مصطلحية، أبيض أو أسود ولا رمادية. أو واحد صحيح أو صفر ولا كسور عشرية. أى لا يقبل التقسيم أو التلوين أو التشكيك وهذا من أساسيات الإيمان ولا نعتقد أن "هيكل" ينكره.
أما الإسلام كحاكمية (منهج وآلية إصدار قواعد وأحكام) وخاصة فى "المعاملات" فالمختص بها في المقام العام هو "الفقه الإسلامي" الذى يأخذ أدلته من مصادر أربعة رئيسية هم القرآن والسنة وإجماع الأمة والقياس الصحيح في إصدار ما يسمي "بالأحكام الشرعية" التي تنتفي حالاتها مع خصائص الإطلاق. بمعني أنها تأخذ نطاقا واسعا ممتدا، صنفه البعض بخمس هم (الواجب والمندوب والمباح والمكروه والمحظور)، وأضاف عليه بعض العلماء تصنيفين أخريين هما (الصحيح والباطل) وهو ما يتحقق بهما الصحة والنفوذ من عدمه. وهناك مصدر خامس هو "الأعراف المتبعة". ووجود القياس والأعراف ضمن مصادر الفقه يعنى وجود العامل البشرى البحت الذى يختلف باختلاف البيئة والثقافة وهو ما ظهر فى اختلاف أحكام للإمام "الشافعى" فى مسالة واحدة عند انتقاله من بغداد إلى القاهرة. ولذا فإن حاكمية الإسلام (كمنهج وآلية إصدار قواعد وأحكام) والمختص بها في المقام العام "الفقه الإسلامي" هو أمر "نسبي" بالتعريف لاستناده إلي مرجعيات خارجية وأتساع نطاقه وشموليته ومرونته التي تتوافق والمتغيرات المجتمعية والظروف البيئية والتغيرات العلمية والتقنية والحياتية.
ومن إعجازات الدين الإسلامى (وهو أمر لا يعييه إلا المتقون) انه سابق دائما لكل زمان. فإشكالية المطلق والنسبى قد تناولها الفلاسفة منذ القرن الثامن عشر ولحقهم العلماء الفيزيقيين فى القرن التاسع عشر. ومن أبرز علماء القرن العشرين هو عالم الرياضيات "لطفى زادة" الإيرانى الأصل الأمريكى الجنسية صاحب " النظرية الفاظية" (Fuzzy Set Theory) الذى يتناول الأشياء فى فئة واحدة ولكن بدرجات متفاوتة تمثل درجات الرمادية بين الأبيض والأسود، فعلى سبيل المثال لا توجد فئة مطلقة ( Crisp Set) تسمى فئة الأذكياء أو فئة الأكفاء يتصف كل من فيها بصفة الذكاء أو الكفاءة المطلقة ولكن توجد فئة يأخذ كل عضو منتميا إليها درجة تتدرج من الواحد إلى الصفر أو من الأبيض إلى الأسود. ومن الواضح انه طبقا لتلك النظرية ذائعة الصيت والمطبقة حاليا ومنذ سبعينات القرن العشرين فى الكثير من العلوم والتقنيات والتطبيقات أن هناك أشياء واضحة وصريحة تمثل بالواحد والصفر أو بالأبيض والسود وهناك تشابهات بين الأشياء تمثل بدرجات رمادية لا يمكن للإنسان العادى تميزها وتحتاج لمتخصصين عالمين وقواعد وأحكام وقياسات لتحديد درجاتها.
وإذا ما أخذنا المعنى الوارد فى الحديث الشريف ""الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشبهات (أو متشابهات) لا يعلمها كثير من الناس" (البخارى ومسلم) - وفي بعض الروايات: "إنَّ الحلال بين وإن الحرام بين" بزيادة "إنَّ" في صدر الجملتين، وهي تفيد التأكيد، نجد أن ما جاء به "لطفى زادة" فى نظريته يتشابه مع ما جاء به الإسلام منذ أربعة عشر قرنا من الزمان.
وما ورد فى الحديث ليس معناه نقصا أو عيبا فيما جاء به الإسلام فكما جاء بالقرآن الكريم " { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } - النحل89 ، وكما قال "أبو ذر" رضي الله عنه: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يحرك جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لنا منه علما".
والمعنى فى الحديث أن هناك أمورا وأشياء شبهت بغيرها مما لم يتبين حكم على التعيين، أو أنها اكتسبت الشبه من وجهين متعارضين وهو الأمر الذى يحتاج لأهل العلم والتخصص (أهل الذكر) للبيان والتبيان – وهى أمور تنفى صفة "الإطلاق" على الأحكام بالعموم .
وإذا ما احتكمنا إلى التعريفات القياسية مثلما يفعل أستاذنا "هيكل" سنجد أن السياسة ليست مجرد "عقلنة الفوضى" أو هى "فن الممكن" فقط فتلك مجرد توصيفات فرعية. فالسياسة هى "رعاية مصالح الخلق" كما يقول أبن خلدون أو هى "علم وفن إدارة الصراع وحل النزاع" أو بتعريف اشمل هى "حسن إدارة شئون المنظومة القومية التى تحوى البلاد والعباد بما يكفل سلامتها وأمنها"، وهى كلها تعريفات جزئية من تعريف الدين الإسلامى الأشمل الذى لم يآت روحانيا خالصا فقط بل آتى جامعا شاملا لكل من الروحانيات والماديات ويعنى أساسا بحسن وجودة إدارة شئون الخلق لحياتهم ومعيشتهم وعلاقتهم مع ربهم ومع ذاتهم ومع كل من حولهم أنسان كان أو حشرة أو جماد أو نبات أو حيوان. لذا فحقيقة الدين وجوهره هو "السياسة" بتعريفها الأشمل والأسمى وليس بتعريف زعماء العصابات والجاهلين والمنافقين.
ولذا فمن ينفى السياسة عن الدين أو ينفى الدين عن السياسة فهو إما يجهل التعريف الصحيح للسياسة وإما لا يفقه فى الدين وإما كلاهما. وما نعنيه هنا هو "الدين الإسلامى" ولا شأن لنا بباقى الأديان التى لا تتصف بما يتصف به.
وقد نجد عذرا للأستاذ "هيكل" فى رأيه الخاص بفصل الدين عن السياسة لعدم التفقه فى الدين رغم موضوعه الممتاز الذى كتبه عن حادثة "سلمان رشدى" وآياته الشيطانية المنشورة فى العام 1988. أما الطامة الكبرى فهى رأيه فى موضوع فصل "الجهاد" عن "الصراع".
فطبقا للتعريف فإن الصراع هو مجموعات متسلسلة من الأفعال وردود الأفعال الإرغامية التى تحدث نتيجة التصادم والتعارض بين طرفين أو أكثر. وتهدف تلك الأفعال إلى إلحاق الخسائر (الأذى والضرر) بالطرف (بالخصم) أو الأطراف المعارضة المنافسة المعادية، مع سعي كل طرف إلى تعظيم مكاسبه وتقليل خسائره على حساب الطرف أو الأطراف الأخرى وتأمين مصادر قوته وأهمها إستراتيجيته (نواياه).
ويعلم "هيكل" جيدا أن الصراع وإدارته يتم تدريسه بطريقة علمية وتقنية عالية فى العلوم السياسية فى الغرب. ومن الأساليب المستخدمة ما يسمى "بنظرية المباريات" (Game Theory) حيث يتم تحديد مجموعة الإستراتيجيات الممكنة واستنتاج واستقراء إستراتيجيات الخصم المحتملة، ويتم حساب الخسائر والمكاسب فى تباديل وتوافيق بأبعاد ثلاثية هى إستراتيجية الطرف الأول وإستراتجية المنافس والظروف أو البيئة. بمعنى لو قمت بأفعال (أ) وقام المنافس بأفعال (ب) فى ظروف أو بيئة (ج) فماذا تكون النتائج من مكسب وخسارة ؟؟؟؟
وفى السياق نتذكر ما قام به الرئيس الأسبق "أنور السادات" من فضح إستراتيجية (نوايا) القوات المسلحة المصرية حينما أرسل برقية فجر السابع من أكتوبر إلى الخارجية الأمريكية يخبرهم فيها بعدم النوايا بتطوير الهجوم وإن هدفه هو إيجاد حل لقضية احتلال إسرائيل لسيناء. وقد طارت تلك البرقية فى سويعات إلى إسرائيل التى تأكدت بعمليات استطلاع وتحليل للموقف أن القوات المسلحة المصرية تقوم ببناء رؤوس كبارى (10 – 12 كم) شرق القناة للتمركز فيها ومن ثم تأكدت صحة عدم وجود نوايا للهجوم تجاه المضايق فقامت بتثبيت القوات المصرية بألوية مدرعة بسيطة وحولت معظم سلاحها الجوى وقواتها المدرعة إلى الجبهة الشرقية (سوريا) وهو الأمر الذى أدى إلى انسحاب القوات السورية من الأراضى المحررة والتهديد بسقوط "دمشق". أى أن القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية قد قام "بفضح" نوايا قواته المسلحة لخصمه وهو ما يخالف ألف باء إدارة الصراعات.
أما تطوير الهجوم لاحقا (12 أكتوبر) فقد جاء فى غير وقته، فالتطوير كان مطلوبا نحو المضايق ولكن فى الزمن المناسب (قدره الخبراء بمساء 6 أكتوبر وفجر 7 أكتوبر)، أما التوقيت الخاطئ يوم 12 أكتوبر فقد أدى إلى خسائر مؤلمة بأكبر واقوى فرقتين مدرعتين تم سحبهما من غرب القناة إلى حتفهما دون غطاء جوى أو صاروخى (مضاد للطائرات) مما جعلهم لقمة سائغة أمام الهليكوبتر الإسرائيلي المجهز بصواريخ مضادة للدروع (للدبابات) وهو الأمر الذى أدى إلى كارثة الثغرة واحتلال "الزيتية" وحصار 45 ألف مقاتل مصرى بالجيش الثالث الميدانى.
وعودة إلى "هيكل" الذى ينفى الجهاد عن الصراع. فمن التعريف السابق للصراع نجد أن على كل طرف القيام بتعظيم جودة حشد وتخصيص قواته كما وكيفا ضد كافة الاحتمالات الممكنة للخصم وفى الظروف المختلفة بهدف أمن وسلامة منظومته القومية وتعظيم مكاسبها وتقليل خسائرها والعكس بالنسبة للعدو.
أما الجهاد فهو وطبقا للتعريف العام " بذل الجهد والطاقة والمشقة فى سبيل مبادئ سامية وأهداف نبيلة". وهذا التعريف صحيح فى الدين الإسلامى بالوضع فى الاعتبار أن المبادئ السامية والأهداف النبيلة هى ما جاء فى الدين وما أمر به الله وخاتم المرسلين.
إذن فإن الجهاد هو الركن الأساسى فى عملية الصراع سواء أكان الطرف الأخر هو "الطبيعة" أم "عدو خارجى أو داخلى" والذى يتمثل فى جودة حشد وتخصيص القوة وببذل الجهد والطاقة والمشقة فى سبيل أهداف سامية هى الحفاظ على العقيدة والهوية والعرض وأمن وسلامة الوطن.
ومن الغريب .. وهو أمر يثير الإستعجاب أن الأستاذ هيكل يعلم جيدا أكثر من غيرة أن الخصم المتمثل فى الكيان الصهيومسيحى يستخدم "الجهاد" فى صراعه مع العالم الإسلامى والعربى.Crusade) وهى حملة الغرب الصليبية على الشرق – حتى الطالب الصغير الذى يريد أن يعبر انه سوف يقوم بالمذاكرة باجتهاد ومشقة فى سبيل تحقيق هدفه السامى بالالتحاق بكلية ما يستخدم نفس الكلمة. فالجهاد فى أدبيات الغرب يماثل تماما عبارة (
رغم الخلاف الظاهر بين الأستاذ "هيكل" والرئيس الأسبق "أنور السادات" إلا أنهما يشتركان فى العلمانية وفى فصل الدين عن السياسة (أو الدولة) – والسادات فضح نوايا القوات المسلحة المصرية فى صراعه مع العدو الإسرائيلى ، والأستاذ "هيكل" يريد أن ينزع سلاحنا الهيبرنووى الذى دعمنا به الله عز وجل .... وهو سلاح "الجهاد" رغم أن عدونا يتسلح به (مع فارق العقائد).
الأمر جد خطير والأمة العربية والإسلامية ذاهبة (رغما عنها) لمعركة المصير .. إنها معركة "نكون أو لا نكون" ... والنون هنا ليست لنا، بل لأولادنا وأحفادنا..
وللحديث بقية ...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.