كان يوم الأحد 9 أكتوبر 2011 الماضي هو أسوأ أيام حياتي, أقول حياتي لأنني بالفعل مواطن اختلطت حياته الخاصة بالحياة العامة بشكل يكاد يكون استثنائيا. فقد تفتحت عيناي علي الحياة العامة وعلي السياسة مبكرا في سن السابعة, عندما اعتقل والدي في عام1954 بتهمة الإنتماء للإخوان! ولا أزال أتذكر الكلمة التي ألقيتها في إذاعة المدرسة في سن التاسعة في أحد أيام أكتوبر 1956 ضد العدوان الثلاثي! وأتذكر أيضا حالة الفرح الي أدهشت والدي وأنا أستمع لإعلان شكري القوتلي وجمال عبد الناصر الوحدة المصرية السورية, وأنا بعد لم أكمل الحادية عشرة من عمري! ولا أزال أتذكر حالة الجزع والألم وأنا في الرابعة عشرة أستمع لكلمات عبد الناصر الحزينة في مساء5 أكتوبر1961 متحدثا عن انفصال سوريا عن مصر, وفشل الوحدة! ولا أزال أتذكر الدموع التي ترقرقت في عيني وأنا أشاهد- في العشرين من عمري- علي التليفزيون الأبيض والأسود يوم الجمعة9 يونيو1967 وجه عبد الناصر المنكسر وهو يعترف بالهزيمة القاسية أمام إسرائيل! وكان ولعي بالسياسة هو الذي دفعني للالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية لتكون السياسة ليست فقط هوايتي, بل أيضا دراستي ثم مهنتي وحياتي كلها! وكنت ضمن أول عشرة من طلاب الجامعات يلتحقون بمنظمة الشباب في صيف1965 مع مصطفي الفقي الذي كان في السنة الرابعة- وزملائي أحمد يوسف أحمد, وعثمان محمد عثمان, وعبد القادر شهيب وآخرين. وبعد التخرج من الجامعة ودخولي مجندا للقوات المسلحة في سبتمبر1969, وفي أثناء استعدادي لدخول السلك الدبلوماسي (بضغط من والدي!), اعتقلت عام 1972 بتهمة الانتماء لتنظيم قومي عربي يستهدف الإطاحة بالنظام, وتسبب ذلك- من ناحية- في إنهاء خدمتي العسكرية( لأسباب أمنية!) كما أدي من ناحية أخري- إلي نجاحي في التملص من دخول السلك الدبلوماسي, لينفتح الطريق أمامي لما أحب أن أمارسه فعليا: أي أن أكون كاتبا سياسيا! ثم كان اعتقالي مرة ثانية في1975- فرصة نادرة للتعرف عن قرب علي أفكار الحزب الشيوعي المصري برئاسة المرحوم زكي مراد, واتهمت في حينها بالانتماء إليه. وبعد تلك المعارك, انكفأت علي السياسة (النظرية) بإعداد الماجستير (عن ظاهرة الثورة) والدكتوراه (عن الأحزاب السياسية في مصر). ثم عاد الاتصال بالسياسة العملية مرة ثانية عام 1995 عندما عينت عضوا مستقلا بمجلس الشوري لنصف مدة, أعقبتها مدتان إلي 2010 وفي تلك الأثناء عام 2002- أصبحت عضوا بالمجلس الأعلي للسياسات (وبالتالي عضوا في الحزب الوطني), الأمر الذي لم يستغرق سوي ثلاث سنوات, بعدها قدمت استقالتي منهما عام 2005, وكان ذلك مقدمة لإنشاء حزب الجبهة الديمقراطية مع د. يحيي الجمل, والذي توليت رئاسته في مارس 2008 وفي نهاية 2010, اعتذرت عن عدم قبول عضوية مجلس الشوري, خاصة بعد التزوير الفاضح الذي شاب انتخاباته! ثم أحجمت هذا العام- عن إعادة الترشح لرئاسة الجبهة الديمقراطية. بهذه الخلفية الحافلة, أعود لأكرر بكل وضوح ودقة أن يوم الأحد التاسع من أكتوبر الماضي كان أسوأ يوم في حياتي! ففي مساء ذلك اليوم في حوالي الساعة السادسة, كنت جالسا في مكتبي بالأهرام, عندما تناهت إلي مسامعي أصوات مظاهرة كبيرة هادرة تمر في شارع الجلاء, وكان واضحا أنها مسيرة أو مظاهرة كبيرة للأقباط, احتجاجا علي أحداث قرية الماريناب في إدفو( أسوان) في الجمعة السابقة لها! كانت المظاهرة قادمة من ناحية شبرا وميدان رمسيس, متهجة ناحية ماسبيرو والتحرير. وبعدها بفترة ليست طويلة, تناهت إلي مسامعي أصوات مظاهرة أخري أقل عددا, وهي تهتف إسلامية.. إسلامية, والنصاري فين.. الإسلام أهه!. كانت هي الأخري متجهة إلي ماسبيرو والتحرير! وشعرت بالقلق والجزع للمظاهرتين وتواليهما وسلوكهما الاتجاه نفسه! لقد كنت منتظرا في الأهرام لموعد لي خارجه, وبعدها كان مفترضا أن أذهب للقاء تليفزيوني. غير أنني نزلت مبكرا في حوالي السادسة والنصف لأشاهد في تقاطع الإسعاف وفي المسافة حتي فندق هيلتون رمسيس- المنطقة, وكأنها كانت ساحة قتال, يسودها تراب وظلام وجو كئيب, ومئات من البشر تائهين خائفين, قبل أن تقبل من علي البعد من اتجاه الكورنيش- جماعات تجري بسرعة, لا نعرف إن كانوا جنود جيش أو شرطة أو مجرد أفراد مذعورين يفرون! ليجري كل من حولي ويشدوني لأجري معهم بعيدا, في حين وجدنا حجارة وزجاجات تلقي علينا من بلطجية سرعان ما سادوا المشهد كله بالشوم في أيديهم, وبزجاجات وحجارة يقذفونها لتفريقنا. وعندما مرت زجاجة مكسورة مقذوفة بسرعة علي بعد سنتيمترات مني, لم أجد بدا من الإسراع إلي شارع رمسيس لأعود من ناحية معهد الموسيقي للعودة لشارع الجلاء, ثم العبور إلي مبني الأهرام, في انتظار أن تهدأ الأمور بعد أن ألغيت بالطبع كل مواعيدي. عدت حزينا مكتئبا متشائما! ففي تلك اللحظة, بدت كارثتان تحلان بمصر (لأول مرة في تاريخها الطويل كله!) في وقت واحد, أولاهما وأخطرهما كارثة الانقسام بين مسلمي مصر ومسيحييها, التي تعني في جوهرها تمزيق مصر! ألم تولد الأمة المصرية المعاصرة, عقب ثورة 1919, تحت شعار الدين لله والوطن للجميع؟, ألم يتواكب عاش الهلال مع الصليب مع شعار عاشت مصر؟ أهكذا نستبدل ب بالروح بالدم نفديك يا مصر بالروح بالدم نفديك يا صليب, ونفديك يا إسلام؟, أهكذا نستبدل ب بالمصريين أهمه النصاري فين الإسلام أهه؟ هل نسينا أننا نفخر, ونفاخر العالم, بأن بلادنا كانت مهبطا ومهدا للديانات الثلاث, وليس فقط المسيحية والإسلام؟, أليست مصر هي التي احتضنت المسيحية في أيامها الأولي, وشهدت ربوعها رحلة العائلة المقدسة؟, أليست مصر هي التي فتحت ذراعيها للإسلام, لتصبح بأزهرها, وطابعها المعتدل- منارة العالم الإسلامي كله من المغرب إلي إندونيسيا؟ لقد تبخر هذا كله يوم الأحد الحزين, الذي لن أنساه أبدا. غير أن بلاء الانقسام بين أشقاء الوطن الواحد واكبه للأسف انقسام آخر لم ولن تعرفه مصر أبدا- بين شعبها وجيشها. ففي المنطقة المحيطة بمبني التليفزيون( منطقة ماسبيرو), تلاقي الجمعان في حضور الجيش, وسط حالة من الفوضي الشاملة, وأطلقت أعيرة نارية, وانطلقت السيارات المدرعة وسط المتظاهرين. وبالرغم من نفي الجيش الرسمي إطلاق أفراده لأي نار, فإن عدم التعامل الكفء والفعال مع الموقف يجعل الجيش مسئولا عن جزء كبير ما جري. أليس هو السلطة القائمة فعليا الآن في مصر؟ لقد كانت تلك ضربة أصابت الصورة المشرقة التي ارتسمت لجيش مصر, منذ أن وقف بحسم في صف الثورة. يالها من نكسة فادحة! هل كان يتصور أعدي أعداء مصر أن تصل الأوضاع فيها إلي ذلك الاستقطاب. هذا موقف دقيق وحساس يستلزم أقصي درجات الحكمة والحياد, بما يعني ضرورة إنجاز مهام تقصي الحقائق بسرعة, وإعلان نتائجها, والاعتذار الشجاع عن أي نواح للتقصير أو التجاوز. وفي واقع الأمر, فإن تجاوز الجيش تلك الأزمة ينبغي أن يستتبعه طرح المجلس الأعلي للقوات المسلحة خريطة طريق واضحة نحو بناء الديمقراطية واستعادة الحياة الطبيعة في مصر. ويقينا, فإن تلك مهام لا يمكن أن ينفرد المجلس الأعلي بانجازها, وإنما بالتشاور مع كل القوي السياسية المدنية المعنية علي أسس محددة واضحة: فهذا التشاور ينبغي أن يتم مع كل القوي المدنية ذات الوجود الحقيقي والفعال, وليس علي أساس بيروقراطي شكلي. وهذا التشاور ينبغي أن يتم علي نحو دوري ومنظم, وليس بشكل عرضي أو انتقائي, لمواجهة موقف أو الخروج من أزمة. وهذا التشاور ينبغي أن يتناول بدقة وموضوعية وتجرد كل متطلبات وآليات التحول الديمقراطي المنشود في مصر, بدءا من وضع الدستور الجديد الدائم, وانتخاب رئيس الجمهورية, وحتي ترتيبات الانتخابات العامة في مصر, والضمانات الجادة لنزاهتها وسلامتها (ولا أزال عند رأيي الذي أصر عليه بضرورة تأجيل الانتخابات التشريعية, حتي يتوافر الحد الأدني من الأمن, والاستعداد المتكافئ لها من كافة القوي السياسية). تلك خطوات أساسية, ليس فقط للعودة إلي حياة طبيعية ديمقراطية في مصر, وإلي عودة الجيش المصري إلي ممارسة دوره الأساسي المقدس للدفاع عن الوطن, وإنما أيضا إلي إنعاش الاقتصاد المصري, وتعويض المواطن المصري, البسيط والصابر, عن معاناة طال أمدها. نقلا عن الأهرام