الأفلام التي فازت بجوائز مهرجان كان في دورته التي انتهت يوم الاحد الماضي "27 مايو" ليست مفاجئة. فقد كانت هي الأفلام الاعلي تقديراً بشهادات النقاد المنشورة في الصحف اليومية الخاصة بالمهرجان. المفاجأة ربما كانت حصول المخرج المكسيكي كارلوس رايجاداس علي جائزة أحسن إخراج عن فيلمه "بوست تينبراس لوكس" فالفيلم لم يكن من بين الأعمال التي أثارت الإعجاب بدرجة تنبئ عن الفوز وإن كان تجربة تستحق الفرجة بلاشك. لم يحصل الفيلم المصري - الفرنسي "بعد الموقعة" علي أي جائزة ولكنه قوبل بحفاوة بالغة من الجمهور. وكذلك لم يحصل الأمريكيون بأفلامهم الستة المشاركة داخل المسابقة الرسمية علي أي جوائز. ومنها فيلم جميل كان يستحق جائزة للطفلين الذين قاما بالبطولة وأعني فيلم "Hud" للمخرج جيف نيكلوس. وكذلك لم تحصل افلام أخري قوية إخراجا وتمثيلا علي أي جوائز مثل الفيلم الفرنسي "صدأ وعظم" للمخرج جاك أوديار وبطلته ماريون اوتيار التي لعبت دوراً ممتازاً جدا في هذا الفيلم ولم تفز بجائزة. ففي مهرجان مثل "كان" هناك القوي والأقوي منه. وهناك العمل السينمائي الممتاز والأكثر امتيازاً. لا يوجد فيلم ضعيف فنياً. وانما يوجد حدود للمستوي الفني لا يمكن التنازل عنها في مسابقة أكبر مهرجان سينمائي في العالم وحتي في المجاملات. لو كان هناك من يري ان اللجنة انحازت للفيلم الايطالي "واقع""reality" ومنحته الجائزة الكبري نظراً لوجود المخرج الايطالي ناني موريتي علي رأس لجنة التحكيم. أقول حتي المجاملات لا تقدم ابداً لعمل لايستحق فمن الجائز ان يكون من بين الاعمال المتسابقة من هو أحق. ولكن وجهة نظري الشخصية ان فيلم "واقع" من الأفلام التي تجمع من هارمونية جميله بين الترفيه والرسالة والأداء الممتاز والمتعة الفنية فعلا. ما أريد ان أقوله ان مجرد الاشتراك في المسابقة الرسمية للمهرجان يعد انتصارا للسينما المصرية. واعلانا عن وجود صناع للفيلم قادرون علي التنافس مع كبار المخرجين في العالم. مفاجآت أخري وفي المهرجانات الدولية الكبري مثل كان تحدث مفاجآت من نوع مختلف مثل صعود الدول التي لا تعتبر في المقدمة بالنسبة لصناعة السينما ومنها رومانيا إلي مرتبة الدول الكبري الجديرة بالفوز وانتزاع التقدير من جميع النقاد الذين يغطون اعلاميا هذا الحدث الثقافي الفني العالمي الذي يجعل من "كان" المدينة الصغيرة مكاناً تتجه إليها كاميرات العالم.. وبالمناسبة "كان" ليست فقط مدينة أهم مهرجان للسينما. وإنما بعد أيام قليلة يبدأ مهرجان آخر عالمي ومهم أيضاً هو المهرجان الدولي لافلام الاعلانات أي للافلام الدعائية وتشارك فيه جميع شركات الاعلان في العالم ولا يقل صخباً واضواء وأهمية عن مهرجان كان السينمائي بالبنسبة لسكان المدينة وتتم فعالياته داخل "قصر المهرجان" علي شاطئ الكروازيت أي في نفس القصر الذي استضاف مهرجان "كان". وهناك مهرجانات أخري دولية عديدة تقام طوال السنة لاشكال مختلفة من النشاطات تحول المدينة إلي مركز تجاري وسوق كبري لأهم السلع التجارية في العالم الآن "الميديا". هوس بدون جوائز الظاهرة المدهشة في هذا المهرجان الكرنفالي الاستعراضي الصاخب وحجم الهوس والاعجاب والاحتشاد الرهيب الذي يصنعه النجوم الأمريكيون في المدينة الفرنسية. هم فاكهة المهرجان وفواتح الشهية ونقطة الجذب لجميع اشكال التواصل والاتصالات الجماهيرية.. وفي هذه الدورة الخامسة والستين شهدت تواجداً لنجوم بحجم نيكول كيدمان. وريز وزرلسبون وجين فوندا وروبرت دي نيرو وبروس ويليس وادوارد نورتون وبيل موراي وزاك افرون إلي جانب النجوم من الاجيال الصغيرة - صبيان وبنات - تولوا بطولة افلام "صعود مملكة القمر" و"ماد" MUD والعنوان يشير إلي اسم البطل الرئيسي "ماثيو ماكونجي" ومن ثم لا يصح ان تشير إليه بالترجمة "طين" ومغامرات الاطفال في حكايات الافلام الأمريكية المشاركة في المسابقة بديعة ولافتة جدا وجميعهم في أعمار متقاربة في سن المراهقة وجميعهم ساروا علي السجادة الحمراء بثقة وإحساس جميل بالنجاح وسط جماهير تهلل لهم ومصورين تنادي عليهم للوقوف أمام الكاميرا وفي المؤتمرات الصحفية جلسوا وكأنهم تمرسوا علي ذلك رغم انهم يظهرون لأول مرة علي الشاشة. هوليود "ولادة" بمعني الكلمة وفي رسالة سابقة ذكرت ان حيوية الصناعة الأمريكية في كونها لا تكف عن الانتاج البشري. واكتشاف المواهب الصغيرة وتسليط الضوء عليهم بعد تدريبهم جارد جيلمان وكارا هيوارد بطلا مغامرة فيلم الافتتاح صعود مملكة القمر ثم تأتي شيردان الذي لعب شخصية "ايلي" وجاكوب لوفلاند الذي شاركه البطولة في فيلم "MUD" يؤكدان هذه القدرة الإبداعية والحيوية المذهلة للصناعة الامريكية. ايضا النجم زاك افرون الذي انتقل مؤخراً من دور المراهق إلي دور الشاب الناضج والممثل الذي لعب بطولة "الصحفي" "Paper boy" أمام ماثيو ماكونجي بطل "ماد". افرون ممثل تابعناه في أكثر من عمل عرض في القاهرة يعتبر تجسيدا حياً لمعني "تربية الممثل" سينمائياً باعتباره مشروعاً فنياً استثمارياً انظر بطل "ملك الخواتم" و"هاري بوتر" و"وحدي بالمنزل" بأجزائه. وإذهب في رحلة إلي الوراء منذ بدايات هوليود وراجع قاموس الاطفال النجوم في السينما الأمريكية حتي تصل إلي واحدة من المعاني العامة في تعريف كلمة "صناعة" مثلا هناك صناعة سينما مصرية ولا توجد صناعة بأي حال في السينما العربية الأخري.. ولكن فارقاً كبيراً بين صناعة وأخري. فارق لا يمكن قطعه الآن ولا في القريب العاجل بين هوليوود الشرق. وهوليود الغرب. ومن فوائد كان بالنسبة لي شخصيا أنه يضع الناقد في قلب المشهد الحي والمتدفق بالمعاني لصناعات السينما في العالم. وللمواهب التي تصنع عقول جماهيرها. والاساتذة الكبار الذين يحولون وسيط الفيلم إلي عمل ابداعي فكري وفلسفي وإنساني ممتع. فيلم "حب" للمخرج النمساوي مايكل هينكه الذي فاز بالسعفة الذهبية أحد تجليات هذا الابداع. انه تحفة في اداء الأدوار الرئيسية للممثلة الفرنسية إمانويل ريثا والممثل جان لوي ترتيبان والاثنان يلعبان دور زوجين تخطيا سن الثمانين. وهما فنانان ومتحابان ومثقفان كزوجين ومتحضران إنسانياً إلي أقصي حد.. ولكن الزوجة تصاب فجأة بأزمة دماغية ثم بالشلل وعلي الزوج ان يواجه هذه الكارثة التي تقتضي تفرغاً وخدمة وانشغالا باحتياجات امرأة عجوز أصبحت مريضة وتحتاج رعاية فائقة. إلي جانب الابداع في الاداء هناك المعاني المركبة لمعني "الحب" في شتاء العمر. وقدرة التحمل البشري علي تحمل تبعاته وعلي دفع فاتورة الحياة التي كانت مشتركة وجميلة وسلسلة. أيضا يطرح بعمق درجات من الحب وأنواع منه في أجيال أصبحت مختلفة جداً جيل الآباء والأبناء وتمثلهم الابنة التي لعبت دورها ايزابيل هوبرت. الفيلم استحق الجائزة من أول وهلة. وبدا تأثيره العميق علي الجمهور بوضوح شديد. وعلي النقاد الذين منحوه أعلي تقدير. أيضاً فيلم "وراء التلال" الروماني ثم فيلم واقع reality خفيف الظل والمحمل بالسخرية من برامج "الميديا" وتليفزيون الواقع التي تسطو علي اهتمام الجماهير وتعيد تشكيل حياتهم. ونظرتهم إلي الحياة. وتشحنهم بالأمل الكاذب وتستغل سحر الشهرة وأثرها النافذ علي الحالمين بها وبالثروة وتلقي الضوء علي احد هذه البرامج الشهيرة وهو "الأخ الكبير" "Big Brother" والفيلم من إخراج ماتيو جاروني الذي ينقل احداثه إلي مدينة نابولي ويستحضر اجواء المدينة. ويستدعي روحها وتفردها من خلال العديد من الأسر الايطالية ومن ابناء الطبقة المتوسطة الصغيرة مثل أسرة بائع السمك "لوسيانو" بطل الفيلم انييلو ارينا وزوجته ماريا "لورندا سيميولي". وفيلم "صيد" الدنماركي للمخرج توماس فنتربرج "مواليد 1969" يطرح مشكلة ليست مألوفة تكسر بعض المسلمات الخاطئة وهي أن الاطفال أبرياء عادة ولا يمكن يكذبون.. وذلك من خلال المحنة شديدة الوطأة التي عاشها بطل الفيلم بسبب ادعاء ابنة الجيران الصغيرة التي يربطه بوالدها صداقة متينة لقد اتهمته بالتحرش بها جنسياً. ثم تداعيت هذا الخيال الطفولي المنحرف علي حياة الرجل وعلي علاقته بالسكان وبالمدرسة وبكل من يحيط به ويتعامل معه.. رحلة نفسية وعملية منهكة ومدمرة يخوضها "لوكاس" الذي يعيش وحيدا بعد طلاقه من زوجته. ويصير منبوذاً وهو برئ. رحلة من أجل استرداد الثقة والبراءة والكرامة شديدة العناء. الممثل مادس ميكلسن حصل علي جائزة أفضل ممثل بجدارة. فقدرته التمثيلية علي تجسيد الدور الصعب جعلت جمهور الفيلم يتعاطف معه بقوة ويتفاعل مع المحنة التي يمر بها. ومن المؤكد انه سيعيد النظر في تركيبة هذه الطفلة التي تقف علي مشارف المراهقة بهذا الخيال الذي يصيب "لوكاس" بالصدمة وبمشاعر الظلم والعجز في نفس الوقت إزاء طفلة فجرت هذا الموقف الذي لم يخطر بباله أبداً. هناك افلام علي درجة كبيرة من الاهمية لم تحصل علي جوائز مثل "كوزموبوليس" للمخرج الكندي دافيد كروننبرج انه أحد الافلام الصعبة في المهرجان تحتاج إلي قراءة متأنية تضع الفيلم في سياق أعمال المخرج الاخري التي يشكل بعضها احداثا فنية كاشفة عن أسلوب مختلف تماما للكتابة بالسينما والتعبير بالصورة واستخدام الخلفية السياسية والاجتماعية التي تشكل افكاره. فهو مخرج وكاتب السيناريو في آن واحد. من افلام كروننيرج "كراش" و"صدمة" "1996" وآخر أعماله قبل هذا الفيلم "منهج خطير" "2011".. عن العلاقة بين عالم النفس فرويد وزميله يونج والمرأة المشتركة بينهما وكانت مريضة وهي ايضا طبيبة نفسية.