يوم الجمعة الماضي، حين هاجم الشاب المقدسي علاء الدين ابو دهيم معهد تخريج قيادات المستوطنين من الحاخامات المتطرفين، تحولت الى قناة بي بي سي لمتابعة الاخبار مبتعدا عن وسائل إعلام روبرت مردوخ وقبل متابعة التغطية التعبوية لقناة المنار الفضائية. بدأت (بي بي سي)، كسائر وسائل الإعلام الاخرى، ببث الخبر العاجل عن هجوم على مدرسة دينية لليهود في القدس واستضافت مراسلها هناك فلم يكن لديه الكثير. ولان الخبر اصبح ضروريا ان يستمر استضافوا السفير الاسرائيلي لدى بريطانيا الذي يتحدث بلكنة اميركية. وبالطبع غالط السفير مظهرا اسرائيل الوديعة التي تتعرض لهجمات يومية من اعداء السلام. وعادت القناة لكبير مراسليها في الشرق الاوسط، جيريمي بوين، المتواجد في القدس. ولم تكن اكتملت الساعة على وقوع الهجوم، وقبل ان يجيب جيريمي على المذيع حول آخر التطورات رد على مغالطات السفير الاسرائيلي. ثم استطرد شارحا ان ما تعرض للهجوم ليس مدرسة بالمعنى المفهوم وانما معهد لتخريج قادة المستوطنين. ووضع جيريمي الهجوم في سياق العدوان المستمر على غزة وضحايا المذبحة التي ارتكبتها قوات الاحتلال، وتوضيحه لانه احتلال، وراح ضحيتها اكثر من مئة فلسطيني في يومين. وفي عدة دقائق قليلة قام جيريمي بوين بما عجزت عنه جامعة الدول العربية وكل الجهود الاعلامية العربية لمحاولة تصليح مغالطة واحدة مما يسمم به الاسرائيليون أفكار العامة في الدول الغربية. فمجرد استخدام كلمة مدرسة كفيل باستدرار تعاطف غير محدود مع اسرائيل ، التي تتمتع اصلا بتعاطف كبير يغذيه السياسيون الممالئون للاسرائيليين تطوعا أو خوفا من الاتهام بمعاداة السامية. صحيح ان كبير مراسلي بي بي سي لم يفصل في شرح الذي تعرض للهجوم ، ولا اتصور ان المذيع او رئيس التحرير كان سيتحمل استطراده ، لكن يكفي ما فعل. اما مركز هاراف ييشيفا الذي هوجم فليس معهدا يخرج حاخامات الجيش الإسرائيلي فقط، بل معلم من معالم الحركة الصهيونية الدينية ورمز إجتمع فيه تاريخ تأسيس دولة إسرائيل وتحقيق حلم الوطن القومي لليهود. اسس المركز عام 1924 الحاخام الأكبر راف أفراهام كوك. وخرّج في سنواته الأولى القائد الأول لجماعات الأرغن الارهابية العنصرية دافيد رازيل. وبعد موت كوك انتقلت الإدارة إلى ولده الحاخام زفي يهودا الذي شهدت فترة إدارته نقطة تحول في تاريخ المعهد. وتأسست بين جدرانه جماعة غوش أمونيم السياسية الدينية المتطرفة التي كانت رفعت لواء الاستيطان. وشجع كوك الابن على الدفاع عن المستوطنات في الضفة الغربية، وشارك هو شخصيا في هذا الأمر. كان يوم الجمعة ايضا، اليوم الذي حشدت فيه عدة منظمات إنسانية دولية وأغلبها بريطانية لحملة اعلامية للتنبيه الى الكارثة الانسانية في قطاع غزة وتدهور اوضاع سكانه المليون ونصف من الفلسطينيين الى حد لم يشهدوه منذ احتلال عام 1967. لكن قنوات التلفزيون تحولت بسرعة عن ذلك الخبر مركزة على هجوم القدس، وربما حتى لا تتهم بالربط ولو كان غير مقصود بين ما يفعله الاسرائيليون من خنق لغزة وبين هجوم القدس. وسط كل ذلك، وتهليل بقية الاعلام الغربي للضحية اسرائيل، كان كلام جيريمي بوين نموذجا اعلاميا للحيدة والموضوعية ومكافحة التضليل دون انفعال أو عاطفية. وذكرني ذلك بجيل من صحفيي بي بي سي لم يتبق منه كثيرون مثله ومثل جيم ميوار وفيرجس نيكول وغيرهم. اما الجهة الوحيدة التي تبنت عملية القدس، فلم يلتقط منها الاعلام الغربي سوى اسم مجموعتها التي اعلنت تنفيذ العملية وتحديدا مقطع منه. اسم متبني الهجوم كتائب أحرار الجليل، مجموعة الشهيد عماد مغنية وشهداء غزة. ونسي الاعلام غزة وحتى اسم الحركة وركزوا على عماد مغنية، في محاولة للربط بين الهجوم وحزب الله. في صباح ذلك اليوم، الجمعة السادس من مارس، تبنت ذات المجموعة من كتائب أحرار الجليل طعن مستوطن اسرائيلي جنوبي حيفا شمال إسرائيل. ولم يكترث أحد للخبر ، فالمجموعة شبه مغمورة ، وحجم الحادث لا يستحق الكثير من الإهتمام. فمن هم كتائب أحرار الجليل؟ ظهرت المجموعة رسميا للمرة الاولى عام 2003 من خلال تبنيها عملية قتل جندي إسرائيلي ، ثم خطف شابة يهودية من طبريا وقتلها. واعقب ذلك القبض على أحد أعضائها أثناء محاولته قتل جندي إسرائيلي في منطقة الجليل واعترافه بالإنتماء إلى الكتائب. ثم إختفى أثر المجموعة إلى أن ظهرت من جديد مطلع العام الماضي عندما تبنت محاولة قتل مستوطن وخطف سلاحه في أزقة البلدة القديمة بالقدس، والتي قتل فيها احمد الخطيب من الجليل. وقتها قالت الكتائب في بيان لها أن العملية جاءت انتقاما لاغتيال محمد الخطيب في أبريل عام 2004 متوعدة بعمليات لم يسبق لها مثيل داخل الخط الاخضر. والحقيقة ان ما فعله جيريمي هو الذي دفعني للتقصي والسير على ذلك النموذج الاعلامي بحثا وراء بعض الحقائق المجردة لتكوين صورة بعيدة عن الاعلانات السياسية او التغطية التعبوية او ما بين بين ، من محاولة ادعاء الحيدة دون تقديم الكثير على طريقة الاعلام العربي.