جذبني العنوان الذي نشرته الصحف علي لسان نجم السينما الأمريكية ريتشارد جير حيث قال في ندوة أقيمت له علي هامش مهرجان القاهرة السينمائي الأسبوع الماضي : "أعشق ثقافة الشرق وأهتم بالحضارة الفرعونية القديمة". قلت في نفسي : إذا جاز لنا أن نتفهم سبب اهتمام الرجل بالحضارة الفرعونية القديمة من باب الفضول الإنساني وحب الاستطلاع.. خصوصاً إذا كان الأمر ينطوي علي الكثير من الغموض والالغاز مثلما هو الحال في الحضارة الفرعونية القديمة فماذا يا تري في ثقافة الشرق من عناصر الجذب والابهار ما جعله يعشقها؟! وكم كان بودي أن أوجه هذا السؤال مباشرة إلي جير شخصيا لعله يكشف عن أسرار في ثقافتنا لا نعرفها مازالت قادرة علي أن تجعل هذه الثقافة جاذبة ومعشوقة.. لكنني أعترف فشلت علي مدي يومين في الوصول إلي النجم الكبير بسبب ارتباطاته والتزاماته أثناء الفترة القصيرة التي قضاها في مصر. وبعد أن تأكد فشلي لجأت إلي البديل.. فأجريت استطلاعا سريعا لمجموعة من المثقفين والمبدعين والكتاب للاجابة علي هذا السؤال : ما هي العناصر الإيجابية في ثقافتنا التي أدركها ريتشارد جير ودفعته إلي أن يعشق ثقافة الشرق؟! أول من وجهت له السؤال رد ضاحكا : إنها مجرد مجاملة عابرة جاءت تحت تأثير الموقف.. فالنجم الأمريكي فوجيء بالاستقبال الحافل الذي جعل منه أسطورة.. وقد وصل الاعجاب به إلي حد "تقطيع الهدوم".. فقد تسابقت المعجبات علي الامساك به حتي تمزقت ملابسه.. وهؤلاء النجوم كثيراً ما يقولون كلاماً لا يعول عليه.. ولا يستحق التعليق.. ولو وضع في موقف آخر سيقول كلاماً مختلفاً وقد يكون متناقضا.. فلا تأخذ الموضوع علي سبيل الجد. مثقف آخر قال : ربما يقصد ثقافة الشرق زمان.. التي قرأ عنها في الكتب والروايات.. بنقائها وخصوصيتها قبل أن تدخل عليها عوامل التعرية والتجريف وتيارات العولمة ومؤتمرات السكان وهجوم الفضائيات.. ثقافة الشرق عندما كان يكتب علي كراسات التلاميذ "الجنة تحت أقدام الأمهات" و"احترم الكبير واعطف علي الصغير" و"من غشنا فليس منا" وعندما كان الشرق ينتج أغنيات عن "ست الحبايب يا حبيبة" و"بيت العز يا بيتنا علي بابك عنبتنا".. و"يا غالي علي يا حبيبي يا خويا.. يا أجمل هدية من أمي وأبويا" وأشياء كثيرة من هذا القبيل مما يدعم مفاهيم الأسرة والعائلة والوطن ويعلي قيم التعاون والايثار وشهامة أبناء البلد ومساعدة الغريب والفقير واكرام الضيف وحب الجار.. وقد لا يعرف الرجل أن عناصر ثقافتنا هذه تتآكل وتتراجع أمام زحف ثقافة الجشع والطمع والفهلوة والكذب والبراجماتية المتطرفة والتعصب للأنا علي حساب المجموع. مفكر وأكاديمي كبير قال: ريتشارد جير بالتأكيد لا يقصد أنه يعشق ثقافتنا في الشرق الأوسط وإنما يقصد ثقافة الشرق الأقصي.. ثقافة الهند والصين واليابان والبلدان المجاورة لها.. فهناك ثقافة الشرق لم تخلع رداءها بعد.. ومازالت محتفظة بسماتها المميزة وأصالتها.. تصور أنني كنت منذ أسبوع في مهمة رسمية في تايوان لتدشين مرحلة جديدة من الحوار التايواني العربي.. وكان يرافقني في تنقلاتي دبلوماسي ودبلوماسية.. وعندما هممت بحمل حقائبي لأدخل بها إلي الفندق فوجئت بالدبلوماسي التايواني المرافق ينحني ليحمل عني بعض هذه الحقائب في تواضع جم ويعطيها إلي موظفي الفندق.. وقد تعجبت بشدة من أن يصل بهم أدب استقبال الضيف إلي هذا الحد.. لذلك أتصور أن النجم الأمريكي يقصد هذا النوع الخاص من ثقافة الشرق. كاتب كبير أخذ الموضوع إلي منطقة مثيرة للجدل فقال : أظن أن ريتشارد جيريعشق الجانب الروحي في ثقافة الشرق بعد أن تحولت ثقافتهم في الغرب الي المادية الخالصة .. فنحن دائما متعلقون بالغيب وبالدين.. وإذا سألت شخصا عندنا عما سيفعله غداً سيقول لك سأفعل كذا وكذا إن شاء الله.. وهم في الغرب لا يعرفون هذه المشيئة بل يسخرون منها.. ولا شك أن هذا الارتباط القوي بين مجريات الحياة والقوة الإلهية المتحكمة في العالم هو ما يميز ثقافة الشرق ويجعل نجما مثل ريتشارد جير يعشقها.. لأنها تبعث في النفس الأمان والطمأنينة الروحية.. فهناك قوة قاهرة عادلة يحتمي بها الناس في مواجهة أي ظلم يقع عليهم.. وهذه القوة هي التي ستقتص لهم من الظالم الذي لا يقدرون عليه. كاتب كبير آخر قال : لا شك إن ريتشارد جير ذهب لزيارة الأماكن الدينية في الأزهر والحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة والإمام الشافعي.. ولمس هناك الراحة النفسية التي يريدها كل إنسان.. فهذه الأماكن تنبعث منها طاقة روحية هائلة تغسل البشر من همومهم وتجعلهم يفكرون في الآخرة وتضعهم أمام الحقيقة الأبدية والنهاية الحتمية.. وهي أمور تهون الدنيا وهمومها علي الناس.. وتأخذهم بعيداً عن صراعاتهم اليومية.. وهذه عناصر مهمة في ثقافة الشرق جديرة بأن تجعل من في الغرب يعشقونها. وأختم برأي فيه شيء من الفكاهة قاله شاعر صديق.. فمن وجهة نظره أن ريتشارد جير وأمثاله لا يعرفون الشرق إلا من خلال ألف ليلة وليلة والشاهنامة والكتب القديمة المشابهة التي تحولت بعض حكاياتها إلي أفلام ومسلسلات تصور الرجل الشرقي علي أنه "زير نساء" لا يكتفي بواحدة وإنما له الحق في أن يتقلب بين النساء كما فعل شهريار في لياليه الطوال.. وهذا ما يبرر عشق الرجل.. لثقافتنا رغم ما فيها من تخلف وافتراء كاذب. بقي أن أقول إنني لست مع الذين يقولون إن الغرب مادي والشرق روحاني.. ولست مع الذين يتعاملون مع الثقافات بمنطق النقاء العرقي.. فتداخل الثقافات وتلاقحها من طبيعة الحياة.. وهناك فرع كبير في الدراسات الإنسانية الآن يعرف ب "المثاقفة". وفي المؤتمر الذي يعقد حاليا بكلية الآداب جامعة القاهرة تحت عنوان "الموروث والوافد في الثقافة العربية" أكد أساتذة الفلسفة علي أن الموروث الثقافي يشكل أهم المقومات الحضارية للأمم والشعوب.. لكن لابد من التزاوج والتفاعل بين هذا المورث والوافد الثقافي حتي لا تفقد الأمة حيويتها. المهم في الموضوع هو ألا يتم التزاوج والتلاقح الثقافي عشوائيا.. ولا تترك خصوصيتنا الثقافية للتآكل والاندثار.. وإنما يجب إعمال العقل بصفة مستمرة لدراسة الوافد الثقافي ونقد عناصره للاستفادة من كل ما تحمله من إيجابيات تساعدنا علي نهضة أمتنا وتقدمها.