اتاحت ظروف عمل المفكر والكاتب الكبير عبده مباشر في بلاط صاحبة الجلالة لأكثر من نصف قرن فرصا للاقتراب من رؤساء مصر الثلاثة ناصر والسادات ومبارك.. وعن الظروف والاسباب يكتب مجموعة من المقالات يكشف فيها الكثير من الاسرار والخفايا التي كانت تجري في الشارع الخلفي بعيدا عن الأضواء.. وعلي هذه الصفحة تنشر "المساء الأسبوعية" مقالات الكاتب الكبير. أمام أحداث يونيه 1967. قررت قطع الدراسة والعودة من برلين إلي القاهرة في منتصف شهر يونيه لتحمل مسئولياتي كصحفي وكمواطن في هذه المرحلة التي تعاني فيها مصر من هزيمة عسكرية مروعة. وكنت أشعر ببعض الرضا لأنني قمت ببعض واجبي تجاه بلدي. حيث نظمت حملة تبرعات بالاشتراك مع عدد من الزملاء الدارسين بألمانياالشرقية. وصلت حصيلتها إلي 2 مليون مارك ألماني غربي. تحولت إلي حمولة طائرة من المعدات والأجهزة الطبية. وبعد العودة وجدت نفسي أمام مجموعة من المهام في مقدمتها مواساة أسر الشهداء من الأقارب والأصدقاء والمعارف وزيارة الجرحي الذين تربطني بهم علاقات صداقة أو عمل. ثم محاولة طرق أبواب المعلومات لمعرفة ما يمكن من حقائق ما جري. وزرت عدداً كبيراً من أسر الشهداء وجاء الدور لزيارة المستشفيات والالتقاء بالجرحي والمصابين. ولأن علاقتي كانت وثيقة باللواء كما حسن علي قائد اللواء الثاني المدرع خلال المعركة منذ التقيت به أثناء تحمله لمسئولية رئيس عمليات القوات المصرية باليمن طوال الفترة من 1963 وحتي عام 1965. وتواصلت بعد أن انتقل للعمل كمدير لمكتب الفريق عبدالمحسن كامل مرتجي ليكون قائد القوات البرية. فقد قررت أن أبدأ زيارته في مستشفي المعادي للقوات المسلحة. ولقيادة القوات البرية حكاية تتطلب التوقف أمامها. فبعد أن أصدر الرئيس جمال عبدالناصر قراراً بتعيين الفريق أول محمد فوزي مدير الكلية الحربية لسنوات طويلة. عينه رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة. ومن بين مسئوليات هذا المنصب قيادة القوات البرية. ومثل هذه المسئوليات في ظل الشكوك والعلاقات المتوترة بين كل من الرئيس ناصر والمشير عامر. تثير مخاوف المشير ومعسكره لأنها ستؤدي إلي الإخلال بالتوازن الهش بين الرجلين. وكان الحل الذي توصل إلي المشير ورجاله هو حرمان محمد فوزي من السيطرة علي القوات البرية بكل تشكيلاتها. بإنشاء قيادة للقوات البرية. مماثلة لكل من قيادة القوات الجوية. والبحرية.. واختيار المشير الفريق عبدالمحسن كامل مرتجي قائداً لهذه القوات. هكذا كانت تصدر القرارات وللقضية خلفيات أخري. فالفريق فوزي قريب لسامي شرف مدير مكتب الرئيس. والرجل القوي بالرئاسة. أي أنه سيكون القائد العسكري الموالي تماماً للرئيس ولن يكون أبداً من رجال المشير عامر. ومثل هذه القرابة وهذا الاختيار كانا من أهم أسباب التوجس التي اعترت المشير ودفعت للتحرك لإحباط المخطط وحرمان عبدالناصر من أي قوة أو قيادة عسكرية يمكنه الاعتماد عليها. وخلال الأسبوع الثالث من يونيه. قمت بزيارة كمال حسن علي. كان الرجل قد أجريت له جراحتان ناجحتان وفقاً لتوصيف الدكتور عبدالحميد مرتجي مدير المستشفي الذي التقيت به أولآً. كما أخبرني الرجل أن حالته الصحية جيدة ومطمئنة جداً. وسرعان ما سيعود لمباشرة عمله. ولم ينس أن يقول لي إنه القائد الأعلي رتبة بين الجرحي والمصابين الموجودين بالمستشفي. وعندما دخلت حجرته. فوجئ بحضوري. ولم يكن يعلم أنني سافرت إلي ألمانيا للدراسة. وسأل مستفسراً: أين كنت مختفياً؟!.. فقلت لنبدأ بالاطمئنان عليك أولاً. وعلي حالتك الصحية. فقال: لقد نجوت من موت محقق. سواء أثناء المعركة أو بعد الإصابة أو أثناء الانتقال إلي مستشفي الهلال بالسويس. كانت رحلة عذاب وآلام لا تحتمل. وقصصت علي الرجل قصة سفري إلي ألمانيا للدراسة. وأنني قطعت البعثة الدراسية وعدت منذ أيام. ورويت له كيف كنا نتابع الأنباء من خلال الصحف والإذاعات وقنوات التليفزيون الألمانية. وطلبت أن أسمع قصة إصابته. فأخذ يحكي منذ لحظة التحرك بقواته إلي قلب سيناء حتي لحظة إصابته في بطنه يوم 8 يونيه.. وقال: كان الأمر مأساة تقترب من حدود الملهاة. فقد بلغ عدد المهام التي كلفت بها ما يقرب من 15 مهمة. وظللت أتحرك بقوات اللواء علي الجنازير لأيام متواصلة دون أي راحة. أو استقرار لأكثر من ساعات. وأحياناً لدقائق.. كل شخص يمضي بشكل عشوائي. لا خطط عمليات واضحة. ولا يوجد هدف محدد دفاعي أو هجومي لدي القيادة تجري التحركات في إطاره. كنت أتسلم المهمة. وأتحرك بالقوات. وما أن أصل حتي أتسلم مهمة أخري. فأواصل التحرك حتي نصل إلي المنطقة المطلوبة. وتبدأ القوات في الانتشار واتخاذ مواقعها. ثم نفاجأ بمهمة جديدة. وهكذا. جبنا سيناء شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. وقد قطعت وحدات اللواء أكثر من خمسمائة كيلو متر خلال عدة أيام. ثم يقول: لقد بدأت قوات العدو البرية المدرعة في الظهور خلال اليوم الثالث للحرب بعد أن تمكنت قواته الجوية من إخراج القوات الجوية المصرية من المعركة صباح يوم 5 يونيه. ومن إسكات وتدمير وسائل الدفاع الجوي. وبعد أن تأكدت القيادة الإسرائيلية من انتشار الفوضي بعد صدور أمر الانسحاب وضرورة تنفيذه خلال 24 ساعة. ويعلق كمال حسن علي: إن الأمر يعد تجسيداً نموذجياً لتخبط القيادة. أما تنفيذه فهو المستحيل. وكانت النتيجة أن القوات تركت أسلحتها وبدأت تتجه غرباً علي الأقدام لعدم وجود طرق تكفي تحركات عودة هذه القوات التي استغرق حشدها ما يقرب من ثلاثة أسابيع. وفي ظل هذه البعثرة الهائلة للقوات. أخذت القوات البرية الإسرائيلية تتقدم باتجاه القناة. ويوم 8 يونيه. كان اللواء يتخذ مواقعه بممر الجدي. حين لاحت بوادر معركة مع القوات المدرعة الإسلائيلية. وفعلاً بدأ الصدام في ظل ظروف غير مواتية إطلاقاً لقوات اللواء الثاني المحروم من المظلة الجوية. والموجود في العراء في الصحراء. وبالرغم من الإنهاك وهذه الظروف. تمكنت قوات اللواء من تدمير 6 دبابات وعربة مدرعة خلال لحظات المعركة الأولي. في حين لم تخسر سوي دبابتين. بعدها قررت القيادة الإسرائيلية الخروج من هذه المعركة لإفساح المجال للقوات الجوية لكي تقوم بدورها في الهجوم علي دبابات اللواء وعرباته المدرعة. ويصف القائد المعركة بالنقطة المضيئة في تاريخ سلاح المدرعات المصري بصفة خاصة. والقوات المسلحة بصفة عامة. وعن إصابته قال: كنت أتحرك بالسيارة. عندما تعرضت لقصف جوي. وأدي سقوط صاروخ جو أرض وانفجاره بالقرب من السيارة إلي انقلابها. وإصابتي بجرح في البطن. شعرت به في الحال. وقد ظللت راقداً علي الأرض لما يقرب من 20 دقيقة إلي حين وصول قائد إحدي الكتائب بسيارته. وقبل نقلي للعلاج حاول فك الحزام. إلا أنني رفضت ذلك لأنني سبق أن قرأت في أحد الكتب أنه يجب الاحتفاظ بالحزام مربوطاً في حالة الإصابة حتي لا يزداد النزيف الداخلي. وكان هذا الرفض سبباً في بقائي علي قيد الحياة. أما الرحلة إلي السويس. فقد كانت محنة وعذاباً وألماً. فكل صعود أو هبوط للسيارة يضاعف من حجم الألم. ولم يكن الطريق ممهداً. ولا آمناً. فقد كنا نتحرك تحت سماء سيطرت عليها القوات الجوية المعادية. وانتهت الرحلة بالسويس. بعدها تم نقلي إلي هنا. وأخذ يسأل عن ألمانيا وعن أسلوب معالجة الإعلام هناك للمعركة. وراعيت الاختصار بقدر الإمكان وأنا أقص عليه قصة حملة التبرعات التي بدأت بعد أن قرأت إعلاناً علي مدخل أكبر المراكز التجارية ببرلين يدعو الألمان للتبرع بمارك لقتل عربي: "ادفع ماركاً.. تقتل عربياً".. توقفت أمام قصة المنشور البعثي.. وقلت له: إن مجموعة من الدارسين كانت تضم شخصيات رئيسية من حزب البعث السوري. ومن خلال الاحتكاك المباشر توثقت العلاقة بيني وبين بعضهم. وأمام الثقة التي ربطت بيننا. قدم لي أحدهم منشوراً صدر في سوريا في نهاية صيف عام ..1966 كان المنشور يقول بوضوح إن عبدالناصر قد انتفخ وتضخم كالبالون. وأنه قد آن الأوان لإفراغ هذا البالون من الهواء لكشف حقيقته للرأي العام في العالم العربي. وكان منطقياً أن أصاب بالفزع والصدمة. وأن أستنتج أن المنشور يكشف أن حزب البعث السوري قد انتهي من حبك مؤامرة تستهدف إما القضاء علي عبدالناصر. أو تحجيمه أو تشويه صورته جذرياً بطريقة تنزع عنه هيبته وحالة الزعامة التي تحكم قراراته وتصرفاته. وكان لابد من إرسال المنشور للرئيس عبدالناصر. علي أمل أن يعالج الأمر بما يؤدي إلي إحباط هذا المخطط. أو هذه المؤامرة. وقد أرسلته فعلاً خلال شهر مارس .1967 وبعد تصاعد الحديث عن حشود إسرائيلية عسكرية مدرعة علي الحدود السورية. وزيادة حدة التوتر في المنطقة. تضاعفت خشيتي من أن تكون المؤامرة البعثية قد وجدت حلفاء. وأن ما يجري هو المقدمات. وبعد اندلاع الحرب. ظهرت الصورة واضحة إلي حد كبير. وقال الرجل: يبدو أنك كنت من أوائل من دقوا أجراس الإنذار. وربما لا تعلم أن هناك جهات كثيرة وشخصيات مهمة متعددة. قد دقت أجراس الإنذار طوال الفترة التي سبقت اندلاع الحرب. ولكن القيادة بدا وكأنها لا تريد أن تسمع. وتوقف كمال حسن علي ليخبرني أن السيدة جيهان السادات قد زارته. وقضت وقتاً طويلاً معه. وقال إنه تحدث معها بصراحة ووضوح وكشف لها كثيرا من الحقائق التي عرفها أو عاشها. وقص عليها تجربته طوال أيام الحرب. وهنا دخل الطبيب الجراح الحجرة ومن ورائه عدد من مساعديه لتغيير الضمادات. فغادرت الغرفة للانتظار في الصالون الملحق بها في انتظار انتهاء الطبيب من مهمته. وما هي إلا لحظات ورأيت أنور السادات رئيس مجلس الأمة في ذلك الوقت يدخل الغرفة. وقلت له وهو يصافحني: إن الطبيب يقوم بتغيير الضمادات. ولم يمنعه ذلك من مواصلة طريقه. وبعد ترحيب القائد بالسادات. توجه بالرجاء للطبيب بالعودة فيما بعد لمواصلة مهمته. وطالت مدة الزيارة إلي أكثر من ثلاثة أرباع الساعة. بعدها طلب السادات أن أنضم لهما. وسألني السادات عن حكاية المنشور البعثي الذي أخبره كمال عنه. فحكيت له الحكاية بكل تفاصيلها. فقال: إن جمال حدثه عن منشور بعثي يهاجمه. أرسله له صحفي مصري يدرس في ألمانيا. ولم يخبرني أنك من أرسلت إليه هذا المنشور.. ولا أدري لماذا؟!.. فقد سبق أن حكي لي عن قصة لقائك بالملك فيصل. ووصف مواجهتك للشيخ كمال أدهم مدير المخابرات السعودية وشقيق زوجة الملك. وللأمير عبدالله الفيصل. أكبر أبناء الملك.. بالشجاعة الأدبية. وعبر عن رضائه عن أسلوب إدارتك للحوار الصحفي مع الملك فيصل. وقال: إنك صحفي فاهم شغله. ثم عقب قائلاً: إنه بالقطع لديه أسبابه. فتساءل كمال حسن علي قائلاً: وهل توقعت سيادتك أن يتحدث سيادة الرئيس عن منشور وصفه بأنه كالبالون؟! ولم يكن ممكناً الاستمرار في الحديث عن المنشور البعثي. والرئيس عبدالناصر أكثر من ذلك.. فاتجهت بالحديث إلي ناحية أخري. وعدت إلي ما أخبرني به القائد عن المعركة التي خاضها ضد القوات المدرعة الإسرائيلية في ظروف غير مواتية. ومع ذلك أرغمته علي الخروج من المعركة. فقال السادات: إنها معركة مشرفة. وعندما سمعت عنها رأيت أن أسمع تفاصيلها من قائد المعركة شخصياً. ثم توقف وقال مخاطباً كمال حسن علي: يا كمال.. إن هذه المعركة هي عنوان للثقة بالنفس وبالقوات المسلحة. لقد تم استدراج مصر إلي مجزرة عسكرية. ولكن هذه المعركة وما يماثلها من مبادرات شجاعة علي امتداد الجبهة أنقذت شرف مصر والعسكرية المصرية. كما أنها ومضات الأمل التي انبعثت في ليلة حالكة الظلام. لتنير لنا الطريق إلي الغد. وكان بذلك. كأنه يفكر بصوت عال. ولكن هذه الإشارات المبكرة كان من الصعب قراءتها. كانت مفهومة في ضمير المتحدث. وتعمل علي تشكيل وصياغة تفكيره. وعندما هم السادات بالانصراف. استوقفه كمال حسن علي. وطلب منه أن يخطط للمعركة المقبلة أهل الخبرة من العسكريين المحترفين المتعلمين. لا أهل الثقة أنصاف الجاهلين المتعالين. كانت كلمات شجاعة. استمع إليها السادات بكل كيانه. وإن لم يعقب أو يرد. ومضي في طريقه.