بارد وصفيق .. هكذا وُصِف جو القاهرة في الأسبوع الماضي حين بلغت درجة الحرارة معدلات غير مسبوقة في الانخفاض، وهكذا يمكن وصف التهديد الأمريكي الأخير بقطع المعونة عن مصر.. رياح الشمال التي هبت علي القطر المصري تسببت في خفض درجة الحرارة لتصل إلي 4 درجات، بخلاف حرارة الترحيب التي قدمتها أمريكا للثورة المصرية بعد أن تأكدت من امكانية الرهان علي قوي الميدان للإطاحة بالنظام الذي استنزف أغراضه الأمريكية.. بارد وصفيق كان الجو الذي اعتدنا وصفه بدفئ ممطر شتاء وكأننا بإزاء تغىُّر مناخي أو كوني يجتاح مصر بعد الثورة لتعصف بالمألوف والمستقر والمعتاد إيذاناً بالتغيير وتناغماً معه.. بارد وصفيق كان تهديد الكونجرس الأمريكي بقطع المعونة الأمريكية عن مصر إثر ملاحقة السلطات المصرية للعديد من مقار الجمعيات الأهلية الأمريكيةبالقاهرة، لتلوّح بعدها أمريكا بضرورة الاستجابة لمطالبها برفع أيدي السلطات المصرية عن هذه الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي انتهكت قوانين الضرائب المصرية بعدم الكشف عن أي دخل أو دفع الضرائب عن الرواتب والمكافآت التي تُدفع للعاملين بها، ممن مكثوا في مصر بتأشيرات سياحية (بناء علي تعليمات أمريكية) وليس بتصاريح عمل وممن احتمي بعضهم بسفارتها في القاهرة ومنهم ابن وزير النقل الأمريكي وممن سترسل لهم موفداً لمصر لحل أوضاعهم الحالية.برودة صقيع تسري في الجو.. ورياح ثورية شديدة تعصف بالبشر في شوارع القاهرة يشعر بها المصريون الذين أفاقوا علي تعقب هذه المنظمات التي تجري استقصاءات واستطلاعات للرأي لا تنشر نتائجها في مصر ولكن ترسلها إلي مقارها في الولاياتالمتحدة متضمنةً قوائم بمواقع الكنائس ومواقع وحدات عسكرية في مدينتي الإسماعيلية والسويس، وهي معلومات تخرج عن اختصاص واهتمام المنظمات غير الحكومية وتدخل في صميم عمل أجهزة الاستخبارات الدولية..بارد وصفيق كان الجو.. وكذلك كان شرط أعضاء مجلس النواب الأمريكي لاستمرار المساعدات لمصر، بأن تقدم ادارة أوباما تطمينات بأن مصر تدمر كل الأنفاق والمعابر التي يتم من خلالها تهريب الأسلحة إلي قطاع غزة ضماناً لأمن إسرائيل.بارد وصفيق أن يأتي التهديد الأمريكي بالتوازي مع ارتفاع العجز الكلي في الموازنة العامة للدولة بمقدار 0.3 نقطة مئوية ليبلغ 73.8 مليار جنيه مقابل 60.4 مليار جنيه خلال ذات الفترة من العام السابق، وذلك لارتفاع المصروفات بنسبة أكبر من الإيرادات العامة.بارد وصفيق أن ىُملي علي مصر ما ينبغي وفق الرؤية الأمريكية وأن تظل تتلقي تهديدات وتوعُّدات من تلك النوعية الأمريكية خاصة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011بارد وصفيق أن تخرج مصر المحتلة من قبل الإنجليز من الحرب العالمية الثانية وهي دائنة لبريطانيا التي كانت تحتلها بحوالي 430 مليون جنيه استرليني وأن يملي علي مصر الحرة اليوم من أي احتلال ما ينبغي أدائه كما تري أمريكا صاحبة النعم والمنح والتي كان سعر جنيهنا يساوي 4,1 دولار أمريكي .. لم يحدث ذلك وقت احتلالنا فما بالنا الآن !!!؟نعم نستطيع .. قالها الرئيس الأمريكي في حملته الانتخابية للرئاسة الأمريكية ونستعيرها منه (حفاظاً علي حقوقه الأدبية) .. نعم نستطيع .. أن نستغني عن المعونة الأمريكية التي يحتاجها الشعب الأمريكي ودافعي الضرائب هناك، أو دولة أخري غير مصر في حاجة لجهود أمريكا ومعونتها لتطبيق الديمقراطية علي الطريقة الأمريكية ولنا في العراق الشقيق أسوة وعبرة ليست بالحسنة ولا السعيدة.لدي حلم قالها الرئيس الأمريكي صاحب المعونة .. ولدينا حلم الاستغناء عنها باستقلال سياسي ومن قبله اقتصادي خاصة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، وقد تحقق هذا الحلم من قبل وقد كانت أجواءا ثورية أيضاً حين تفجرت ثورة 1919 فأفرزت بنك مصر 1920 برأسمال قدره 80 ألف جنيه مصري، والذي نظرمنشئه طلعت باشا حرب للمال كخدمة عامة يساعد في الحفاظ علي الثروة الوطنية وتصنيع البلاد، فلم يجعله بنكاً تجارياً فقط، بل جعل مهمته الأساسية إدخال التصنيع إلي مصر وتشجيع التجارة، في حين نسمع الآن عن اعتصامات العاملين ببنك مصر.ثورة طلعت حرب الاقتصادية أنشأت شركة مصر للسينما في حين أبانت ثورتنا عمن وصفوا الأدب بأدب الدعارة والرزائل .. ثورة 1919 أفرزت حس اقتصادي وطني تمثل في شركات مصر للكتان وحلج القطن وغزل الحرير والصباغة والمصنوعات المصرية في حين نشهد اعتصامات عمال هذه الشركات التي طالما حملت اسم مصر.ثورة طلعت حرب الاقتصادية لم تكتف بالمجال المحلي بل تعدت أحلامها للمجال الإقليمي والدولي فأنشأت بنك مصر سوريا، وبنك مصر الفرنسي، في حين نسمع الآن عن سرقة البنوك الأجنبية بأكتوبر والتجمع الخامس.. ثورة طلعت حرب الاقتصادية أنشأت الشركة المصرية العقارية، في حين تنظر قضايا الآن لاعادة تسعير الأراضي المباعة بمبلغ 50 قرشا للمتر أو بثمن حزمتي جرجير.. ثورة طلعت حرب الاقتصادية نظرت لما تحت أرجلنا من ثروات وأقامت عليها صناعات فأنشأت شركات مصر للورق والطباعة وللصباغة وشركة المصرين للجلود والدباغة، وشركة مصر لمصايد الأسماك وشركة مصر للنقل والشحن، وشركة مصر للطيران وشركة مصر للسياحة وثورتنا السلمية جعلت من يحرم السياحة ويقترح علينا تغليف الآثار الفرعونية بالشمع والملاءات..كانت آخر شركة أنشأها السياسي والمفكر والمحرر الاقتصادي طلعت حرب عام 1940 شركة مصر للمستحضرات الطبية والتجميل ونحن لازلنا نقاوم القبح الذي انفجر في وجوهنا بثورتنا العظيمة المباركة ..اثنان وتسعون عاماً بين 1919 و 2011 شاخ فيها الوجه المصري، وفقدت فيه بهية كثيرا من بهائها، ولم يتبق منها إلا حكمة الخبير وهيبة الشيخ وتجربة طويلة وعريقة من مقاومة الاحتلال الأجنبي والمحلي والتحرر منهما، وجعبة أمل في غد، وتقدير موضوعي للذات والامكانيات ..أتمني أن يعلن مجلسنا العسكري استغناءه عن المعونة الأمريكية .. شاكراً جميلها وعظيم صنعها خلال سنوات المنح، ومتذكراً أثمان دفعت من قوت وكرامة هذا الوطن ومواطنيه.. نعم نستطيع رغم تركة مشاكلنا الكبيرة، ولكن مقدراتنا أكبر إذا ما آمنَّا بأن التحرير الحقيقي ينبع من اقتصاد وطني محرر.. وإذا ما أعلنها المجلس العسكري صراحة باستغنائه عن المعونة سنرد من ورائه عن قطع المعونة الأمريكية .. قطيعة .. قُطْعِت، وقُطْعِت سيرتها .