استدعاء التاريخ في وقتنا الراهن ضرورة متحتمة على مفكري هذه الأمة، والصادقين في تحقيق نهضتها، لا سيما أن أمتنا لها تاريخ كبير مليء بالنماذج التي كانت كالدعائم في النهضة العربية والإسلامية، وهذه النماذج إذا ما أعدنا النظر في قراءتها في وقتنا الحالي تفيدنا كثيرا، فقراءة التاريخ تسهم كثيرا في فهم الواقع، كما أنها تسعفنا بإيجاد حلول لكثير من المعضلات التي يقع فيها البعض، ولا ننسى أن الاستغراق في اللحظة الراهنة قد يشغل الإنسان كثيراً عن النظر إلى حضارته وتاريخه. من بين هذه النماذج التي يتعين على الأمة استحضارها هي سيرة علم من أعلام الفكر الحر هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وقراءة ابن تيمية ليست تعني اتباعه فيما يقول، أو استنساخ نماذج منه، وإنما تعني بالضرورة أن نفهم كيف وصل ابن تيمية لهذه الدرجة الرفيعة بين العلماء، وأصبح هناك إجماع بين محبيه ومبغضيه على سعة علمه وكمال عقله، ونحن هنا في هذه المقالة نبين قليلا من بيان هذه العقلية التي كان ابن تيمية يعيش بها. كانت هناك تيارات مختلفة في عصر ابن تيمية منها تيارات الأشاعرة والشيعة والمتصوفة وغيرهم، كما كانت توجد تيارات مخالفة للإسلام عموما، وكان المذهب الشافعي أكثر المذاهب شيوعا وأشدها التصاقا بالأشاعرة والمتصوفة، أما التيار السلفي فقد كان أكثر معتنقيه من الحنابلة والذي كان ابن تيمية واحدا منهم. كانت في هذا التيار مسائل كثيرة محسومة لا تصح مناقشتها بل هي منبوذة نبذا كاملا، من أكثر هذه المسائل حسماً من قبل الحنابلة هي مسألة النظر في كتب الكلام، فقد اتفق السلف على تحريم النظر في علم الكلام، وكان تحريم النظر يشمل الفلسفة بكل أشكالها، ويشمل كذلك المنطق اليوناني وغيره، وكان كل من ينظر في هذه الكتب يعتبر منبوذا ويهجر لأنه ينظر في كتب أهل البدع. أما ابن تيمية فلم يكن مجرد تابع مقلد يحفظ هذا الكلام وحسب، وإنما أراد أن يفهم، وإذا ما نقد ينقد على علم، لذا درس ابن تيمية كل هذه الكتب دراسة عميقة ولم يقف عند حدٍ معين، ولكن خاض كل هذه العلوم وهو يمتلك في ذلك القلب السليم الموقن بقضيته، والعقل الراجح الذي يستطيع التمييز بين الحسن والقبيح، فالفلاسفة ردَّ عليهم بمنطقهم، والمنطق غالب فيه أرسطو حتى صرعه، ونظرة إلى كتابه "الرد على المنطقيين" تلفتنا إلى مدى العمق الذي كان عنده، ومدى امتلاكه أدوات هذا العلم، كذلك قرأ كتب الشيعة وردَّ عليهم من كتبهم؛ فكتابه "منهاج الاعتدال" رد به على ابن المطهَّر الحِلّي في كتابه "منهاج الكرامة". على أنه من السهل علينا أن نستخرج لابن تيمية مدحاً في كل هؤلاء، وكذلك أن نستخرج القدح، وهكذا البحث العلمي؛ أما من الناحية الفقهية فلم يكن حنبلياً تقليدياً، بل خرج على الحنابلة، ووضع نصب عينيه الكتاب والسنة، وامتلك أدوات الاجتهاد المطلق، وظل يصول ويجول، وينظِّر ويقعِّد، ويفتي ويقرر، لا يضرّه في ذلك من خالفه ولا من وافقه؛ فتارةً مع الظاهرية وأخرى مع الشافعية، حتى اتُّهم بالخروج على الإجماع ومخالفته. ويكفيك مطالعة اختياراته التي جمعها تلميذه ابن عبد الهادي، ومقارنتها بمذاهب السابقين، لكي تكشف لك الجديد الذي أتى به ابن تيمية، وقد دفع ابن تيمية ثمن حريته هذه غالياً إلى آخر حياته، فمات سجينا بقلعة دمشق. كان هذا شيئاً من طريقة ابن تيمية في البحث العلمي، أما عن طريقته في واقعه وفي حياته فقد كان فاعلاً أساساً في واقعه، ويكفي هنا أن نحكي دوره في موقعة شقحب الشهيرة، وقد هاجم التتر المسلمون بلاد الشام، واقتربوا من دمشق، فوقع المسلمون في حيرة لكون التتار من جملة أهل الإسلام، فأفتى ابن تيمية أن هذا من باب دفع الصائل، وقال بأنه جهاد في سبيل الله، ولم يكتف بذلك؛ بل جاء إلى مصرنا هنا لمخاطبة السلطان محمد بن قلاوون وحثِّه على قتال هؤلاء الغزاة المعتدين، كما سافر إلى أمير العرب عيسى بن مهنا وأقنعه بأن يخرج معهم لملاقاة التتر، كذلك جمع أعيان دمشق وذهب بهم إلى غازان نفسه، فلما دخلوا عليه أخذ ابن تيمية يحثُّ غازان بقول الله ورسوله على العدل، ويرفع صوته، ويقرب منه في أثناء حديثه حتى قرب وتلاصق ركبته ركبة السلطان، والسلطان مع ذلك مقبل عليه، ومصغٍ لما يقوله، حتى قال ابن تيمية للترجمان: "قل لغازان: إنك تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بدا لنا، فغزوتنا وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت وجُرت"، ومع أنه حصل على وثيقة أمان من غازان إلا أن التتار نقضوها واستمروا في نهب المدينة عدا القلعة، وقد دعي نائبها إلى تسليمها، فصمم على عدم تسليمها إليهم وبها عينٌ تطرف، وكان ابن تيمية قد أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك: "لو لم يبق فيها إلا حجر واحد، فلا تسلِّمهم ذلك إن استطعت". والخلاصة أن عالماً بحجم هذا الرجل استطاع أن يكسر قيوداً كانت مفروضةً على كثيرٍ من سابقيه، ويكفي أن نقول أن كثيراً من فتاوى ابن تيمية التي اعتبرت شاذة في حينها، وسُجن لأجلها، هي ذاتها التي انتشرت وذاعت بين الناس، وكانت ملجأً وملاذاً لمعضلات؛ كمسائل الطلاق وغيرها، كما كان منغمساً في واقعه، صانعاً لأحداث التاريخ، ومحرِّكاً لمجراه، وما اكتفى بأن يشاهد ويراقب من بعيد، ثم بعد ذلك يقرر ويؤصِّل. إن جزءاً كبيراً من الخلل الذي وقع فيه كثيرٌ من دعاتنا هو عدم مشاركتهم للواقع ومعايشته، فخلقوا لهم واقعاً افتراضياً خاصاً بهم؛ فالتأصيلات والتنظيرات الفقهية وفقاً لهذا الواقع الذي حلموا به، ليس هو الواقع المشاهد على الأرض، ولم يدركوا أن هناك فجوة كبيرة بين واقعهم هذا والواقع الذي نعيشه نحن. إن الحلم بمجتمع مثالي ينعم فيه الإنسان بدينه، ويرى فيه حقوق الله وحقوق العباد قائمةً لهو أمرٌ سهلٌ متاحٌ لجميع البشر، العالم منهم والجاهل، وأمنيةٌ يستطيع أن يتمناها أي أحد، والأماني المجردة دائماً هي لغة العاجز، وإنما الصعب في ذلك هو كيفية تحقيق هذا الحلم، ومعرفة السبيل إليه، وهذا الذي يفرِّق بين العالم وغيره، كما يفرَّق بين العالم الحرِّ والعالم المكبل بقيودٍ وأغلالٍ ما أنزل الله بها من سلطان. فابن تيمية لم يكن ملكاً من السماء ولا رسولاً من الأرض، وإنما هو بشرٌ يخطئ ويصيب، ولكنه امتلك الأصول جيداً، وعرف الواقع وعايشه، واستطاع الجمع بينهما، كذلك كانت عنده الجرأة على قول الحق حتى لو كان مخالفاً للسابقين، من دون أن يخشى في الله لومة لائم؛ لذا كانت نهايته أن يموت سجيناً، وعلى يد السلطان الملك الناصر الذي كان من أقرب الناس إليه، وأشدهم محبةً له من قبل، وظلَّت آراؤه بعد موته من أكثر الآراء حريةً في العلماء؛ وهكذا الأحرار. وأخيرا نطرح السؤال للجميع: ما حدث في الثورة المصرية وغيرها، وما خرج من تصريحات كثيرٍ من العلماء والدعاة، من منا استطاع -أو يستطيع- أن يحشد الناس ويقودهم، ويبين لهم ويدلِّل، وأن يكتب التاريخ؛ كما كتبه أمثال هؤلاء؟!