(1) سألنى بعض الأصدقاء: لِمَ لا تناقش الدستور الجديد.. وتدلى برأيك فيه..؟! قلت: تقصدون الدستور الملّاكى الذى صُنِعَ خصيصًا لتحصين وظيفة الوزير العسكري..؟ قالوا: أيًّا كان رأيك فيه فقد أصبح واقعًا ومطلوب من الشعب الاستفتاء عليه.. وقد كانت لك مقالات كثيرة عَرَضْتَ فيها دستور 2012 عرضًا تحليليًّا مفصّلا ودافعت عنه بقوة..! قلت لقد كان هذا دستورًا حقيقيًّا؛ وضعته لجنة منتخبة من مجلس منتخب انتخابًا شرعيًّا ، وكانت مناقشته مفتوحة أمام الشعب وعلى أوسع نطاق .. و قد أدرك الشعب قيمته و جدارته فصوّت عليه بأغلبية محترمة.. فى استفتاء حرّ نظيف شهد به العالم.. حتى جاء الانقلاب فألغاه وداس على إرادة الشعب.. وسلبه كل حقوقه ومنجزاته الديمقراطية..
ولكن ما يسمونه دستور 2013 ليس دستورًا؛ إنما هو وثيقة عار فى تاريخ مصر.. أحتقر نفسى لو خُضْت فى مناقشته مع الخائضين.. فهو مثل جميع مُنتجات الانقلاب العسكري؛ المعادية لمصر، والمناهضة لشعب مصر، و لكرامته وقيمه ودينية.. فما فائدة مناقشة وثيقة يُراد بها قهر الشعب على الاستسلام لأمر واقع مفروض عليه بالإرهاب و قوة السلاح..؟!
الدكتاتور المستبد لا يلتزم بدستور ولا قوانين على الإطلاق وليس بحاجة إليها؛ طالما هو متحكّم فى كتلة كبيرة من القوات المسلّحة مغيّبة العقل .. ومتحكم فى جهاز أمن دولة له تاريخ أسود فى قمع الأمة ، فاقد للروح الوطنية.. ومتحكم فى قضاةٍ ضمائرهم غائبة .. وفى قبضته عشرات الآلاف من البلطجية وأرباب السوابق يطلقهم كالكلاب المسعورة على ضحاياه .. إنه يحكم بمقتضى مزاجه الشخصي ونزواته المتقلّبة.. ولا يساوى الدستور ولا القانون عنده قلامة ظفر..! إنها مجرّد أدوات يلْهى بها فريقًا من أبناء الشعب كمادة للتنازع والشجار.. ليتفرّغ هو وبطانته لابتلاع مصر وقمع شعبها الثائر على الانقلاب.. وسواء استجاب الناس وذهبوا للتصويت أو لم يذهبوا فسوف يتم تزوير هذا الاستفتاء إذا حدث..
لقد نسي الناس فى غمرة المصائب المتلاحقة بعد الانقلاب.. أن الإعداد لهذا المشهد العبثي كان فى وقت مبكر جدًّا.. فقد فاجأتنا المحكمة الدستورية –دون أن يُطلب منها- بإصدارحكم يسمح لأفراد القوات المسلحة والشرطة بالتصويت فى الانتخابات .. فى ذلك الوقت لم يكن أحد يعلم أن التنسيق كان يجرى على قدم وساق من وراء ستار بين قادة المجلس العسكري ومؤسستى القضاء والشرطة .. الأمر الذى انكشفت أبعاده وأسفرت ملامحه البغيضة عن نفسها، بعد الانقلاب.. ولم يعد خافيا على أحد. لقد عادت منظومة الفساد والاستبداد أسوأ مما كانت عليه فى عهد مبارك ؛ عادت تتحكم فى مصر.. وهي منظومة لا يُتوَقّعُ منها إلا الغش والتضليل والخداع وتزوير إرادة الشعب فى الاستفتاءات والانتخابات إذا أُجريت.. وكل ذلك مرهون باستمرار الانقلاب العسكري.. ولكنه لن يستمر طويلًا ؛ فثورة الشعب الحر كفيلة بإسقاطه.. وهذا ما يعنينى أكثر من أي شيء آخر..
(2)
من عجائب الطبائع البشرية أن يولِّد انعدامُ الثقة بالنفس عند بعض الناس شعورًا متضخمًا بالقوة؛ يغري صاحبه بالطغيان والتألّه على الناس؛ فإذا اجتمع في شخص واحد شعور عميق بانعدام الثقة بالنفس، مع أقصى القوة المادية التى لا ضابط لها إلا إرادته الشخصية، فاعلم أنك أمام كارثة.
فمثل هذا الشخص سيتصرّف -لا محالة- بأسلوب فيه خطر على نفسه وعلى الناس، وعادة ما تتملّكه رغبة جامحة فى أن يبرهن لنفسه قبل الآخرين أنه قادر على كل شيء .. وأنه بقوته المادية يستطيع أن يحقق كل أهدافه.. حتى تلك الأهداف التى تخرج بطبيعتها عن نطاق القوة المادية: مثل إرادة الشعب على التحرر وإصراره على مقاومة الطغيان ورفضه لوصاية العسكر أو أي وصاية أجنبية عليه.. هذا الجانب الروحي فى الشعوب لا سلطان للقوة المادية عليه..
بل إن الإفراط فى استخدام القوة يزيد من اشتعال المقاومة والإصرار على مواصلتها مهما كانت التضحيات.. ولكن العسكري -المسكونة عقليته بتكتيك الانتصارات والهزائم فى المعارك- لا يفهم هذه الحقيقة عن الشعوب؛ فهو يفهم فقط أن هزيمة العدو المادية فى المعركة يستتبعها بالضرورة كسر إرادته واستسلامه لشروط المنتصر.. هي إذن حالة مَرَضِيَّة فريدة تصيب العقل: من أبرز أعراضها: الخلط بين أساليب الحرب ضد العدو الخارجي وبين التعامل مع أبناء الوطن، المخالفين فى الرأي أو المعارضين لسياسة معينة؛ وفى حالة مصر معارضة الإنقلاب العسكري.. ومن الأعراض الأخرى لهذه الحالة المَرَضِيّة: سوء تقدير صاحبها لحقيقة ما يملك من قوة.. ولمواضع استخداماتها الصحيحة، ولما يمكن أن ينتج عن ذلك من آثار؛ حيث تتجافى الحكمة عن مواقفه وتصرّفاته .. ويتضاءل عنده الإدراك الصحيح في حكمه على الأشياء.. كل هذا يفسّر لنا بوضوح: كيف تورّط زعيم الانقلاب العسكري فى عملية خطيرة ألقت بالوطن كله فى كارثة محققة.. وأصابت الشعب بنكسة أعادته للوراء ستين عاما من الزمن.. وكلفت الشعب تضحيات وطاقات كان أولى بها أن تُبذل فى مشروعات نهضته وتقدّمه.. كما يفسّر لنا بشاعة العمليات القمعية التى لجأ إليها قائد الانقلاب؛ مستخدمًا أجهزته العسكرية والبوليسة فى فض المظاهرات السلمية برصاص محرّم استخدامه دوليًّا فى الحروب لأنه لا يؤدّى إلى القتل فقط وإنما يفجر الرؤوس والصدور والأمعاء وهذا نوع من التمثيل بجثث القتلى، تحرمه قوانين الحرب.
ولكن قائد الانقلاب استخدمه وأفرط فى استخدامه ضد أبناء شعبه فى مظاهرات سلمية .. مما يدل على أنه لا يبغى فض مظاهرات أو اعتصامات فقط وإنما يستعرض أقصى مظاهر العنف و الإرهاب لردع معارضيه.. وقمع من تسوّل لهم أنفسهم مخالفة رأيه و عدم الانصياع لأوامره: فأفرط فى القتل وحرْق الجثث والتجريف.. وحرق المساجد وضرب المدنيين العزل بالطائرات العسكرية.. هذا التمادى له أسباب أخرى تُضاف إلى الخلل العقلي.. فليس من المعهود ولا من المعقول أن تُرتكب هذه الجرائم البشعة؛ وهي جرائم ضد الإنسانية -بحكم وصفها فى القانون الدولي- دون أن تثير اعتراضات من الدول الكبرى مثل أمريكا التى اعتادت أن تتشدّق بحرصها على حقوق الإنسان .. ولكن يبدو أن ما يفعله الانقلابيون فى مصرلا يثير اعتراض أحد بل يلقى التشجيع والمكافأة، من قِبل أمريكا وإسرائيل.. ومن أطراف أخرى عربية اللسان والوجه شيطانية القلب، صهيونية الهوى..
وقد ثبت أن هؤلاء ضالعون فى التآمر مع الانقلابيين، ومتفقون جميعًا على هدف واحد: أما الهدف فذو شِقّيْن: الشقّ الأول هو القضاء على ثورة الشعوب العربية التى اكتسبت اسم "الربيع العربي"؛ ذلك لأن نجاح هذه الثورة معناه تقويض عروش الطغيان، ومنعها من نهب ثروات الشعوب لحساب حفنة من الأسر الحاكمة التى استأثرت بالسلطة والثروة..
أما الشِّقُّ الثاني فهو القضاء على ما يسمونه "الإسلام السياسي" ويسميه السيسى "الإرهاب".. هذا الإسلام الذى استطاع إن يصل إلى السلطة عبر عمليات انتخاب ديمقراطية حرّة ونظيفة ، يمثل خطرا على النفوذ الأمريكي والهيمنة الإسرائيلية فى المنطقة العربية.. لذلك يعملان دائما على تكتيف شعوب هذه المنطقة والحفاظ عليها بعيدًا عن الإسلام المقاوم المناضل.. مُكَبَّلة تحت أنظمة حكم استبدادية خاضعة للتبعية الإمريكية- الصهيونية..
تعلم أمريكا وإسرائيل أن استمرار الربيع العربي لن يحدث هذا الأثر التحريري الكامل عاجلًا؛ أي فى غضون خمسة أو عشر سنوات قادمة، ولكنهما لا تضمنان الظروف فيما وراء هذا البعد الزمني.. ولا يمكن أن يسكُتا على هذا التطور الخطير الذى تقوده القوى الإسلامية وفى القلب منها الإخوان المسلمون .. ومن ثم اتحد هدف جميع المتآمرين والانقلابيين على التخلّص من الإخوان المسلمين؛ لا بإبعادهم عن الحكم فحسب، ولكن باستئصالهم من الوجود تماما؛ بالقتل والحرق والاعتقالات وتزييف التهم والمحاكمات الصورية .. يشترك الجميع فى هذا الهدف الاستئصالي بحماس هائل لأسباب مختلفة؛ وقد عرفنا أين تكمن المصالح الأجنبية و ومصالح الأسر العربية الحاكمة..
أما بالنسبة للقوى الداخلية فإنهم يؤمنون بأن استئصال التيار الإسلامي يحقق لكل طرف منهم مصالحه الخاصة : فهو يحافظ على امتيازات بعضهم التقليدية ؛ بما فى ذلك أصحاب الانقلاب العسكري ومن يساندونهم فى القضاء والنيابة والشرطة.. أو يسترد لهم أوضاعهم السابقة فى احتكار السلطة والثروة، مثل أركان نظام مبارك، أو يمكِّنهم من المشاركة فى السلطة مثل السياسيين الذين يئسوا من الوصول إليها عبر الانتخابات الحرة، ولكن تمكّنوا منها تحت أقدام العسكر..
يُعزِّزُ هذه الفئات من الانتهازيين وقُطّاع الطريق جيش من الإعلاميين المرتزقة الذين يبيعون أكاذيبهم وضمائرهم بالنقود المحلّية والأجنبية على السواء .. ولا يمكن أن نغفل الفوبيا التقليدية المترسّخة لدى القيادات الكنسية لأي وجود إسلامي فى الحكم..
وكان التجلى الكبير لتضافر هذه القوى والفئات المارقة واضحًا فى مظاهرات 30 يونية التى أدت إلى الانقلاب العسكري.. ثم فى تجمّع تالٍ دعا إليه السيسى ليحصل على تفويض بفضِّ اعتصامات المعارضين للانقلاب فيما سمّاه ب"الإرهاب المحتمل" والذى تذرّع به ليرتكب المجازر الوحشية التى لم تتوقف منذ 14 أغسطس 2013، ولن تتوقّف إلا بالقضاء على الانقلاب العسكري.. ومحاكمة القتلة..
لن يهدأ الشعب الثائر بحيل وألاعيب ببلاوى ومنصور ولجنة القرود الدستورية؛ فلا يمكن أن تستقيم الأمور ولا أن تستقرّ الأوضاع فى مصر إلا بتقديم المجرمين والقتلة لمحاكمات غير متحيّزة وغير مسيّسة ..أمام محاكم راغبة وقادرة على تحقيق القصاص العادل للشهداء والضحايا.. لايمكن أن تضيع دماء الشعب وتضحياته هدرًا.. ولا يمكن أن يفلت المجرمون من العقاب..! ومن يتصور خلاف ذلك فهو واهم.. واهم.. واهم.. [email protected]