صبيحة الأمس، يوم عيد الأضحى المبارك رنت في خلايا العقل ودروب القلب الآية الكريمة:(وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد)، حضرتني الآية بقوة، ولي الشرف في هذا، بخاصة لما تذكرتُ مقولة القائل: إن القرآن الكريم كأنما يتنزل الآن في مصر، ولله دره من قائل. نعم يتنزل القرآن الكريم الآن لو أن القلوب تعي وتفهم، لو أن الأذهان تصفو وتهفو إلى فهم سنن الله تعالى في كونه، تلك التي لا يحابي ولا يجامل، ولا ينحاز، وحاشا له تعالى، إلى مؤمن إن قصر في عمارة الأرض والعمل، ويعطي القوة والتفوق إلى غيره وإن كفر واستهان بالخالق، لكنه عمل بجد واتقان.. سورة الأخدود تبدأ بقسم بعظيم من مخلوقات الله تعالى، وهل أعظم من السماء وقد رفعها الله تعالى بأيد وإنه تعالى لموسع في هذا، كما في آية كريمة أخرى، إن هذه السماء ذات البروج العظيمة، هذه التي حينما تُذكر في تاريخ الأديان إنما ترمز إلى العدالة المطلقة من قبل الخالق تعالى، وهؤلاء الذين شهدت السماء على تعذيبهم، بل نشر أجسادهم، وفصل لحمهم عن عظامهم، هؤلاء أصحاب الأخدود، قيل إنهم كانوا من الموحدين بالله تعالى من النصارى، ممن تمسكوا بدينهم في وقت سابق، في أمم مضت عليها آلاف السنين أو أقل أو أكثر، ليس هذا هو المهم هنا لكن الأهم هو العبرة التاريخية من قراءة القصة كاملة، لا على طريقة (ولا تقربوا الصلاة..).. تبدأ سورة البروج بالمشهد المؤسف لا بهلاك الظالمين، تبدأ بقسم رب السماوات بالسماوات وعظيم خلقها بما فيها من بروج بالغة العظمة، وبما تحمله من دلالات على عظم الخالق تعالى، ومع هذا تجىء الآية التالية:(قُتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود).. عدتُ إلى موقع أخذ من تفسير الراحل الشهيد سيد قطب في الآيات فوجدت المقصود بالبروج الأجرام الهائلة بمجرات النجوم التي تمثل قصور السماء، كما أشاد الراحل بالتنوع الهائل في مفردات السورة في بدايتها مع الإيجاز الشديد وعظم المعاني، أما ما حدث فعظيم، فطغاة الحكام في مغرق أحداث التاريخ من قصة أصحاب الأخدود لم يرضوا عن المؤمنين، وخافوا منهم أن يزحزوهم من أماكنهم في السيادة والنفوذ وبالتالي الاستحواذ على مقدرات الدولة، وكان الحل لديهم حاضراً، شقوا لهم حفرة في الأرض وألهبوها بالنيران، وأُتوا بجموع الناس لتشهد حالة (الطبخ) المريعة، كي يكونوا حضوراً على الاحتفاء الشهواني من الأقذار بالعدالة من وجهة نظرهم، كيلا يتجرأ أحد هؤلاء الشهود على المأساة على أسياده فيما بعد فيحتج أو يتظاهر أو يخفي إيماناً بين جنبيه بالله تعالى أو بقيم السماء من حق وحرية ومساواة بين الناس، مَنْ لا يرى أن القرآن يتنزل الآن ونفهم معانيه من جديد فعليه أن يراجع نفسه بدقة؟.. هل ما يزال يحيا أم مات منه الوعي والعقل والضمير؟.. يجىء متفزلك فيقول لك: ولكنكم تعطلون المرور.. وعفواً للنقلة: حينما تتظاهر ثائراً على اعتقال الآلاف وطهي مثلهم وأصابة أكثر يقول لك المرور، ومثله يقول لك ولكنه مجتمع مسلم، نعم هو مجتمع مسلم، ولا أخوض في عقيدة أحد فهي بينه وبين ربه، عفواً وذلك عهد أخذتُه على نفسي منذ كثير، لكن الحديث الشريف:سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى حاكم ظالم فأمره ونهيه فقتله، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، الحديث لم يقل أن الحاكم القاتل غير مسلم، ولم ينف عنه ولم يثبت بل إن الطبيعي أن يكون الرجل في ظل حكم تابع لأحد أتباع محمد، صلى الله عليه وسلم، والمقصود أن الشهيد لا ينبغي أن يموت بيد كافر العقيدة مستمر على كفره، ولكن هل يقتل القاتل وهو مؤمن؟ أما التعقيب الرباني على الأحداث الرهيبة، على النفوس المريضة، على الذين أطفأوا شمعة فرحة الناس بالعيد، وزرعوا البكاء في البيوت على إخوة إما مزقوا او حرقوا أو قتلوا، كما لم يحدث في تاريخ بلدهم، وكما لم يفعل الأشاوس مع عدوهم الحقيقي، اما التعقيب الرباني على دعاة التحرر لما ينفثون قيح قلوبهم على معارضيهم، لما لا يستطيعون الوصول إلى الحكم إلا عبر الأخاديد تحت الأرض وفوقها، يقتل الأحرار فيها ويسحلوا ويسجنوا ويعتقلوا، أما الآية القرآنية الشديدة الإحكام، ككل كلامه تعالى، (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).. إن الله تعالى لا يقول وما كرهوا منهم، وما حقدوا عليهم، وما حسدوهم، وما رهبوهم، أو غير هذا بل قال تعالى وما نقموا منهم والنقمة، كما أفهم، الحقد والكره والحسد والرهبة لما تجتمع جميعها في القلب حتى لا يكاد المرء يتحمل مجرد التفكير في وجود حياة لمن ينقم عليه.. أما إعجاز الآية التالي فهو:(..إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد).. وكأن مثلي، على تقصيره في جنب الله تعالى، يستمع إلى الآية للمرة الأولى في حياته، إن الله تعالى لم يقل وما نقموا منهم إلا أن آمنوا.. لم يستخدم الفعل الماضي سبحانه وتعالى بل استخدم الفعل المضارع، أي إن الحدث متجدد لمن يفهم، والقصة متكررة لمن له قلب.. أسأل قاتل بلال عمر، أو آلاف الشهداء والشهيدات غيره، حبيبة عبد العزيز، عمار بديع، أسماء البلتاجي، أسماء صقر، وغيرهم ما ضرهم إن لم نحصهم فقد أحصاهم الله تعالى؟.. أسأله لما حرمت أهاليهم منهم ليلة العيد؟ هالة ابو شعيشع، محمد ياقوت، هاني المنشاوي، وهل من اسم ..أي اسم إلا وهناك شهيد به متسماً وقد مات؟ أسأل القاتل يجوب الشوارع يتمخطر بسلاحه ويأخذ المال نظير هتك نفس خلقها خالقه ويملك تدميره، أسأله لماذا قتلتهم؟ واسمع الآية تعرف الجواب..(وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد). ولكن سورة البروج تعلمنا معناً رهيباً للآسف من المصريين من لا يفهمه، ليست الحياة الدنيا بشىء ذي قيمة إن نحن عشناها كما عاشها ما لا يعد ولا يحصى من البشر قبلنا، بل إن قيمة الدنيا في الموت من أجل الغاية والهدف الأسمى، وهو ما وعاه أحمد شوقي رحمه الله تعالى: عش دون رأيك في الحياة مجاهداً إن الحياة عقيدة وكفاح وتكمل السورة المسيرة: عاش أصحاب الأخدود حتى الأبد وخلدهم الله تعالى في كتابه الحكيم بذكرهم ما دامت السماوات والأرض، ومضى على دربهم من المؤمنين ممن صدقوا الله تعالى مئات الآلاف ومنهم أهل رابعة والنهضة، أسأل الله تعالى لهم الرحمة والمغفرة، ولا كانت كلمة حق تحبس في الصدور وقاتل الله تعالى الخوف، وانمحا أثر الظلمة ولم يذكرهم التاريخ إلا بكل سوء .. وبقيت كلمات الله تعالى: (إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدئ ويعيد، وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد). وإن كنتَ لا تريد التصديق إن القرآن كأنما يتنزل الآن فاقرأ: (هل أتاك حديث الجنود، فرعون وثمود، ..) وأكمل من فضلك السورة، أما المؤمنين فقال عنه تعالى في سورة البروج، أيضاً، ومن قبل: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الانهار ذلك الفوز الكبير).. فهل يفهم القوم؟ وإن فهموا هل يتراجعون؟
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق).. صدق الله العظيم.